::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مقالات متنوعة

 

 

العربية لغة العلم

بقلم : د.محمد حسان الطيان  


د.محمد حسان الطيان
رئيس مقررات اللغة العربية في الجامعة العربية المفتوحة بالكويت

وعضو مجمع اللغة العربية بدمشق


 

يحلو لبعض المثقفين في عصر العولمة أن يجردوا العربية من أي فضيلة أو مكرمة، وأن يلصقوا بها كل نقيصة أو مذمة، غافلين أو متغافلين عما تتمتع به العربية من مزايا وخصائص، وناسين أو متناسين أنها كانت لغة العلم والحضارة، لا يكاد فن من فنونه يكتب إلا بها، ولا يتعلم إلا بواسطتها، ولا ينشر إلا تحت لوائها.

ويقيني أن أمثال هؤلاء إنما أُتي إما من انبهار بما حققته الإنجليزية من تقدم وانتشار وقدرة على التعبير عن العلوم والفنون والشؤون الحضارية. وإما من إحباط بما تردَّتْ إليه العربية بل أصحابها من تأخر وانحسار وعجز عن التعبير عن متطلبات الحضارة الحديثة في العلم والفن وما إليهما.

وبادئَ بَدْءٍ أقول لهؤلاء وأمثالهم:
فــيا قـــائـــلاً هـــــذا بــدون تـحـقّـــــقٍ أنـك لا تـدري ولا أنت تعـلـمُ

فإن كنتَ لاتدري فتلك مصيبة وإن كنتَ تدري فالمصيبة أعظمُ
إي و ربي إنها لمصيبة حقاً ألا يعلم هؤلاء أن العربية من اللغات القلائل الثابتة الأصول المتينة البنيان الممتدة العمر ، يفهم الآخر فيها ما كتب الأول, وتمخر نصوصها عبر العصور والقرون ، ويتواصل أبناؤها عبر الزمان والمكان ، فما كتبه امرؤ القيس ، والنابغة ، وعنترة في أقدم عصورها ، حاضر ماثل اليوم يتغنى به الشعراء والكتاب ، بل يتعلمه التلاميذ والطلاب ، ويسير في الناس مسير الأمثال .

على حين لا يفهم الإنجليزي اليوم ما كتبه شكسبير وأمثاله قبل بضع مئات من السنين ! فأين من أين ؟ بل أين من لا أين ؟؟.

وإنها لمصيبة حقاً أن يتعامى هؤلاء عن أن هذه العربية حملت لواء العلم زهاء عشرة قرون بعد أن جبيت إليها ثمار العلوم والفنون من كل لغات الدنيا في حركة للترجمة والتعريب لم يعرف لها التاريخ مثيلاً ، حتى لقد بلغت مكافأة ترجمة الكتاب وزنه ذهباً ، ووزن الكتاب ما هو آنذاك ! ثم ماذا ؟! لقد وعت العربية تلك العلوم ، وتمثلت تلك الفنون ، وقدمت للبشرية جمعاء خير حضارة أخرجت للناس بلسان عربي مبين .
يقول د. حسين نصار: "إن أكبر تحدٍّ واجهته العربية كان عندما أخرجها الإسلام من جاهلية غنية كل الغنى في الإبداع الأدبي فقيرة كل الفقر إلى حد الإملاق في الإنتاج العلمي, ثم ألقى بها في القرنين الثاني والثالث الهجريين في بحر زاخر من الحضارات والعلوم والفلسفات والفنون وكل صنوف المعرفة التي ابتكرتها الأمم المتاخمة للجزيرة العربية كالفرس والروم والسريان والمصريين, والأمم البعيدة عنها كالهنود والصينيين والأتراك والبربر وشعوب أسبانية. ولكن العربية صمدت لهذا التحدي بفضل ما بثه الإسلام في العرب من رغبة في المعرفة وسعي في طلبها وطموح وعزم وتخطيط وتنفيذ وتعاون مع غير العرب من أبناء الشعوب العارفة باللغات الأجنبية واللغة العربية فلم يمض إلا وقت غير طويل حتى نقلت العربية كل ما وجدت عند هذه الأمم إليها, فاستطاع أبناؤها بعدُ أن يتمثلوها فهماً, ولم يمض كبير وقت حتى شاركوا في الإنتاج والابتكار. فصار ما كتبه هؤلاء المفكرون والعلماء منذ القرن الثالث نبراسا استضاءت به شعوب العالم القديم. لايستطيع أن ينكر ذلك إلا منكر لعقله, منكر لشمس النهار الصحو, منكر لتاريخ الإنسان وتطوره الحضاري"([1]).

وليس يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل
و هكذا انعتقت العربية من إسارها ، و انطلق المارد من القمقم ، لتشهد هذه اللغة حركة من الترجمة ما شهدتها لغة ، فقد ا نطلق أهلوها يجوبون البلاد ، و يتخيرون منها ما ألّفه الأوائل في علومهم المختلفة بشتى لغات المعمورة الفارسية و الهندية و اليونانية والرومانية و النبطية... و غيرها لتنقل إلى العربية ، فإذا بالعربية تستوعب كل علوم الأوائل على اختلاف لغاتهم ، حتى لقد وسم ذلك العصر بسمة هذه الحركة من الترجمة فسمي عصر الترجمة الذهبي ، وأقيمت للترجمة مؤسسات وبيوتات اشتهر منها بيت الحكمة، و تجاوزت معرفتهم باللغات حدود اللغات السائدة إلى اللغات البائدة ، التي لم يبق منها إلا حروفها و باتت أبجديتها تستعمل في تعمية بعض العلوم المضنون بها على غير أهلها ، ومن هنا أن    نشأ علم التعمية و استخراج المعمى ( الشفرة و كسر الشفرة) الذي أخرجنا فيه سفرين اثنين في هذا المجمع المبارك ، ومن هنا أيضاً أن ألفت كتب مفردة كشفت اللثام عن أبجديات اللغات القديمة و أقلام الأقوام المندثرة ككتاب شوق المستها م  في معرفة رموز الأقلام لابن  وحشية النبطي الذي نعمل على إخراجه ليكون  الجزء الثالث من موسوعة علم التعمية و استخرج المعمى عند العرب . إن شاء المولى سبحانه.

و إن تعجب فعجب أن يزعم هؤلاء المبهورون أن حضارتنا العلمية إنما قامت على أكتاف غير العرب. وأن علماءنا المسلمين كانوا غالباً من الفرس والروم والموالي الذين دخلوا في دين الله أفواجاً وهم ينتمون إلى أصول مختلفة وألسنة شتى ! بل إن سيبويه شيخ النحو والنحاة كان فارسياً .!

وأقول : وما يَضيرهم ذلك ؟ بل ما يَضيرنا أو يَضير العربية ؟ ألم يصنف هؤلاء جمعياً كتبهم بالعربية ؟! أولم يفكروا بالعربية ؟‍! أولم يشعروا ويتحسسوا بالعربية ؟!أولم يبكوا ويضحكوا بالعربية؟! أولم تظلهم جميعاً راية العربية وهي لغة قرآنهم ومنبع إلهامهم ومصدر قوتهم ؟! أخبرني بربك عن واحد من هؤلاء الأعلام بدءاً من سيبويه والبخاري ومروراً بالبيروني والفارابي وانتهاء بالزمخشري والخفاجي ألف بغير العربية ! أو أبدع بغير العربية !أو قامت له قائمة بغير العربية !أو دان لغير العربية .

بل استمع معي إلى سيد من سادتهم وعلم من أعلامهم وهو الإمام الزمخشري يقول في مستهل كتابه المفصل : "أحمد الله على أن جعلني من علماء العربية ، وجبلني على الغضب للعرب والعصيبة ، وأبى لي أن أنفرد عن صميم  أنصارهم وأمتاز ، وأنضوي إلى لفيف الشعوبية وأنحاز ... ولعل الذين يغضّون من العربية ويضعون من مقدارها ويريدون أن يخفضوا ما رفع الله من منارها ، حيث لم يجعل خيرة رسله وخير كتبه في عجم خلقه ، لكن في عربه ، لا يبعدون عن الشعوبية منابذة للحق الأبلج و زيغاً عن سواء المنهج"

ثم يقول موضحاً أهمية العربية ودورها في كتابة كل العلوم : "والذي يُقضى منه العجب حال هؤلاء في قلة إنصافهم ، وفرط جورهم واعتسافهم ، وذلك أنهم لا يجدون علماً من العلوم الإسلامية فقهها وكلامها وعلمي تفسيرها وأخبارها إلا وافتقاره إلى العربية بيّن لا يدفع ، ومكشوف لا يتقنع . ويرون الكلام في معظم أبواب أصول الفقه ومسائلها مبنياً على علم الإعراب , والتفاسير مشحونة بالروايات عن سيبويه ، والأخفش ، والكسائي ، والفراء ، وغيرهم من النحويين ، البصريين  والكوفيين, والاستظهار في مآخذ النصوص بأقاويلهم ، والتشبث بأهداب تفسيرهم وتأويلهم . وبهذا اللسان منا قلتهم في العلم ومحاورتهم ، وتدريسهم ومناظرتهم . وبه تقطُر في القراطيس أقلامُهم ، وبه تسطُر الصكوكَ والسجلات حكامُهم.

ثم يفحم هؤلاء الكارهين للعربية المدعين أنهم يستطيعون الاستغناء عنها بقوله : "فهم ملتبسون بالعربية أيةً سلكوا , غير منفكين منها أينما وجهوا , كَلٌّ عليها حيثما سيَّروا , ثم إنهم في تضاعيف ذلك يجحدون فضلها ويدفعون خَصْلَها ، ويذهبون عن توقيرها وتعظيمها ، وينهون عن تعلّمها وتعليمها ، و يمزقون أديمها ، ويمضغون لحمها ، فهم في ذلك على المثل السائر :( الشعير يُـؤدَمُ ويـُذمٌّ )([2])

والمصيبة الأعظم بل العظمى أن يتعامى هؤلاء, وهم أبناء ديننا وجلدتنا, عن أن الله جلت حكمته شرف العربية بأن جعل كلامه المنزل على نبيه المرسل صلى الله عليه وآله وسلم بها فقال جل شأنه : (بلسان عربي مبين )] الشعراء195[ وقال عز وعلا : (  إنا أنزلناه  قرآناً عربياً لعلكم تعقلون )] يوسف2]

ثم تحدى الخلائق من إنس ومن جن بأن يأتوا بمثل هذا القرآن فقال سبحانه : ( قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيرا ). [الإسراء88]
فإذا كان الله سبحانه قد اصطفى هذه اللغة من بين سائر اللغات ، وتخير هذا اللسان من بين سائر الألسنة ، فكيف غاب عن هؤلاء أن في هذا اللسان سراً ؟ وأن في هذه اللغة مزيّة. وإن كان فهمهم قاصراً عن إدراك ذلك السر وهذه المزيّة أفلا يكلون ذلك إلى خالقهم الذي جعل اختلاف اللغات آية من آياته : ( ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم و ألوانكم إن في ذلك لآيات للعالـِمين ) [الروم 22] . و إذا كانوا عاجزين عن استبانة أوجه الجمال في العربية ، وأسرار البلاغة في هذا اللسان ، ودلائل الإعجاز في هذا البيان ! أفلا ردوا ذلك إلى العالمين به ، المدركين لأبعاده ، المبصرين ما يشتمل عليه من خصائص وما ينطوي عليه من مزايا ؟!! ( ولو ردوه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم) [ النساء83 ]

وإذا قعد بهم إدراكهم عن كل ذلك ,وارتد إليهم طرفهم مكابرة وعناداً ،  فليس لي إلا أن أقول لهم : (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ؟) [محمد24 [

والأنكى من ذلك كله أن يجرد هؤلاء المتعالمون العرب من كل مكرمة, و أن ينظروا إلى ما صارت إليه الأمة من هوان وتشتت وتقهقر فيزعموا أن هذا شأنها أبداً ، وأنها لم تعرف العزَّ في يوم من الأيام ، وأنها لولا الإسلام لم تكن شيئاً مذكوراً ، ناسين أو متناسين أن العرب هم ظئر الإسلام ولبّه, وأن الإسلام ما قرن بأمة من الأمم كاقترانه بأمة العرب ، وغافلين أو متغافلين عن أن محبة العرب من محبة هذا الدين ، والعناية بلغتهم من العناية بشعائر هذا الدين ، ولله در الإمام الثعالبي النيسابوري حين قدم لكتابه الرائع فقه اللغة وسر العربية بقوله : "أما بعد حمد الله على آلائه ، والصلاة والسلام على محمد وآله ، فإن من أحب الله أحب رسوله المصطفى صلى الله عليه وسلم ، ومن أحب النبي العربي أحب العرب ، ومن أحب العرب أحب اللغة العربية التي نزل بها أفضل الكتب على أفضل العجم والعرب ، ومن أحب العربية عني بها وثابر عليها وصرف همته إليها . ومن هداه الله للإسلام وشرح صدره للإيمان وآتاه حسن سريرة فيه ، اعتقد أن محمداً خير الرسل ، والإسلام خير الملل ، والعرب خير الأمم ، والعربية خير اللغات والألسنة "([3]).

وثمة حقيقة لغوية يؤيدها الواقع ويؤكدها التاريخ ، وهي ارتباط اللغة _ أي لغة _ بحضارة أصحابها . فاللغة والحضارة يتناسبان طرداً وهذا يعني أن اللغة ظاهرة اجتماعية تعيش مع الإنسان جنباً إلى جنب تضعف بضعفه ، وتنمو وتزدهر بنموه وازدهاره .

وبهذا المعنى جاء قولهم "لسانك أنت "وعبّر عن ذلك شاعرنا العربي القديم بقوله:

 لسان الفتى نصف ونصف فؤاده         فلم يبق إلا صورة اللحم والدم
والمعنى العميق لهذا الكلام أن لسان الفتى هو كل الفتى لأن اللسان لا ينزع من فراغ , وإنما يستمد مادته من العقل المعبر عنه في البيت بالفؤاد .فاللغة لا تعيش وحدها بحال , بل لا بد لها من مجتمع ,ولا حياة لمجتمع
بدون لغة بينها بينها وبين أصحابها رباط قوي دائم وتفاعل مستمر .وبقدر ما يكون هذا التفاعل كيفاً وكماً وقوة وضعفاً يكون حال القبيلين معاً([4]) 
ومن تأمل في تاريخ العربية وقف على حقيقة ذلك ، إذا لم تكن هذه اللغة في غابر أيامها تصلح إلا للشعر و الأدب, وكانت مزويّة في بداوتها وجزيرتها ، فلما جاء الإسلام ، وقامت حضارته ، أصبحت العربية لغة العلم والمعرفة ، وخرجت من حدودها الضيقة لتعمّ الدنيا بأسرها ، وأصبح العلم لا ينال إلا بها ، وغدت المعرفة لا تحصل إلا بإتقانها, بل غدا تعلمها في نظر الشرع واجباً من واجبات المسلم لأن ما لا يقوم الواجب إلا به فهو واجب ، وتعلم القرآن وحفظه وفهمه ، وفهم  كثير من أبواب هذا الدين مرهون بإتقان هذه اللغة, فلا مندوحة إذن عن إتقانها . و هذا عمر الفاروق رضي الله عنه يكتب إلى أبي موسى الأشعري": (تعلموا العربية فإنها من دينكم. و أعربوا القرآن فإنه عربي)([5])

وقد يقول قائل ما لنا وللتاريخ دعونا من التغني بالماضي الغابر وتعالوا معنا إلى الواقع الحاضر , نحن في عصر التطور فأين العربية من التطور؟ ونحن في عصر الحاسوب فأين العربية من الحاسوب ؟

و الجواب عن هذا ذو شعبتين :

الأولى  تلك التجربة الناجحة التي خاضتها و ما تزال تخوضها الجامعات السورية بتعريب التعليم فيها على اختلاف الاختصاصات إذ يعلم الطب و الهندسة و الفيزياء و الكيمياء.. و غيرها من العلوم و الفنون بالعربية , و يتـلقى الطلبة علومـهم بلغـتهم الأم فلا ينشغلون عن تحصيل العـلم بـفك رموز اللغة ، و يوفرون مشقة فهم اللغة ليبذلوها في فهم المادة العلمية و إدراكها إدراكاً حقيقياً يؤهلهم للإبداع فـيها و التـجديد و الابـتكار في حقـولها المختلفة . و قد كـتب الكثير عن هذه الـتـجربة العـظـيمة و حفلت مجلة المجمع ببحوث قيمة تناولت بعضاً من جوانبها أذكر منها مقالات الأستاذ الدكتور عبد الله واثق شهيد أمين المجمع  في مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق، و مقالات الأستاذ الدكتور محمد هيثم
الخياط عضو المجمع الذي جمعها في كتابه الماتع : (( في سبيل العربية)) . و ختمها بمقولة رائعة لأديب العربية الكبير الأستاذ أحمد حسن الزيات يقول فيها :

"هذا العلم الذي يسخّر السماوات و الأرض لهذا الإنسان الضعيف ، و يذلّل القطعان الملايين للراعي الفرد ، سيبقى غريباً عنا ما لم ننقله إلى مِلْكنا بالتعريب ، و نعممه في شعبنا بالنشر ، و لا يمكن أن يصلنا به أو يدنينا منه كثرة المدارس و لا وفرة الطلاب ، فإن من المحال أن ننقل الأمة كلها إلى العلم عن طريق المدرسة ، و لكن من الممكن أن ننقل العلم كله إلى الأمة عن طريق الترجمة([6])

و الثانية تجربة متواضعة و لكنها غنية ثرية خضتها بنفسي على امتداد عشرين عاماً في مركز الدراسات و البحوث العلمية بدمشق حيث سنى الله لي أن أنخرط في فريق عمل متكامل ضم أناسأً من اختصاصاتٍ شتى في العربية والرياضيات و الحاسوب و الإلكترونيات . كان من أولى مهامه  معالجة اللغة العربية بالحاسوب, وقد آتى العمل أكله على خير وجه بحمد الله إذ أنجزنا  عدة مشاريع علميةفي هذا المجال, أهمها: النظام الصرفي العربي بالحاسوب, و نظام تحويل الكلام  المكتوب إلى مقروء, و قواعد تعليم العربية بالحاسوب , وهي ترمي إلى أهداف عظيمة وغايات بعيدة، على رأسها الترجمة الآلية من العربية وإليها، واكتشاف الأخطاء اللغوية في النصوص وتصحيحها، وتعرف الكلام وتركيبه، والقراءة الآلية للنصوص المكتوبة، والكتابة الآلية للنصوص المنطوقة، والتحاور مع الآلة باللغة الطبيعية، والفهرسة الآليةللنصوص، وضغط النصوص واسترجاعها، وشكل النصوص غير المشكولة أو المشكولة جزئيا ...وغير ذلك([7]).

ولابد لي هنا أن أشير إلى ظاهرتين في العربية تبدّتا لي واضحتين جليّتين من خلال عملي هذا ، وأنا أزعم أنهما ميزتان للعربية لا تكادان توجدان في لغة من لغات العالم.

أما الميزة الأولى فهي الاشتقاق القياسي في العربية ,وأعني بالاشتقاق القياسي قابلية العربية لتولبد عشرات الآلاف من المشتقات القياسية اعتماداً على عدد حدود من الجذور , وقد بلوت ذلك بنفسي إذ اعتمد النظام الصرفي الحاسوبي الذي شاركت فيه على نحو سبعة آلاف جذر عربي أدخِلت إلى الحاسوب ووَضع المبرمجون القواعد الثابتة التي تشتق بها المشتقات وتتصرف بها الأفعال وتتولد بها الكلمات, فإذا بالحاسوب يولد آلاف الكلمات بل مئات الآلاف اعتماداً على هذا العدد المحدود من الجذور , ويتم التوليد آلياً فما هو إلاّ أن يدخل المستثمر الجذر الذي يريد توليده حتى يتولى الحاسوب أمر التوليد والاشتقاق والتصريف ويحصل المرء على مبتغاه ، فأيّ قياسية هذه وأي مزيّة .
ولكي أوضح ذلك سأكتفي بعرض جدولين مقبوسين من بحثنا \"أسلوب معالجة اللغة العلربية في المعلوماتية(الكلمة- الجملة) " يمثل الأول جذور المعجم الحاسوبي المعتمد في نظامنا الصرفي الاشتقاقي وما يتفرع عنها من مواد ثلاثية ورباعية وما يتولد عن كل منهما من أفعال مجردة ومزيدة:

ويمثل الثاني مراحل اشتقاق الكلمة العربية انطلاقا من مادتها المعجية أو جذرها:  
وأما الميزة الأخرى فهي موافقة المنطوق للمكتوب في العربية , وبعبارة أخرى فالعربية تكتب كما تلفظ وتلفظ كما تكتب وفق قواعد صوتية معروفة لا يستثنى من ذلك سوى ألفاظ محدودة يخالف فيها اللفظ الكتابة مثل ( لكن ,وأولئك, وعمرو, وهذا.... ) ولذلك لم نحتج في نظام تحويل الكلام المكتوب إلى منطوق إلّا إلى قائمة واحدة شذت فيها الألفاظ من قواعد النطق العربية , وأما قوام النظام فكان تلك القواعد الصوتية لنطق ألفاظ العربية من مثل ( اللام القمرية واللام الشمسية, والتفخيم, والألف الفارقة ..... إلخ ) على حين احتاج الأمر في نظام مماثل للغة الإنجليزية إلى مئات القوائم التي تخالف  فيها الكتابة عن النطق , ويخالف فيها النطق عن الكتابة, وكأن الأصل في النطق الشذوذ‍. آية ذلك أنك تحتاج إلى معرفة تهجئة الكلمة في كثير من كلمات الإنجليزية ، فإما أن تتلقاها من أستاذ خبير, وإما أن تعود إلى المعجم الذي يرسم لك رموز التهجئة قبل أن يشرع ببيان معنى الكلمة, على حين لا يحتاج الأمر في العربية إلا إلى كتابة الكلمة مضبوطة بالشكل.

ليست اللغة إذن قاصرة , ولكننا نحن المقصرون, وليست اللغة ضعيفة , ولكننا نحن الضعاف ,وليست اللغة إذن ميتة ,ولكننا نحن النيام , فمتى متى نستفيق ؟!.
رموني بعقم في الشباب وليتني     عقمت فلم أجزع لقول عداتي
وسعت كتاب الله لفظًَا وغاية وما ضقت عن آي به وعظاتِ
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلة وتنسيق أســــماء لمــخترعـــاتِ


أنا البحر في أحشائه الدر كامن           فهل سألوا الغواص عن صدفاتي
فيا ويحكم أبلى وتبلى محاسني                     ومنكم وإن عز الدواء أساتي
فــلا تكلوني للـزمان فإنـني         أخاف عليكم أن تحين وفاتي
 -------------------------------------------------------------------------------------------------------------
المراجع

-             استخدام اللغة العربية في المعلوماتية,  المنظمة العربية للتربية والثفافة والعلوم بتونس 1996م.

-       إعراب القراءات السبع وعللها، ابن خالويه (370 هـ)، تحقيق د. عبد الرحمن بن سليمان العثيمين، مكتبة الخانجي بالقاهرة، ط1، 1413هـ-1992 م.

- ديوان حافظ إبراهيم.

شوق المستها م  في معرفة رموز الأقلام لابن  وحشية النبطي, مخطوط قيد التحقيق

- العربية والعلوم الحديثة, د. حسين نصار, مقال في مجلة تراثيات, العدد الخامس ذو الحجة 1425- يناير2005

- علم التعمية و استخراج المعمى عند العرب ( الشفرة و كسر الشفرة)، د.محمد مراياتي، د.محمد      حسان الطيان، د.يحيى ميرعلم، مطبوعات مجمع اللغة العربية بدمشق، الجزء الأول 1987-الجزء الثاني 1997.

فقه اللغة وسر العربية, للثعالبي, تحقيق د.فائز محمد ود. إميل يعقوب ، دار الكتاب العربي ط2 1416هـ - 1996م .

في سبيل العربية , د. محمد هيثم الخياط  , دار الوفاء- المنصورة, مصر, 1418هـ - 1997م

القول القوام فيما يثار حول اللغة العربية من كلام, مقال للدكتور كمال بشر. الأهرام 6/12/2005 .

مجلة مجمع اللغة العربية بدمشق.

المفصل في صنعة الإعراب للزمخشري .



([1]) من كلمته التي ألقاها بمناسبة حصوله على جائزة الملك فيصل العالمية.مجلة تراثيات, العدد الخامس ذو الحجة 1425- يناير2005.

([2]) المفصل في صنعة الإعراب للزمخشري ص 30.

([3]) فقه اللغة وسر العربية للثعالبي ص 5.

([4]) القول القوام فيما يثار حول اللغة العربية من كلام للدكتور كمال بشر.الأهرام 6/12/2005

([5]) إعراب القراءات لابن خالويه 1/27 .

([6]) في سبيل العربية , د. محمد هيثم الخياط  ص184.

([7]) بسطت الكلام على هذا في فصل كامل كتبته بمشاركة الأستاذ مروان البواب بعنوان "أسلوب معالجة اللغة العربية في المعلوماتية ( الكلمة- الجملة) "نشر في كتاب: "استخدام اللغة العربية في المعلوماتية"من منشورات المنظمة العربية للتربية والثفافة والعلوم بتونس 1996م.

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 3192

 تاريخ النشر: 05/12/2007

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 553

: - عدد زوار اليوم

7400651

: - عدد الزوار الكلي
[ 63 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan