::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> خطب الجمعة

 

 

التوسط في الإنفاق ...

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان  

خطبة الجمعة 10/شوال/1429هـ الموافق 10/10/2008م

في جامع العثمان " الكويتي " بدمشق

" التوسط في الإنفاق ... "

((إن الحمد لله نحمده، ونستعين به ونستهديه  ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله، وصفيه وخليله )) ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾﴿ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً﴾ ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً﴾

أمّا بعد: فأوصيكم ونفسي بتقوَى الله، وأحثكم على طاعته والتمسك بكتابه، والالتزام بسنة نبيه ومنهاجه إلى يوم الدين ....

يقول الله تعالى : " وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا  إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا " [الإسراء:26، 27].

وجاء في حديث المغيرة رضي الله عنه  قال : سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( إن الله كره لكم ثلاثًا: قيل وقال، وإضاعة المال، وكثرة السؤال)) رواه البخاري .

أيها الإخوة المؤمنون :

ينهانا الله سبحانه وتعالى في كتابه العزيز عن الإسراف والتبذير وتجاوز الحد في الإنفاق ، وفي الوقت نفسه يدعونا إلى التوسط والاعتدال وهما من أبرز خصائص الشريعة الإسلامية . قال الله تعالى : ( ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا ) .

وقال تعالى في صفات عباد الرحمن: ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) .

هذا هو دِينُنا، ينهانا عن الإسراف والتبذير، ويأمرنا بالاقتصاد والتوسط والاعتدال في الأمور كلها، ولكن من المؤسف أن تغيبَ هذه الوسطية عن حياة كثير من الناس، فكمْ هُمْ هؤلاء الذين تورطوا في الإسراف والتبذير؟ وكأنهم لم يقرأوا قول الله تعالى في كتابه الحكيم: ( يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لايحب المسرفين ) ، وكَمْ هُمْ هؤلاء الذين تجاوزوا ما يَكْفِي ويُغْنِي إلى ما يُلْهِي ويُطْغِي؟ وكأنهم لم يَسْمعوا قَوْلَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم :((كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا، فِى غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلاَ مَخِيلَةٍ)) . وَقَولَ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنهما: "كُلْ مَا شِئْتَ وَالْبَسْ مَا شِئْتَ،  مَا أَخْطَأَتْكَ اثْنَتَانِ سَرَفٌ أَوْ مَخِيلَةٌ " .

الإسلام لم يُحَرِّم زينةَ الحياة الدنيا والطيباتِ من الرزقِ كما حرمتها بعضُ الديانات والفلسفات، وإنما حَرَّمَ الاعتداءَ والطغيانَ والإسرافَ والتبذيرَ في الاستمتاع بها، يقول الله تعالى: :( قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا خالصة يوم القيامة كذلك نفصل الآيات لقوم يعلمون) .

ويقول تعالى: ( يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين، وكلوا مما رزقكم الله حلالا طيبا واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ) .

إن الله جل وعلا أنعم علينا نعماً عظيمة كثيرة، وتفضل علينا بخيرات وفيرة، فكان من ذلك أن أغنانا بعد فقر، وأطعمنا بعد جوع، وفتح لنا من أبواب الخير وسُبل الرزق مالم يخطر لنا على بال، فلنشكر الله تعالى على ذلك حق الشكر، وذلك بالمحافظة على تلك النعم وعدم استخدامها بِشَكْلٍ فيه إسراف أو تبذير، لأن الله جل شأنه سيسألنا عن هذه النعم ( ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ ) ، والنعيمُ المسؤول عنه نوعان:

 نَوْعٌ أُخِذَ مِنْ حِلِّهِ، وصُرِفَ في حَقِّهِ، فيسألنا عن شكره، ونوع أُخِذَ بَغير حِله، وصُرِفَ في غير حقِّهِ، فيسألنا عن مستخرجه ومصرفه. قال سيدنا معاوية رضي الله عنه : "ما رأيتُ تبذيراً إلا وإلى جانبه حقٌ مُضَيَّعٌ".

مظاهر الإسراف والتبذير :

-  ومن مظاهر السَّرَفِ والتبذير في حياة الناس اليوم إنفاق الأموال الطائلة في المراكب والملابس والمساكن والأعراس، فتجد أقواماً تحمَّلوا الديونَ العظيمة، ليحصل أحدهم على السيارة الفارهة أو الثوب الزاهي أو المسكن الفاخر، تكاثراً وتفاخراً، وقد يستدين البعض بالربا ليقيم عُرْساً ينفق فيه مئات الألوف من الدراهم مباهاة ومفاخرة، ويرمي بأطنان الطعام والشراب في القمامة والنفايات، ومَلايِِينُ الناس مشردون هنا وهناك لا يؤويهم مسكن ولا يجدون ما يقتاتون به.

أمَا يُدْرك هؤلاء الَّذينَ يستدينون في أبواب السرف والترف أن الدَّيْن هَمٌّ بالليل وَمَذَلَةٌ في النهار؟! قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( إياكم والدَّين فإنه همٌّ بالليل ومَذَلَةٌ في النَّهارِ)) .

 بل إن المدين يفقد حريته كما ورد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوصي رجلاً وهو يقول: (( أَقِلَّ مِنَ الذنوب يَهُنْ عليك الموتُ، وأَقِلَّ مِنَ الدَّيْن تَعِشْ حُراً)) .

وعنه رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( الدَّيْنُ رايةُ الله في الأرض، فإذا أراد أَنْ يُذِلَّ عبداً وضَعها في عُنُقه)) .

- ومن مظاهر الإسراف والتبذير أن نُضَيِّعَ المال الذي تفضَّل الله به علينا في السرف والترف واللهو الفجور وغير ذلك من المعاصي الموبقات، فعن المغيرة رضي الله عنه قال: سمعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( إن الله كره لكم ثلاثاً: قيلَ وقال، وإضاعةَ المال، وكثرةَ السؤال)) .

فلنقتصد ولنتوسط  في الإنفاق وفي شتى الأمور، ولنعد للسؤال جواباً، فإن الله سائلنا عن هذا المال من أين اكتسبناه وفيمَ أنفقناه، فعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : « لاَ تَزُولُ قَدَمَا ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ عَنْ عُمْرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَ عَلِمَ » .

- ومن مظاهر الإسراف والتبذير الإسراف في الطعام والشراب :

قال الله عز وجل:  " وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ  " [الأعراف:31].

قال بعض العلماء: جمع الله بهذه الآية الطب كله  .

وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { ما ملأ ابن آدم وعاءً شرّاً من بطن، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة فثلث لطعامه، وثلث لشرابه، وثلث لنفسه } [أخرجه أحمد:4132].

-  ومن مظاهر الإسراف والتبذير الإسراف في استخدام المرافق الحيوية التي تقوم عليها حياة الناس اليوم من ماء وكهرباء ونحو ذلك، فالماء الذي هو أرخص موجود وأعز مفقود يُهْدر بالكميات الكبيرة الهائلة والنبيُّ صلى الله عليه وسلم نهى عن الإسراف في الماء ولو كان استعمالُه في عبادة فضلاً عن غيرها، فعَن عبد الله بن عمرو (( أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مَرَّ بِسَعْدٍ وهو يتوضأ فقال: ما هذا الإسراف؟ فقال: أفي الوضوء إسراف؟! قال: نعم ، وإن كنتَ على نهرٍ جارٍ)) .

 

-و من مظاهر الإسراف والتبذير الإسراف في الكهرباء :

يؤدي الإسراف الزائد عن الحد في استهلاك الكهرباء إلى زيادة الحمل الملقى على عاتق محطات توليد الكهرباء.وهذا معناه زيادة في استهلاك الوقود المستخدم لأغراض التوليد, وبالتالي زيادة في تلوث الهواء بسبب حرق كميات كبيرة من الوقود. وكذلك زيادة في استهلاك مياه التبريد لمعدات التوليد ومن ثم التلوث الحراري للمسطحات المائية التي تصب فيها مياه التبريد .

- ومن مظاهر الإسراف والتبذير الإسراف في الماء :

يُجمع كثير من الخبراء الدوليين على أن الحروب القادمة سوف تكون حروب مياه تقع بسبب التنافس على هذا المصدر الحيوي. إن كثيراً من الحروب السابقة مع فظاعتها كانت لأسباب تافهة، فكيف لنا أن نتصور حروباً تقوم بسبب الماء.. المصدر الأقصى أهمية والأغلى على وجه الأرض.

إن أقل الواجبات المتحتمة على كل فرد يعيش في هذا الوطن أن يحافظ على هذه الثروة الغالية النادرة...

ولا ينبغي أن يفوتنا أهمية المياه كما وردت الإشارة إليها في القرآن الكريم :

قال تعالى: {و جعلنا من الماء كل شيءٍ حي}.

 قال تعالى: {قل أرأيتم إن أصبح مآؤكم غوراً فمن يأتيكم بماءٍ معين}.

الخاتمة :

خلاصة القول : سيبقى هذا الكلام نظرياً ما لم ندرك ثلاثة أمور مهمة :

1- مراقبة الله تعالى ، عملاً بقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : " أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " .

2- الإحساس بشعور الآخرين والتعاون معهم ، عملاً بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً " .

3- الانتماء إلى الوطن قلباً وقالباً ، لأن حب الوطن من الإيمان .

اللهم عرفنا النعم بدوامها ، وبارك لنا فيما رزقتنا . والحمد لله رب العالمين

أقول هذا القول و أستغفر الله العظيم .

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 10211

 تاريخ النشر: 10/10/2008

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 625

: - عدد زوار اليوم

7395231

: - عدد الزوار الكلي
[ 50 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan