::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مقالات متنوعة

 

 

صناعة التجاوز

بقلم : سلطان الدويفن  

صناعةُ التجاوز هي صناعةٌ يَبرع فيها بعضُ الأفراد، كما تبرع فيها بعضُ الشركات، وبعض المجتمعات، وبعض الدول.

لماذا تلازمنا كلمة "بعض" عندما نتحدَّث عن مفهوم التجاوز؟

قبل الحديث عن مفهوم التجاوز، دُعُونا نتمعَّن في فكرة مهمَّة يتبنَّاها كلٌّ من لاري بيج (Larry Page)  وسيرجي برين (Sergey Brin) مؤسِّسَا موقع محرِّك البحث العالمي الشهير "جوجل"، فكلٌّ مِن لاري وسيرجي على يقين تامٍّ بأنَّ هناك فرداً ما، وفي مكانٍ ما، يحاول جاهدًا أن يبتكر طُرقاً أفضل، أسرع وأذكى ليتفوَّق عليهم؛ لذا فإنَّ الحصول على ابتكاراتٍ أذكى وسْطَ هذا النموِّ الحار المشتعل هو التحدِّي الحقيقي.

وهما في حقيقة الأمر يعيشان تحديًّا يوميًّا للبقاء في المقدِّمة، وليس في تجاوز الآخرين، فتجاوز الآخرين قد تمَّ فعلاً، ويفكِّران في مراحلَ أبعد مِن مرحلة التجاوز.

وفي المفهوم الفِيزيائيِّ للسرعة هناك ثلاثُ حالات للسرعة:

1.  الحالة الأولى: إمَّا أن يكون الفرد أو المجتمع أو الدولة أقلَّ سُرعةً من أمثالهم، وفي هذه الحالة لن يستطيعَ الفردُ، أو المجتمع، أو الدولة تجاوزَ أيٍّ مِن مماثليهم ومثيلاتهم.

2.  الحالة الثانية: أن يكون الفرد أو المجتمع أو الدولة مساوين لسرعاتِ أفراد، ومجتمعات، ودول أخرى، وفي هذه الحالة سوف يكونون متوازيين.

3.  الحالة الثالثة: أن يكون الفرد، أو المجتمع، أو الدولة أسرعَ مِن أفراد ومجتمعات دول أخرى، وهنا سوف يحصلُ التجاوزُ بالتأكيد.

لماذا نتحدَّث عن مفهوم التجاوز؟

التفكير في التجاوز وتبنِّي فكرة ومنهج التجاوز والعمل بها يُفجِّر في الفرد، وفي المجتمع، وفي الدولة أقصى الطاقات لاستغلالِ كلِّ الموارد المتاحة، وصناعة الموارد غير المتاحة.

إنَّه يخلق حالة "هوس" في المجتمع والأفراد للرُّقيِّ والتطوُّر المستمر، حالة رُوحيَّة كيمائيَّة تسري في الأنفس والأرواح قبل أن تتحوَّل إلى فعلٍ باليد والأجساد، ترفض بقاءَ الأوضاع على ما هي عليه، وتُفكِّر باستمرار لخلْق أوضاع، وبيئاتٍ محفِّزة للإبداع والمجد، والرُّقيِّ والانطلاق نحوَ السُّموِّ والفعل الحضاري، والتأثير في الكُرة الأرضيَّة كلِّها، وإنَّ حركة التاريخ مبنيةٌ على حركة المجتمع، وحركة المجتمع مبنيةٌ على جهود أفراده، وتغيير حركة التاريخ يقوم بها الأفرادُ أصحاب النفوس الشامخة، والذين يعملون مِن خلال منهج التخطيط والوعي بكافَّة المتغيرات في زمانهم ونظرتهم الاستشرافيَّة للمستقبل.

إنَّه أشبه بالحالة التي أخرجتِ المسلمين مِن الجَزيرة العربيَّة؛ ليصلوا إلى الصِّين شرقاً، وإلى المغرب وحدودِ فرنسا غرباً.

حالة شعوريَّة نفسيَّة تتوقَّد في الرُّوح لتصلَ إلى ما يُشبه الكمال البشريَّ المتسامي على كلِّ النوازع الترابية، التي تشدُّ الإنسان من التعلُّق بالأرض والطين إلى السُّموِّ في عالَم الفكر والرُّوح والأخلاق المنشدة إلى السماء، وفرقٌ كبيرٌ بين إنسان رُوحُه معلَّقة بالسماء، وإنسانٍ رُوحُه ونفسه وهمُّه معلَّقة بالطين والتراب، وإنَّ مَن يتعلَّق بالطين والتراب لن يبرحَ مكانه أبدًا، فهو إنسانٌ طيني، وأمَّا الإنسان الرُّوحي المخلوق من طين، والذي تُمثِّل الرُّوح لديه قيمةً عظمى، وأولوية كبرى في حياته، فهو منشد إلى السماء، وإلى عالَمٍ غير هذا العالَم، تُحلِّق فيه رُوحُه وهو يمشي على الطين، هذا الإنسان يُشبه ذلك الصحابيَّ الذي يُطعن في ظهره، ثم يُمسك بالدَّم فينضحه على وجهه وهو يقول: فُزتُ وربِّ الكعبة.

إنَّه لا ينسى الطين، وأنَّ عليه واجبَ عمارته وصناعة الحضارة فيه؛ ولكنْ همُّه الأعلى وتفكيره الأسمى منشدٌّ إلى السماء، ومَن أراد التحليق في عالَم السماء، فهو محتاجٌ إلى جناحَيْ نِسْر، وليس إلى جناحَيْ بعوضة.

وليس بِمِثْل هِمم ونفوس الصحابة يمكن صناعةُ التجاوز، وإنَّما بنفوس وهِمم تمتلك رُبُعَ ما يمتلك ذلك الجيل النادر، والذي لا يمكن صناعة ما يشابهه أو إعادته؛ لأنَّه صُنِع على يدِ أعظم نبيٍّ ورسول، وقائد ومربٍّ عَرَفه التاريخ - صلَّى الله عليه وسلَّم.

إنَّ الهمم الصِّينيَّة والأمريكيَّة والكورية ليستْ أفضلَ من هِمم المسلمين، وهُم مع ذلك لا يمتلكون جزءًا من المليون مما نمتلكُه من مخزونٍ دِينيٍّ وفِكري، وحضاريٍّ وثقافي، قادر على أن يكون في مقدِّمة العالَم؛ ولكنَّهم استطاعوا أن يُهيِّئوا البيئاتِ المناسبةَ للإبداع الحضاريِّ والتقني، وغرسوا في نفوس أبنائهم معنى العزَّة والكرامة والمجد، وغرسوا في نفوس أبنائهم كراهةَ أن يكونوا في مؤخِّرة العالَم، وغرسوا في نفوس أبنائهم ألاَّ يكونوا أشباهَ الرجال على الكرة الأرضيَّة، وكانوا رجالاً قدَّموا التضحياتِ والدمَ، والمال والرُّوح في سبيل عِزَّةِ ورِفعة أوطانهم، وهُم مع ذلك ليس لهم هدفٌ أخروي؛ ليكونوا مع النبيِّين والصِّدِّيقين والشُّهداء، وَحَسُن أولئك رفيقا، لقد صنعوا العباقرةَ والمبدعين والمفكِّرين، الذين يقول قائلهم: كلُّ ما هو عظيم وملهم صَنَعه إنسانٌ يعمل بُحريَّة، ويقول: يستطيع أيُّ أحمق جعْلَ الأشياء تبدو أكبرَ وأعقد؛ لكنَّك تحتاج إلى عبقريٍّ شجاع لجعلها تبدو عكس ذلك، ويقول: الجُنون هو أن تفعل الشيء مرَّةً بعد مرَّةٍ وتتوقَّع نتيجةً مختلفةً، إنَّها عقول عملاقة تبدع وتفكِّر وتنتج.

أن ترضى أيُّها الفرد أو القائد أن تبقى في مؤخِّرة الرَّكْب، فهذه ذِلَّة في النفس واحتقار لها، وأن تقبل أن تعيش على هامش الزَّمن والأحداث، فهذا خضوع، وأن تبكيَ وتمسح دموعك، وإخوانُك وبناتك يُقتلون في غزَّة والعراق، فهذه من أفعال النِّساء، وليست من أفعال الرِّجال، وإنَّ أوَّل خُطوات التغيير نحوَ المجد والعزَّة هو أن تُغيِّر تفكيرك ونظرتك للأشياء والأحداث.

كيف ترضى كفردٍ بكل هذه الأشياء؟

ترضى بها إن كنتَ مخلوقًا طينيًّا تقليديًّا عاديًّا، نعم، أنت ترضى أن تبقى ذليلاً مُهاناً حقيراً في نفسك قبلَ أن تكون حقيراً في أعين الآخرين!!

وإنَّ التمرُّد ورفض الأخطاء والمحرَّمات التي تَحدُث على أرض الواقع يُعتبر أوَّل خُطوة من خُطوات التغيير، ومِن ثَمَّ صناعة التجاوز بعد ذلك.

ومنهج الرَّفض مبثوث في آيات القرآن الكريم، سواء بالنَّص أو مِن خلال الاستقراء لمنهج القرآن الكريم، وكلُّ الآيات التي تدل على التحريم أو الكراهة، أو النهي أو التحذير ترفض كلَّ ما حرَّمته، أو نهتْ عنه، أو حذَّرت منه.

نعم، لا ترضَ أن تكون ضعيفاً، ولا ترضَ أن تكون مُهاناً، ولا ترضَ أن تكون حقيراً، ولا ترض أن تكون نَكرةً في عالَم المعرفة، ووقوفك مكانك على نفس واقعك دون أيِّ تغيير نفسي وفكري بداخلك يجعلك مهاناً في عين نفسك، قبلَ أن تكون مهاناً في أعين الآخرين، وقبل أن تكون مهاناً على المستوى الدولي.

نعم، مهان على المستوى الدولي؛ لأنَّ الفرد النصراني، أو السيخي، أو البوذي، أو اليهودي المناظر والموازي لك يتمتَّع بعزَّة وشموخ وكبرياء لا تتمتع بها! وهم يعدُّون أطفالهم لِيُذلُّوا أطفالنا، ولنرجعْ إلى تاريخ الأندلس؛ لنرَى كيف أعدَّ الصليبيُّون أطفالَهم لقتال أبناء المسلمين، حتى أذلُّوا المسلمين وأبناءَهم، وقتلوا رجالهم، وهتكوا أعراضَ نِسائهم وبناتِهم، والتاريخ سوف يُعيد نفسه إن لم نتنبه ونأخذ الحيطة والحذر؛ وقد قال تعالى: {وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ} [البقرة: 120]، ونحن يجب أن نُعدَّ أطفالنا ليقودوا العالَم من خلال الإنجاز اليوميِّ القائم على الإيمان بالله، والفعل والأداء، والجودة والتخطيط، والعمل المستمرِّ الدؤوب، ولِيَقودوا أطفالَهم نحوَ توحيد الله عزَّ وجلَّ فنحن أمَّة رحمة، وقد قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ} [آل عمران: 110].

ألاَ تَحسُّ بالإهانة والذُّل عندما تُقصف أيُّ دولة إسلاميَّة؟! وقسْ على ذلك في الحياة الشخصية الشيءَ الكثير.

إذا لم تكن تحسُّ بالإهانة والذُّل، فإنِّي أنصحك بالرُّقية الشرعية لقلبك، لعلَّ الله أن يُعيد الحياة فيه.

إنَّ قَبول حياة الطين هي منتهى الذِّلة في النفس، وحياةُ الطين المبنية على الوظيفة والزوجة والسيارة والمنزل فقط هي حياة طِينيَّة ليس فيها معنًى للقيمة، وليس فيها حياةٌ للروح، أو تذوُّق المعاني الخالدة الباسقة السامقة، واعرضْ نفسك على هذه الآية حتى تعرفَ: هل أنت مخلوق طيني ذليل وحقير في نفسك، أو مخلوق طيني له رُوح؟ وهي التي قال الله عزَّ وجلَّّّ فيها: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} [التوبة: 24].

إنَّ التغيير نحو المستقبل المشرق يبدأُ برفض الواقع والحاضر الذليل، الذي يكون فيه الفردُ المسلم مُهانًا، والدولة المسلمة مُهانة، وهل هناك إهانةٌ للمسلمين والدول الإسلاميَّة أعظم مِن أن تُنتهك حُرماتُ دولٍ مسلمة، ويقتل أطفالُها، وتُسبى نساؤها، وتباع بناتُها في سوق الدِّعارة الفاجر؟!

إنَّ التغيير يبدأ منك، وأن تبدأ بنفسك، وإن لم تتغيَّر أو تبدأ التغيير الفعلي، فأنت الذي تختار لنفسك أن تكونَ مهاناً حقيراً في نفسك، وليس الآخرون هم الذين أجبروك على ذلك، ومَن رغب في التغيير الفعلي فلن يعدم الطرق.

إنَّ الإعراض والرَّفض منهج قرآني، فقط ارفض داخليّاً في نفسك، ارفض أن تكون مهاناً وذليلاً وحقيراً، وحوِّل هذا الرفض إلى عمل وواقع شخصي في نفسك أيضاً، وهذه قِمَّة العزَّة والشموخ والكبرياء، التي لا يستطيع أحدٌ انتزاعَها منك مهما أُوتي من قوَّة وسلاح.

لقد غيَّر "غاندي" تاريخ الهند، وأخرج الإنجليز بمنهج الرَّفض.

وإنَّ المقصود بمنهج الرَّفض هو منهج الرفض الإيجابي، والرَّفضُ الإيجابي يجعلك ترفض الأمرَ المنكر، أو المحرَّم، أو الخاطئ في عقلك وتفكيرك ونفسك، ثم تُحوِّل الرفض إلى واقع، وهو أقلُّ درجات الإيمان التي قال - صلَّى الله عليه وسلَّم - عنها: ((مَن رأى منكم مُنكرًا فلْيغيِّره بيده، فإن لَم يَستطعْ فبلسانه، فإن لم يستطعْ فبقلبه، وذلك أضعفُ الإيمان))؛ أخرجه مسلم.

والتغيير بالقلب هو التغيير الإيجابي الذي قَصَده رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - بألاَّ يَقبل المسلم هذا الأمرَ بقلبه، وتغييره بيدك ألاَّ تتعامل في البيع والشِّراء مثلاً مع كلِّ مَن يُشيع المحرَّماتِ في المدن الإسلاميَّة، ومن الأمثلة على التغيير الإيجابي أن تكون - مثلاً - رافضًا أن يُباع الدُّخَان في المحلاَّت التجارية؛ لأنَّه أمرٌ محرَّم ومنكر شرعاً، وتحويل الرفض إلى رفض إيجابي يجعلك ترفض أن تشتريَ من صاحب محلِّ بيع المواد الغذائية التي تبيع الدخان، وتمتنع من الشِّراء من المحلاَّت الأخرى في المبنى أو العمارة التي سمح صاحبُها ببيع الدُّخان في جزء من مِلكه، حتى تتحوَّل جميعُ المحلات التجارية المجاورة لصاحب المحلِّ الذي يبيع الدخان بالضَّغط عليه ليوقفَ بيعَ الدُّخان.

لأنَّ تجارتهم تضرَّرت ببيعه المحرَّم، وقِسْ على ذلك في المحلاَّت التي تبيع الأغاني، وتبيع أشرطة الفيديو التي تبثُّ معانيَ الدِّعارة في المجتمع، ومحلات أجهزة الاستقبال للبثِّ الفضائي، التي تشيع الفجور في كل رُكن مِن أركان المدن الإسلاميَّة، وما ظهور جرائم الزِّنا بالمحارم والتي لم يعرفها المجتمع المسلم قطُّ إلاَّ نتيجة لهذه المحلاَّت التي تبيع أجهزة الاستقبال، التي تعرض الجنسَ صراحةً أمام كلِّ راغب، وما استحلال الزِّنا وتسميته بغير اسمه، وطوابير الحجوزات على الرَّحلات المتجهة شرقاً وغرباً في الصيف إلاَّ بسبب هذه القنوات الفضائحيَّة.

وما تدهورت كثيرٌ من أخلاق الشباب إلاَّ بعدَ المحطَّات الفضائية، وما يُفيدني نظام تعليمي ممتاز يخرج بعده الطالب إلى منزله ليتلقَّى كلَّ معاني الانحلال من خلال الفضائيات؟ وإن لم تتدهور الأخلاق، فأقلُّ ما تصنعه هذه الفضائيات المنحلَّة بالنفس هو الهوانُ والذُّل، والرِّضا بالخنوع، وقَبول الخنا والزِّنا، ومشاهدته بشكلٍ طبيعي ممَّا يقتل في نفس الإنسان كلَّ إحساس بمعاني العزَّة والكرامة والمجد والكبرياء، وتحويله إلى آلةٍ صَمَّاء لا تشعر بأيَّة مشاعرَ إنسانيَّة حقيقية، إلاَّ فيما ندر، ويتحوَّل من الإنسان الخُلقي الرُّوحي، وهذا يُمثِّل أسمى معاني الإنسانية والتكريم الذي خصَّ الله - عزَّ وجلَّ - به الإنسان إلى إنسان طِينيٍّ لا رُوح فيه، ولا يَعرف معروفاً، ولا يُنكر منكراً.

وأمَّا الرفض السلبي، فهو رفضُ الذليل الحقير في نفسه، والمهان في ذاته، وهو رفضٌ لا معنى له، ولا قيمةَ ولا تأثير، وما فائدةُ رفضه الفكريِّ والعقلي للموضوع، واقتناعه أنَّه محرَّم، وإيمانه التام أنَّ تسويقَه وبيعَه يُفسد الجسدَ الإسلامي، ويُهلِك المجتمع، ويستنزف طاقاتِ الشباب المسلم، ويُضيِّع شبابها وفتياتها في حمى شرب الدُّخَان، أو حمى الجِنس والعُهر الجنسي، والتي بدأت تظهر بوادرُه في كثيرٍ من المدن الإسلامية، ومع كل ذلك لا يتورَّع صاحبُ الرفض السلبي عن الشِّراء من محل للأدوات الكهربائية مجاورٍ لمحلٍّ يبيع أشرطة الفيديو، وما تحويه من انحطاطٍ خُلقي، وبثٍّ للرذيلة في نفس من يشاهدها!

إنَّه رفضٌ بارد ذليل حقير، الذي جعل صاحبَه مهاناً في نفسه، فلنرفضْ جميعاً برفض إيجابي أن تنتشرَ المنكرات والمحرَّمات في بلادنا؛ لنكونَ أقوياءَ في أنفسنا، ولنا عزَّة وشموخ في ذواتنا قبلَ أن نكون أصحاب عزَّة وشموخ في أعين الآخرين.

إنَّ أُولى خُطوات تجاوز الواقع، والتفكير بصناعة المستقبل يبدأ برفضِ الحاضر الذليل؛ وقد قال تعالى : {فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} [النجم: 29]، وأمر الله سبحانه رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم بالإعراض عن ذلك الذي يُريد الحياة الدنيا فقط، وقد يقول الكثيرون: نحن نُريد الدنيا والآخرة، ولكن إن فتَّشت في رُوحه وقلبه، أو فتَّش هو داخلَ نفسه في حوارٍ داخليٍّ معها، وجد الدنيا في نفسه أعظمَ قدراً، وأعلى درجةً، وتستحق الكدحَ والتعب والعناء أكثر من الآخرة، والمَحكُّ الحقيقي أن يعرض نفسَه على هذه الآية مرَّة أخرى، والتي قال الله عزَّ وجلَّ فيها: {قُلْ إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ } [التوبة: 24]، والسؤال الذي يفرض نفسَه هنا هو السؤال التالي: ما معيارُ حبِّ الله ورسوله؟

لقد حدَّد الله عزَّ وجلَّ المعيارَ في هذه الآية الكريمة بقوله - تعالى -: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [آل عمران:31].

إذًا؛ فبداية التغيير منك، ورفض الواقع والعمل على تغييره يبدأ منك، وحركة التاريخ تبدأ منك أنت، فاخترْ لنفسك أن تعيش ذليلاً بتبنِّيك منهجَ الحياة الطِّينية، بالقَبول الفِكريِّ والنفسي للواقع الذليل المخزي، أو أن تعيشَ كريمًا عزيزَ النفس بتبنِّيك منهجَ الحياة الرُّوحيَّة الرافض لكلِّ منهجٍ ذليل، وفكرةٍ كئيبة بائسة، وعَملٍ فاسد؛ كي تتجاوزَ نفسَك التي تأمرك أن تعيش في الوحل والطِّين، ومِن ثم تتجاوز الآخرين، وليس المهمُّ التجاوزَ الماديَّ في المنصب، أو الوظيفة، أو المادة؛ وإنَّما الأهمُّ والأسمى والأرقى هو التجاوزُ الفِكريُّ والرُّوحي للآخرين، من خلال القَناعات التي تحملها، والأفكار التي تتبنَّاها، والإيمانيات التي تحيا بها، والأمرُ اختيارٌ، وأنت أمامَ نفسك.

إنَّك بتبنِّيك المنهجَ الفِكري والرُّوحي والخُلقي السامي كمَن يعيش في عالَم غير العالَم الذي يحيا فيه الناس، ويشعر بأحاسيسَ عُظمى لا يشعر بها الناس، وتتذوَّق رُوحانياتٍ من الله عزَّ وجلََّّ لا يتذوقها الناس، والناس مع ذلك كلِّه ينظرون إليك، حتى لو لم تشعر بذلك بعين الإكبارِ والإجلال والتعظيم؛ لأنَّهم لم يستطيعوا أن يصلوا إلى ما وَصلتَ أنتَ إليه.

إنَّها أفضلُ طريقة لتجاوز الآخرين، ومنها تبتدئ صناعة التجاوز.

إنَّ آلية التجاوز تنبنِي على السرعة والخِفَّة، والقوَّة والمرونة، وحتى يتجاوزَ الفرد المسلمُ الفردَ الأمريكي (واخترت النموذج الأمريكي لأنَّه النموذج المُسيطر حاليّاً) يجب أن يكون أسرعَ منه تقنيّاً، وأعلى منه معرفيّاً وعلميّاً، وأخفَّ منه حركيّاً، وأقوى منه فكريّاً، ويتمتَّع بمرونة في التفكير تفوقه بمراحلَ، وتسمح له بالتجديد والابتكار المستمر، وجميعُ هذه الأشياء تبتدئ منك أيُّها الفرد، بأن تعملَ ما في وُسعك؛ لتتجاوزَ الفردَ الأمريكيَّ المناظر لك، فإن كنتَ طبيباً، فاعملْ على أن تكون أفضلَ من الطبيب الأمريكي، وإن كنتَ مهندساً، فاعمل على أن تكونَ أقوى هندسيّاً من المهندس الأمريكي، وإن كنت إداريّاً، فابتكر نُظماً وطُرقاً في الإدارة لا يستخدمها المواطنُ الأمريكي، وهكذا كلٌّ في مجاله.

فقط ارفضِ الواقع، وحوِّل رفضك للواقع إلى فِعْل يوميٍّ تعيشه كلَّ دقيقة في حياتك، مِن خلال أفعالك اليوميَّة، وفكِّر في التجاوز، واعمل عليه، حتى نصلَ لمرحلة العزَّة؛ وقد قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11]، ولا يمكن أن يحدثَ التغيير بأن يتغيَّر الناس كلُّهم فجأة، ولكن سُنَّة الله اقتضت أن يحدثَ التغيير بالتدريج، وبدايتك تكون بنفسك، برفض الواقع، وذلك بالرَّفض الإيجابيِّ، والعمل إلى الأفضل، فأنت تتماشى مع سُنَّة الله عزَّ وجلَّ في التغيير، وأنت مع كلِّ ذلك تحتفظ بكرامتك وعزَّتِك النفسيَّة والشخصيَّة؛ لأنَّك قمتَ بأداء الأدوار الواجبة عليك، ومِن خلال ذلك كلِّه نستطيع أن نصنعَ التجاوز، ولا تقلْ: إنَّ عملي إذا قستُه بمجموع الأمَّة صغيرٌ ومحدود، فإنَّ الأشياء العظيمة والكبيرة تبتدئ بأشياءَ صغيرةٍ ومحدودة، فإذا تقدَّمت أنت خطوة، وتقدَّم غيرُك خُطوة، وتقدَّم آخرُ خُطوةً أخرى، وهكذا، يُصبح لدينا ملايين الخُطوات من مجموع خُطواتكم، فكيف يكون تأثير ملايين الخُطوات في حال المجتمع؟!

وتذكَّر أنَّ حركة المجتمع تصنع حركةَ التاريخ، والمطلوب منِّي ومنك أن أرفض وترفض الأخطاءَ والمحرَّمات التي تنتشر على أرض الواقع، ونحوِّل رفضَنا إلى فعْل في حياتنا اليوميَّة بساعاتها ودقائقها وثوانيها، وأسعى وتسعى معي إلى تجاوُزِ الآخرين، وسنصلُ إلى المرحلة التي يَسيرُ فيها كلُّ العالَم خَلفَنا.

 

المصدر: شبكة القلم الفكرية

 

 

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 3110

 تاريخ النشر: 14/06/2009

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

Query Error
MySQL Error : Query Error
Error Number: 145 Table './risalnet_vcount1/vietcounter_usersonline' is marked as crashed and should be repaired
Date: Tue, April 16, 2024 16:43:02
IP: 3.14.70.203
Browser: claudebot
Script: /article1.php?tq=2273&re=757&tn=775&br=2276&tr=2273&rt=2273&try=1&rf=767&tt=2271&rt=2273&rf=767&tm=2273&ft=
Referer:
PHP Version : 5.5.38
OS: Linux
Server: LiteSpeed
Server Name: risalaty.net
Contact Admin: info@risalaty.net