::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> كلمة المشرف

 

 

الجهاد الأكبر- جهاد النفس والهوى- ( 2 )

بقلم : الشّيخ محمد خير الطرشان "المشرف العام"  


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللّهم افتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نقوله حجة لنا ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

وبعدُ أيّها الإخوة الكرام: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

حديثنا يدور حول مجاهدة النفس، هذا الموضوع الذي ينطلق من قول الله سبحانه وتتعالى:[]والَّذينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لمََعَ المُحْسِنِينَ[] سورة العنكبوت (69). هذه الآية أيها الإخوة قال فيها المفسرون: إنها جهاد النفس، وإذا ذُكِرتْ كلمة الجهاد والمجاهدة، فإنها تعني استفراغ الوُسع في دفع العدو، أو دفع الشيطان، أو دفع النفس. ورد في الحديث عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:"المجاهد من جاهد نفسه في سبيل الله عز وجل". مسند أحمد. الواقع أيها الإخوة أن الآيات التي جاءت تتحدث عن جهاد النفس، وجهاد الأعداء، وجهاد الشيطان كثيرة جداً، ويعنينا هنا أن نتناول جهاد النفس الذي هو الجهاد الأكبر.

^ معنى مجاهدة النفس:  

علمنا أن الصحابة - رضي الله تعالى عنهم - لما رجعوا من إحدى الغزوات قالوا:"رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر". ألا وهو مجاهدة النفس، وقمع شهواتها، والوقوف أمام الشيطان الذي يوسوس للنفس حتى تتّبع الشهوات. والإمام البوصيري - رحمه الله تعالى - جمع هذين الأمرين في بيت واحد من قصيدته المشهورة (البُردة)، فقال في ذلك:

وجاهدِ النفسَ والشيطانَ واعْصِهِما        وإنْ هما محَـضاكَ النُّـصحَ فاتَّهِمِ

لا تطعهما أبداً! لا النفس ولا الشيطان؛ لأنهما لا يقودان الإنسان إلى ما فيه الخير ، بل إنهما يحملان الإنسان على فعل الشر، والعياذ بالله تعالى، فمن أطاع نفسه، وأطاع هواه، وأطاع شيطانه، فلا شك أنه سيصل إلى نتيجة غير مرضية، كذلك الإمام البوصيري - رحمه الله تعالى- قال:

والنفسُ كالطفلِ إن تهملْه شَبَّ على       حبِّ الرَّضاعِ وإنْ تفـطمْهُ ينفطمِ

فقد شبه النفس بالطفل الرضيع، إن تركناه يتعودُ الرضاعة من أمه؛ فإن هذه الحالة تعجبه، فيحب الاستمرار على شرب الحليب الدافئ المغذِّي، ولا يتركه أبداً، وإن أوقفناه عن رضاعة الحليب؛ فإنه ينفطم، ويتعود ترك ثدي أمه. إذاً.. المجاهدةُ: نوعٌ من السيطرة على النفس، ونوع من قمعِ شهواتها، وجعْلِها تسير في الاتجاه الآخر. فإن أرادت نفسك السير في اتجاه المعاصي، فإنك تجاهدها، وتقمعها على أن تسير في الاتجاه المعاكس، ألا وهو اتجاه الطاعات، واتجاه البر والخيرات، والجهاد والمجاهدة نوع من تزكية النفس. فمجاهدة نفسك هي تزكيتها، والله - سبحانه وتعالى - وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - بأنه جاء إلى هذه الأمة ليتلوَ عليهم آيات الله، ويزكيهم، أي يعلّمهم مجاهدة النفس، وتزكيتها، وإصلاحها، والانتقال بها إلى مرحلة أرقى وأحسن. وقد قال بعض أهل العلم:"المجاهدة هي الارتقاء بالنفس إلى درجة أسمى وأرقى مما كانت عليه".

^ كيف تتحقّق من قيامك بمجاهدة نفسك؟

إن أردت أن تعرف نفسك هل تعيش حالة من المجاهدة أو لا؛ فانظر: هل ارتقيت؟ أو لا زلت كما أنت؟ هل ارتقت نفسك؟ هل تطورت حالها؟ هل حدث تحسُّن في ميزان الأعمال الصالحة؟ أو أنها لا زالت كما هي؟ فإذا كنت تشعر بارتقاء في نفسك؛ فهذا يعني أنك سيطرت على نفسك، وتغلبت علبيها، أما إذا كانت نفسك على ما هي عليه؛ فهذا يعني أنك لا تجاهد نفسك، ولا تحاول السيطرة على شهواتها، أو شهوات الشيطان ووسوسته. إذاً.. ليس المراد بمجاهدة النفس أن تستأصل نفسك، وأن تميتها على الإطلاق، لا! إنما مجاهدة النفس محاولة الارتقاء بها من السيئ إلى الحسن، ومن الحسن إلى الأحسن، وهكذا تنتقل من درجة إلى درجة، حتى تصل إلى مرحلة تصبح فيها نفسُك منقادة إلى الخير وفعله، بعيدة عن الشر، والهوى، والشهوات، والملذات.

^ الغضب كمثال عن مجاهدة النفس:

الغضب أيها الإخوة المؤمنون ظاهرة بشرية إنسانية، وهو عادةً ظاهرة مذمومة، وعندما تغضب لنفسك يكون ظاهرة مذمومة. لكن حينما يغضب الإنسان لله؛ فإن هذا الغضب يكون ظاهرة ممدوحة، وسأضرب لك مثالاً توضيحياً على ذلك: حينما يغضب الإنسان إذا انتهكت محارم الله، أو إذا سمع كلمة الله - سبحانه وتعالى - تُسبّ، أو تشتم، أو لا تقدَّس، ولا تنزَّه، كما هو حال كثيرٍ من الناس اليوم، والعياذ بالله، هؤلاء الناس حينما تثور ثائرتهم، فإنهم لأتفه الأسباب يشتمون الله تعالى ويسبونه ولا يقدّسونه، وهذا من الأمراض الاجتماعية السلوكية الخطيرة التي يقع بها كثيرٌ من الناس، سواءٌ كان عن طريق الجهل، أو عن طريق التصميم، أي عندما تكون مصمماً على هذا الشيء، وتنوي الإهانة، وتنوي الشتيمة، بل إنك قد تعودت على هذا الخلق السيئ. إذاً.. حينما تغضب لنفسك؛ فإن هذا الغضب مذموم، وحينما تغضب لله سبحانه وتعالى؛ فإن الغضب في هذه الحالة ممدوح، فعندما تسمع إنساناً يشتم الله سبحانه وتعالى، ويسبه، فإن إيمانك يتحرك في داخلك، وتغضب لله سبحانه وتعالى، وتدافع عن سلطانه وجبروته، وعن قداسته وعظمته, هذا الغضب غضب ممدوح وصفة ممدوحة، وكان النبي - صلّى الله عليه وسلّم - إذا غضب لله، احمرّ وجهه، وانتفخت أوداجه[1]، وظهرت عليه آثار الغضب لله سبحانه وتعالى. إذاً.. حينما يغضب الإنسان لله؛ فهذا الغضب غضب ممدوح، وليس غضباً مذموماً، وقد حصل مع النبي - صلّى الله عليه وسلّم - حينما أوذي في الطائف، وذلك لما ذهب إليها يرتجي نصرة ثقيف، وكان قد أُخرج من مكة، وأسيء إليه إساءةً كبيرة، فقصد أهلَ الطائف لعلهم ينصرونه ويؤيدونه، فإذا بهم يغرون به صبيانهم وسفهاءهم، فيرمونه بالحجارة، فيخرج من الطائف وقد سالت الدماء من عقبيه الشريفتين، صلّى الله عليه وسلّم، هنا لو كان أي إنسان مكان النبي صلّى الله عليه وسلّم، لثارت ثائرته، ولغضب لنفسه. تُرى.. ماذا فعل النبي عليه الصلاة والسلام؟ جاءه ملك الجبال وقال: يا محمد: إن الله تعالى أمرني أن أُطبِق عليهم الأخشبَين[2]، فإن شئت فعلت. ماذا كان رد النبي عليه الصلاة والسلام؟ هل غضب لنفسه؟ هل ثارت ثورته لنفسه انتقاماً من أهل ثقيف؟ كان بوسعه ذلك، لكن.. تصوروا هذا الجواب: قال:"بلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّه مِنْ أَصْلابِهِم منْ يعْبُدُ اللَّه وَحْدَهُ لا يُشْرِكُ بِهِ شَيْئاً".متفقٌ عليه. هكذا كان جواب النبي صلّى الله عليه وسلّم. وفي موضع آخر قال:"اللَّهمَّ اغْفِرْ لِقَوْمي فإِنَّهُمْ لا يعْلمُونَ". متّفق عليه. لو كان يريد الانتصار لنفسه، لدعا على قومه، وعلى من ضربه، وعلى كلّ من أساء إليه، لكنه - صلّى الله عليه وسلّم - حلم على هؤلاء القوم، وصبر وجاهد نفسه، ولم يغضب لنفسه، إنما كان غضبه لله سبحانه وتعالى. إذاً أيها الإخوة الأكارم.. هذا مثال توضيحي للفرق بين الغضب للنفس والغضب لله سبحانه وتعالى, فحينما يغضب الإنسان لنفسه، فإنه لا يسيطر عليها ولا يجاهدها، وحينما يجاهد نفسه، يكبحها ويسيطر عليها، ويحول غضبه لله سبحانه وتعالى إذا انتهكت محارمه، أو أسيء إلى القداسة الربانية، أو إلى النزاهة الإلهية كما هو واجب في إيمان المؤمن.

^ كيف يجاهد الإنسان نفسه؟  

أ- ألا يرضى عنها:

وصف الله - سبحانه وتعالى - نفس الإنسان بقوله:[]...إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ...[] سورة يوسف (53). لذلك.. يجب ألا تكون راضياً عن نفسك، فبمجرد ما تشعر بالكِبْر والشّموخ، وبالرضا عن نفسك، فاعلم أنك لست مجاهداً لها، واعلم أنّ نفسك لم تنزل بعد في درجة المجاهدة والمخالفة, لذلك قال الله - سبحانه وتعالى - في وصف هذه النفس:[]...إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ...[] سورة يوسف (53). هذه النفس توسوس للإنسان حتى يفكر في فعل الشر والمعاصي، وفي ارتكاب المحظورات التي نهى الله عنها، لكن كما أن النفس أعظم قاطع عن الله سبحانه وتعالى، كذلك هي أعظم مُوصِل إليه، فحينما تسيطر على نفسك وتجاهدها؛ فإنها تتحول من حالة القطيعة بينك وبين الله إلى حالة الوصال معه، لكن كيف ذلك؟ هذه النفس حينما تكون أمارة بالسوء، فإنها لا تتلذذ إلا بفعل المعاصي والمخالفات، لكنك بعد مجاهدتك نفسَك وتزكيتها، تصبح هذه النفس راضيةً مرضية، لا تسرّ إلا بالطاعات والموافقات، ولا تستأنس إلا بالله سبحانه وتعالى، فتتحول من نفس أمارة بالسوء إلى نفس راضية مطمئنة، لذلك قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:"في القلب وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله". فالقلب عندما بلا ذكر لله تعالى، وبلا صلة معه، فإنه يعيش حالة الوحشة، ولا يمكنك أن تزيل هذه الوحشة إلا إذا أنِستَ بالله سبحانه وتعالى، لن تزيلها إلا إذا كان الله - سبحانه وتعالى - أنيسك، ويملأ عليك قلبك حباً، وإيماناً، وصلة به سبحانه وتعالى.

ب- أن يبحث عن عيوبها قبل النظر إلى عيوب الآخرين:

إذا اكتشف المسلم عيوب نفسه، وصدَق في طلب تهذيبها، لم يعد عنده مجال للانشغال إلا بعيوب نفسه، فطالما أنك سيطرت على نفسك، فهذا يعني أنك سيطرت على عيوبها، فلم تعد تشتغل بعيوب الناس، وعادة كثير من الناس أنهم يرون في أنفسهم الكمال، فترى أحدهم يقول: والله أنا بلغت درجة الكمال، إذاً.. فلْأبحثْ عن عيوب الآخرين ونقائصهم وزلاتهم. يقول الإمام أحمد الرفاعي رضي الله تعالى عنه:"زرتُ شيخي، وبِتُّ عنده ليلةً كاملةً، فلما أردت الانصراف قلت له: أوصني يا سيدي. فقال لي: يا أحمد: ملتفتٌ لا يصل، ومشككٌ لا يفلح، ومن لم يدرك النقصان من نفسه فكل أوقاته نقصان". شاهدنا في الجملة الثالثة: من لم يدرك النقصان من نفسه فكل أوقاته نقصان، إن لم تدرك عيوب نفسك بنفسك، فهذا يعني أنه ينبغي عليك أن تعيد النظر في كل أمور حياتك، أَعِدِ النظر في تصرفاتك وأحوالك، أعد النظر في علاقاتك الاجتماعية، أعد النظر حتى في عبادتك؛ لأنك لم تدرك النقص في نفسك. إن أنت سلّطت المجهر على عيوب الآخرين، فسترى عيوباً كثيرة، لكن يا تُرى.. إن سلّطت المجهر على عيوب نفسك، فماذا تَرى؟ المنصف هو الذي يرى في الناس محاسن أعمالهم، ويرى نفسَه كلَّها عيوباً، فيرى فيها مساوئَ أعماله، ويحاول أن يجاهدها، ويسيطر على هذه المساوئ، ويتّبع تلك المحاسن التي يراها عند الناس. ورد عن بعض الشّعراء هذا البيت:

و لا ترَ العيبَ إلا فيـك معتـقِداً        عيباً بدا بيّـِناً لـكنـه اسـتترا

ومعنى ذلك: لا تنظرْ إلى نفسك إلا وتجد فيها عيوباً واضحة، فإذا كانت هذه العيوب قد استترت عن الناس، وأنت كشفتها، فحاول وجاهد أن تتخلص منها. قال بعض الصالحين قوله:"لا ترَ عيب غيرك ما دام فيك عيب، والعبد لا يخلو من عيب أبداً". إذاً.. علينا ألا ننشغل بعيوب الآخرين وتنسى عيوب أنفسنا، فالإنسان ممتلئ بالعيوب، وإذا فكر الإنسان في عيوبه فإن ذلك يكفيه, يكفيه أن يعيش وهو يفكر في عيوب نفسه، وكيف ينبغي أن يتخلص منها. إذاً.. على الإنسان أن يسيطر على نفسه، وأن يسيطر على عيوبه، وأن ينشغل بإصلاح هذه العيوب، ويترك الناس وعيوبهم. أيضاً مما ورد عن بعض الصالحين:"إذا رأيت أحداً من الناس قد صرف وقته في إحصاء أخطاء الآخرين، وغفل عن عيوب نفسه، فهو جاهل". فالنفس هي أكبر قاطعٍ عن الله سبحانه وتعالى.

^ القواطع عن الله تعالى أربعة:

قال العلماء:"القواطع عن الله أربعة: النفس، والدنيا، والشيطان، والخلق". هذه الأمور الأربعة تقطع الصلة بالله سبحانه وتعالى.

أ+ب النفس والشيطان:

أمّا عداوة النفس والشيطان: فظاهرة دائماً، فهما يوسوسان للإنسان، يحركانه نحو فعل المعاصي، وارتكاب السيئات، والوقوع في الشر, النفس والشيطان يتعاونان معاً على الإنسان؛ لكي يغرق في المعاصي والشهوات والزلات، وكل ما غرق الإنسان بهذه الأشياء، فإن النفس تستقرّ بأنها سيطرت على صاحبها, والشيطان يستقر أكثر فأكثر، فيرى أن هذا الإنسان قد أصبح جنداً من جنوده.

جـ- الخَلق:

أما الخلق: فملاحظة مدحهم وذمهم تعرقل سيرَ السالك إلى الله. فتحمل هم فلان إن لم تمدحه، وتحمل همه أكثر إن انتقصت منه. فانشغالك بالخلق انصرافٌ عن الخالق, فإذا انشغلت عن الخالق بالخلق فهذا أحد القواطع التي قطعتك عن الله سبحانه وتعالى.

ء- الدنيا:

وأما الدنيا: فإن الاهتمامَ بها، وانشغالَ القلب بتقلباتها، يُعَدُّ قاطعاً كبيراً عن الله سبحانه وتعالى. ففي حالة الفقر، تكسو الهمومُ الإنسانَ، فتشغله عن الله سبحانه وتعالى، فهو مشغول دائماً، كيف يُنقذ نفسه من هذا الفقر، كيف يحسّن أحواله، وكيف يحقق آماله وأحلامه. وفي حال الغنى، ينشغل بزينة الدنيا وزخرفها. الفقير لا يجد ما ينشغل به إلا التفكير والهموم، والغني مشغول بجمع المال وعدّه، مشغول دائماً بأمواله، مشغول بزينة الدنيا وحطامها الفاني، وهذا يصرفه عن الله سبحانه وتعالى. يقول الله تعالى في وصف الإنسان الذي يصل إلى هذه الحالة:[]كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى (6) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (7)[] سورة العلق. إذا حسب الإنسان أنه استغنى عن الله سبحانه وتعالى، فهذا من باب الطغيان، ومن بابِ تجاوزِ الحدّ، والوقوع في المعاصي، والعياذ بالله تعالى. رحم الله إمامنا عبد القدر الجيلاني، حيث قال كلمة رائعة:"أخْرجِ الدنيا من قلبك، وضعها في جيبك أو في يدك، فإنها لا تضرك". إن كانت الدنيا بين يديك، فإنك تتلاعب بها كيف تشاء، وإن كانت في قلبك، فإنها هي التي تتلاعب بك كيف تشاء, فأخرجها من قلبك، وضعها في جيبك أو في يدك، ثم تصرّف بها كما يحلو لك.

^ الجوارح السّبع: معاصيها، ومجاهدة هذه المعاصي:

أ- ما هي الجوارح السبع؟

إنّ أول طريقة من طرق السير إلى الله سبحانه وتعالى، أن تتخلى عن المعاصي التي تتعلق بالجوارح السبع، ما هي هذه الجوارح السبع؟ إنها اللسان، الأذنان، العينان، اليدان، الرجلان، البطن، والفرج. هذه سبع جوارح تتعلق بها معاصي الإنسان التي ينبغي أن يتغلب عليها ويجاهدها.

ب- ما هي المعاصي المتعلقة بالجوارح السبع؟

لكل جارحة من هذه الجوارح السبع معاصٍ تتعلق بها:

1- معاصي اللسان:

من معاصي اللسان: الغيبة، النميمة، الكذب، الفحش، السبّ، الشتم، والقذف، وعدّد ما شئت من هذه الصفات.

2- معاصي الأذنين:

من معاصي الأذنين: سماع الغيبة، سماع النميمة، سماع الأغاني الفاحشة، والموسيقى الصاخبة، وآلات اللهو والطرب، وما يُخرج القلبَ عن الصلة بالله سبحانه وتعالى.

3- معاصي العينين:

من معاصي العينين: النظر للنساء الأجنبيات، والنظر في عورات الرجال، والنظر لكل شيء حرمه الله سبحانه وتعالى.

4- معاصي اليدين:

من معاصي اليدين: إيذاء المسلمين، وقتلهم، وأخذ أموالهم بالباطل، ومصافحة النساء الأجنبيات، وهذه مسألة يتهاون بها كثير من الناس، فيقول لك: لا تتشدّد، هذه ليست مشكلة! وهناك بعض المفتين قد أفتوا بإباحتها. فإذا كان ورد قول أن سيدنا أبا بكر - رضي الله عنه - قد صافح امرأة عجوزاً في التسعين من عمرها، فإنهم يعدّون هذا القول أصلاً، وبقية الأقوال الثابتة، الصحيحة، والّتي تحرّم مصافحة المرأة بالنّسبة للرجل يعدّونها الفرع. إذاً.. فلنتنبّهْ إلى هذه المسألة جيداً.

5- معاصي الرجلَين:

 

من معاصي الرجلين: المشي إلى محلات المنكرات والفجور, كثير من الناس ابتُلوا بهذه الظاهرة، والعياذ بالله! يقصدون محلات الخنا، محلات الفجور، محلات الفسق، الملاهي الليلية التي يُعصى الله تعالى فيها جهاراً.

6- معاصي البطن:

من معاصي البطن: أكل المال الحرام، أكل لحم الخنزير، شرب الخمور والمنكرات؛ كالمخدرات، والمسكرات، والمفتّرات التي تسيطر على العقول، بل وتذهبها ذهاباً كاملاً.

7- معاصي الفرْج:

من معاصي الفرج: الزنا، واللواط؛ وهما من أمراض هذا العصر، حيث كثرت الدعوة إلى الإباحية، وأصبحت هناك قنوات فضائية، وأماكن تروّج لهذه الفواحش الخبيثة، نسأل الله تعالى أن يعافينا جميعاً منها.

جـ- كيف تتم مجاهدتها والتخلص منها:

هذه جوارح سبع، وكل عضو منها له معاصٍ، وفي المقابل.. يمكن بمجاهدة النفس أن نستبدل الطّاعات بهذه المعاصي، فمثلاً:

1- طاعات اللسان:

قلنا إن معاصي اللسان هي الغيبة، النميمة، الكذب، الفحش، قول الزور، وشهادة الزور، وغير ذلك... فمن طاعات اللسان: قراءة القرآن، ذكر الله تعالى، الأمر بالمعروف، النهي عن المنكر، الصلة بين الناس، والإصلاح بينهم. إذاً.. يمكن أن يقوم بهذا اللسان على النقيض من الجانب الآخر، فبدلاً من أن تسبّ الناس، أصلح بينهم، وبدلاً من الغيبة والنميمة، اذكر الله سبحانه وتعالى، وأكثرْ من الصلاة والسلام على سيدنا رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.

2- طاعات الأذنين:

من طاعات الأذنين: سماع القرآن الكريم، والأحاديث النبوية الشريفة، وسماع النصائح والمواعظ والدروس الدينية. فبدلاً من أن يستخدم الإنسان أذنيه في سماع الأغاني، والموسيقى، والصخب، والضجيج، يستخدمهما في سماع ما فيه طاعة، وما فيه خير، وما فيه تقرب إلى الله سبحانه وتعالى.

3- طاعات العينين:

من طاعات العينين: النظر إلى وجوه العلماء والصالحين، والنظر إلى الكعبة المشرفة، والنظر بتأمل إلى الآيات الكونية، حيث خلق الله سبحانه وتعالى هذه الآيات لتزيدك قرباً منه سبحانه وتعالى، فلا تتبع نظرك في المحرمات، واستبدل هذا النظر بأن تنظر في ما يدعوك إلى تسبيح الله، وذكر آلائه العظمى والكبرى.

4- طاعات اليدين:

من طاعات اليدين: مصافحة المؤمنين فيما بينهم. ورد في الحديث عن النبي صلّى الله عليه وسلّم:"إذا لقي الرجل أخاه، فصافحه، رُفعت خطاياهما على رؤوسهما، فتحاتّت[3] كما تتحاتّ أوراق الشجر". شرح النووي على صحيح مسلم.كذلك إعطاء الصدقات، أن تعطي بيمينك ما لا تعلم شمالك.

5- طاعات الرّجلَين:

من طاعات الرجلين: أن تمشي بهما إلى المساجد، وإلى مجالس العلم، وأن تعود المرضى، وأن تصلح بين الناس، فبدلاً من أن تقصد بهما ملهى، أو مكاناً للفحش والعياذ بالله تعالى، فإنك تقصد المسجد، وتقصد مكان العبادة، والطاعة، والبر، والإحسان.

6- طاعات البطن:

من طاعات البطن: أن تأكل الطيّب من الحلال، وتنوي به التقوّي على طاعة الله. أيها الإخوة الكرام: هناك بعض العادات في حياتنا اليومية، إذا أردت أن تحولها عبادات، فإنها تتحول بالنيات. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى". صحيح البخاري. فمثلاً: أنت معتاد على الأكل في اليوم ثلاث مرات, فإذا سَبَقْتَ هذه العادة بالنيّة على أن تتقوى بهذا الطعام على طاعة الله تعالى، فإن هذه العادة تتحول إلى عبادة. كذلك النوم، النوم يكون لراحة الجسد، وإعطائه حقَّه, فإذا أردت أن ترتاح، ونويت بهذا النوم أن تتقوى على صلاة الفجر، أو أن تتقوى على طاعة الله سبحانه وتعالى، فإنك تُثاب وأنت نائم، وبذلك يحصل لك ثواب كبير من الله سبحانه وتعالى.

7- طاعات الفرْج:

من طاعات الفرج: الزواج المشروع بنية الإحصان، وبنية الإعفاف عن الحرام، وبنية التكاثر من النسل. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لما سئل من قبل بعض الصحابة: أيأتي أحدنا امرأته وله بذلك أجر؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"لو وضع في الحرام أليس كان عليه وزر؟ فكذلك إن وضعها في الحلال كان له أجر". الترغيب والترهيب عن أبي ذر (باب إماطة الأذى). هذه الأشياء يمكن أن يستبدلها الإنسان بالمعاصي، فيفعل بجوارحه السبع طاعاتٍ بدلاً من أن يأتي بها سيئات ومعاصي، وهذا كله يعد من باب تزكية النفس.

^ الخلاصة:

أيها القراء الأعزاء: خلاصة القول في مجاهدة النفس: إنها فَطْمٌ للنفس، وحَمْلٌ لها على خلاف هواها، فهي بضاعة العُبّاد، ورأس مال الزهّاد، ومَدار صلاح النفوس، ومِلاك تقوية الأرواح، وتصفيتها، ووصولها إلى حضرة ذي الجلال والإكرام. فإذا أردت أيها الأخ المؤمن أن تصل إلى حال المجاهدة للنفس مجاهدة حقيقة، وأن تمنعها عن هواها، وأن تسيطر عليها؛ فإنك تسلك الطريق  الصحيحة الموصلة إلى الله سبحانه وتعالى. قال الله تعالى:[]وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ[] سورة العنكبوت (69) لنهدينهم: لنهيّئنّ لهم السبل، والطرق الموصلة إلى الله سبحانه وتعالى. قال أحد العلماء:"من لم تكن له بداية محرقة، لم تكن له نهاية مشرقة". البداية المحرقة تكون بالمجاهدات، بكسر النفس، وكسر شهواتها وأهوائها. أيضاً قول آخر:"من أشرقت بدايته أشرقت نهايته". أيضاً:"البدايات تدل على النهايات".

^ دعاء:

نسأل الله - سبحانه وتعالى - أن يجعلنا ممن يجاهدون أنفسهم، ويسيطرون عليها، ويجعلنا ممن أشرقت بدايتهم ونهايتهم. اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول، فيتبعون أحسنه، اللهم إنك عفو كريم تحب العفو، فاعفُ عنا يا أكرم الأكرمين. رحمتَك نرجو، فلا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقل من ذلك. وأصلح لنا شأننا كله، واكفنا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك،. وبفضلك عمن سواك. والحمد لله رب العالمين. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

 

 



1. أوداجه: عروقه.

2. الأخشبان: هما الجبلان.

3. تحاتّت: تساقطت.

حلقة من برنامج "نور على نور"

أذيعت بتاريخ 13/11/1428هـ- 22/11/2007 م

كل الشكر والثناء والدعاء

 لمن قام بتفريغ الحلقة وكتابتها وتنسيقها

 

 التعليقات: 1

 مرات القراءة: 4231

 تاريخ النشر: 21/03/2009

2009-03-23

عامر أبوغرة

ما أحوجنا نحن الشباب لمثل هذه الكلمات وجل المشاكل التي نقع فيها هي من انصياعنا الكامل لانفسناوعدم مجاهدةهذه النفس جزاكم الله خيراكثيراونأمل منكم التوجه للشباب ومشاكلهم وكيفية الوصول الى الطريق الصحيح

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1365

: - عدد زوار اليوم

7398195

: - عدد الزوار الكلي
[ 72 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan