::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مقالات متنوعة

 

 

الفراغ الروحي: أسبابه، مظاهره، طرق علاجه (1)

بقلم : الأستاذ عبد الله عبد المؤمن  

 

الفراغ الروحي.. موضوع الساعة كما أطلق عليه المؤلف، رأى الأستاذ المغربي عبد الله عبد المؤمن أن الحاجة في أيامنا باتت ملحة لهذا الموضوع، وأرسل إلينا الموضوع لننشره في الموقع على شكل حلقات متتالية.. وها نحن ننشر الموضوع بدءاً من حلقته الأولى..

 

هيئة التحرير

 

كثيرة هي مظاهره، متعددة أسبابه، خفيّ أمره، حتى لكأنه يتجلى في مجالات عدة نحسب لها ألف حساب ولا ندري مصدرها ولا المؤثر فيها ولا كيفية تشخيصها، وتُطرح بإلحاح على مستوى المشاكل النفسية والأوهام والاكتئاب واليأس والقنوط وضعف اليقين وسوء الطالع وقلة الحظ ـ حسب تعبير غير سويّ ـ والتخبّط في دوّامة أزمات لا متناهية..

هو آفة العصر، وسرطان الباطن، والمرض المزمن، وقل ما شئت من أوصاف السلبية والفشل، بل هو وراء كل إحباط في الحياة وخسران بعد الممات.

  دفعني إلى الكتابة في هذا الموضوع ما يمليه علينا الواقع المعيش من تناقضات في الأفهام جعلتنا أبعد الناس عن فهم ديننا وشرع ربنا، مع ما جاء به الإسلام من دواء للقلوب وصفاء للنفوس وحل كل المعضلات سواء أكانت مادية أو معنوية، ومن لم يعتقد ذلك ويسلم به فالخلل في إيمانه والعوز في يقينه بالله تعالى.

 نعم، كان السبب الوجيه وراء اختيار هذا الموضوع بعد أن زارني وفد من أطر وزارة الصحة يجرون مقابلات مع جمع من المواطنين فيما يتعلق بفشو الأمراض العقلية وداء الكآبة والجنون المكتسب، يسألون والناس يجيبون: افرض مثلا أنك مكتئب أو مريض عقلياً أو مجنون لا قدر الله؟ ما العمل؟ ما الحل؟ كيف تفسر الظاهرة؟ هل يوجد بالأسرة من قام باغتصاب أحد أفرادها؟ هل يوجد شذوذ على مستوى الفكر والسلوك؟  إلى غيرها من الاستفسارات، والتي بعضها يُستحيى من ذكره، ولا يصلح والله كاستفسار أو كطرح وسط المجتمع المسلم فضلاً عن أن يكون دواءً وترياقاً..

  وكانت المعالجة لهذه المشاكل من خلال طريقة عرضها والأسئلة الموجهة في هذا الصدد والحلول المقترحة هي وجهات نظر مادية بالدرجة الأولى، اتباعاً لمنهج الغرب الذي شاعت في حياته هذه الأمور فأصبح يبحث عن طرق لاستيراد الحلول بوسيلة مباشرة أو غير مباشرة، حتى حين سألت عن السبب وراء هذا الخروج الغير معهود كانت الإجابة أن هنالك تعاوناً مع بعض الدول الغربية في هذا السياق ليس إلا.

  قلت، والدليل على أن الحلول المقترحة مادية صرفة هو ربطها من خلال الأسئلة الموجهة بالمستوى المعيشي، أو عدد الأبناء، أو الدخل الشهري، أو العلاقات الأسرية، ولم ينح أحد السائلين منحى السؤال عن دخل الدين والعقيدة في هذه الأمور وكأننا أصبحنا نعيش على نمط غيرنا في فصل الدين عن مشاكلنا باعتباره ظاهرة تاريخية أو هو بمنأى عن الواقع والحياة.

   ولذا أردت التدليل على هذه الحقيقة التي يغفلها من تشبع بالمناهج المادية في التحليل للظواهر المفاجئة، دون ردها إلى الدين الذي جاءنا بالنور والكتاب المبين، يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام، ويرفع عنه الأوهام والأسقام، ويكرمه بخير الدنيا ومسك الختام.

                                          

الفراغ الروحي

    قد يستغرب البعض أنه وراء جميع الأوهام التي يتخبط فيها إنسان العصر، وهو لا يدري لأن الأمر خفي عنه وكثرة المشاكل لا تزيده إلا خفاء ومن شدة الظهور الخفاء، ولأن الإنسان لا يملك الوقت في التفكر والتدبر، والوقوف ولو هنيهة ليسأل نفسه عن سر وجوده، وعن حاله ومآله، وعن أسباب زيادة الإيمان، وعن مسالك الفتح الرباني، وعن حسن الخاتمة، وعن دخول الجنة، وعن التحقق من الغاية المنسية " وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون"، وغيرها من الأطاريح التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يزود بها الصحابة رضي الله عنهم، ويختبرهم ويبحث عن دائهم ويعجل بدوائهم، وترك فينا القرآن والسنة مرجعاً للشفاء وعاجل الدواء.

 قال عليه الصلاة والسلام لحارثة بن زيد يوماً: كيف أصبحت يا حارثة؟  قال: أصبحت مومناً بالله حقاً. فاختبره النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: لكل شيء علامته فما علامة إيمانك؟ قال: عزفت نفسي عن الدنيا فأظمأت نهاري وسهرت ليلي ورأيت عرش ربي حقاً.. الحديث.  فقال عليه الصلاة والسلام: عرفت فالزم.

وهذا توجيه تربوي منه صلى الله عليه وسلم قائم على ثلاث طرائق في التسليك:

التلقين، ثم التمثيل ثم التمرين...

 وكان يكثر بين الصحابة مثل هذا الترشيد السلوكي كقول بعضهم لبعض " تعال نؤمن بالله ساعة"  وغيرها من التوجيهات المتعاهدة بينهم.

لم لا نجد في تراثنا مثل هذا الطرح، وهو التساؤل عن الاكتئاب وأمراض العقل والأمراض النفسية والوحدة والانعزالية؟  لمَ لمْ يسأل السلف الصالح مثل هذا السؤال؟ بل لا نكاد نجد مصطلح الكآبة والضيق والقنوط في سير السلف، أفلا يكون وراء هذا كله فراغ روحي ونحن لا نبحث عنه، ولا نعيره اهتماماً؟ لأننا قد أضعنا مكونات وجودنا ففرغت الروح التي شرفنا الحق بها وأودعها في كياننا حين قال عن ابن آدم: " ونفخت فيه من روحي"، فرغت أرواحنا من واعظ يدلنا على حقيقة الأمور، ووازع رادع يجنبنا المزالق والمهاوي، وفي الحديث: " إذا أحب الله عبداً جعل له واعظاً من نفسه وزاجراً من قلبه يأمره وينهاه"

  ولعل من الأسباب المفضية إلى هذه الطوام والمهالك:

                               

1. النزعة المادية وطغيان الذاتية والاستهلاكية

   نعم، استحكمت المادة في نفوسنا وجعلناها الحكم في كل ما نقدم عليه، وهمنا إشباع الرغبات والنزوات وقضاء المصالح، حتى أصبح الإنسان كالآلة لا يبغي الآخر إلا ابتغاء قضاء مصلحته ثم تركه وشأنه، أين المحبة الإيمانية التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم من ثوابت الإيمان " أن يحب الرجل أخاه لا يحبّه إلا لله"

  بل لقد انتزعتنا الاستهلاكية من الإحسان إلى أقاربنا وتفكر أرحامنا والعناية بأرواحنا، فالإنسان همّه ما يصرفه في اليوم ثم ما يتغذاه غداً ثم مستقبل العمل وكثرة الأمل، غرته الأماني وغره بالله الغرور، وبقي يحتفظ بعنصر المادة فقط، ضيَّع جمالية الروح ومنطق التفكير وتعلق بعنصر يشترك فيه هو والحيوان، كالأكل والشرب والنوم والشهوة....

  ولذا أصبح إنسان العصر أقرب ما يكون إلى البهيمية يعمل ويكد ويلعب ويأكل ويشرب وينام... بل من البهائم من يفوقه فالفرس أسرع والطير أسمع والهر أنفع، وهذه معادلة قلَّ من يتفطن لها، هو أن الإنسان قد يرتقي إلى مستوى أفضل من الملائكة إذا زكى روحه وكبح جماح شهوته عن الحرام، لأن الإنسان مبتلى بغرائزه فإذا ربَّى نفسه وصرف هواها ارتقى مقامه، فهي أي:

النفس، كالطفل إن تهمله شبَّ على        حبِّ الرضاع وإن تفطمــه ينفطم

  بينما الملائكة لا شهوة لهم بل هم يسبحون الليل والنهار لا يفترون.. وقد ينزل الإنسان إلى مستوى أضل من البعير كما صوره القرآن الكريم "أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون" وقال سبحانه: " صمٌ بكمٌ عميٌ فهم لا يعقلون"، يطلق سراح هواه فلا يفرق بين الحلال والحرام والحق والضلال، ويفعل من الذنوب ما يستحيى من ذكره، كاغتصاب الرجل لابنته وقتله أمه وذبحه أباه، وما خفي كان أعظم، وهذا أمر يحتاج إلى دراسات علمية تقود فيها الشريعة بحوث الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس لتصل في النهاية إلى ضعف الوازع الديني وشيوع الفراغ الروحي.

  ولا يعني هذا أبداً الخروج عن التكريم الإلهي للإنسان لأنه سبحانه بعد أن ذكر ذلك في قوله "ولقد كرّمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات..الآية" استثنى منه بدلالة السياق والتبعية "... ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً "

 وأثّرت المادية المذكورة حتى على طريقة عبادتنا فأصبحنا نتعبد من أجل الجزاء فقط، لا طلباً للاستقامة ولا الاستدامة فإذا خرج رمضان مثلاً ولَّينا الأدبار، ثم إذا كثرت الذنوب ولَّينا الوجهة شطر المسجد الحرام عازمين على محو الذنوب ثم العود إلى ما كنا عليه من قبل، ويصدق علينا قول من قال:

أوردها سعد وسعد مشتمل         ما هكذا يا سعد تورد الإبل

فلا تجد للعبادة مذاقاً ولا حلاوةً وعَرْفا، صلاة مستعجلة، وزكاة متأخرة، وصيام بلهو ورفث، ولا ورد يومي لا من القرآن ولا الأدعية، ولا صحبة الصالحين ولا قراءة سير الأولين، ثم نقول قد أصابنا الوهن والاكتئاب وضعف اليقين.

                                          

2. قلة الوعي الديني

هذا سبب آخر من أسباب الفراغ الروحي، لأن أول ما فرضه علينا ديننا كما يعرف الخاص والعام طلب العلم والحرص على القراءة بشرط أن تكون قراءة ربانية لأنها هي الوسيلة لأمن النفوس وراحة الأرواح "اقرأ باسم ربك"، وهذا الشّرط ينبغي أن يتحقق على مستوى تدريس أبنائنا وبناتنا حتى نربطهم بأصول الشرع وربانية التلقي، لا بأس أن نقرأ في مؤسسات أجنبية ولكن لا بد من الحصانة الداخلية، كيف نلقى الله وقد تركنا خلفنا ذرية لا تحفظ حتى الفاتحة من كتاب الله عز وجل، وأنا لا أتكلم من منطق الفراغ ولكن، وقفت على شواهد لا تعد ولا تحصى وهي أكثر من أن تستقصى في وسط من درسوا بالجامعات الغربية حتى عسر عليهم حفظ قصار السور أو إتمام جملة مفيدة باللغة العربية، ناهيك عن أمية المثقفين الدينية..

بل نحن أزهد الناس في العلم والمعرفة وزيارة العلماء وسؤال أهل الذكر وهذا أمر تلمسته هنا في واقعنا في شهر رمضان، فتجد الفقيه يلقي دروساً في المسجد، والناس تصفّق، يا سبحان الله لقد تأخّرت أو أطلت أو أطنبت، ليخرجوا بعد ذلك إلى الجلوس على قارعة الطريق والكلام في أعراض الناس.

 بل العجب أنه كانت هنالك ندوات علمية يحضر فيها علماء متخصصون وتتناول قضايا هامة وتجد أهلنا أزهد الناس فيها، ليس هنالك إلا نفر أو نفرين وهي قضايا اجتهاد ومستقبل الأمة وواقعها الاقتصادي وغير ذلك.

   فيا سبحان الله، إذا غابت القيم وشغلت الذمم واستولى الشره والنهم، وسم المجتمع بأرذل الأخلاق والشيم،  فهذه جملة أسباب هذا الداء العضال سوف نتبعها إن شاء الله تعالى بأسباب أخرى وبمظاهر تترى ثم نطرح العلاج لنحيا خير الآخرة والأولى.

والله الموفق.

 

 

 التعليقات: 1

 مرات القراءة: 7699

 تاريخ النشر: 25/06/2009

2009-06-27

زينا

جزاكم الله خيرا.

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 326

: - عدد زوار اليوم

7450043

: - عدد الزوار الكلي
[ 38 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan