::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مقالات متنوعة

 

 

الفراغ الروحي (2) : الغفلة عن الذكر والفكر

بقلم : الأستاذ عبد الله عبد المؤمن  

 

 ذكرت فيما سبق من أسباب الفراغ الروحي الذي ابتلي به الخلق وهم لا يدرون، وافتتنوا بعلله وهم ساهون، بعضاً من الأسباب التي أراها وراء شيوع هذه الآفة ملخصة في:

  ـ النزعة المادية وطغيان الذاتية والاستهلاكية

  ـ قلة الوعي الديني

   وهذا ليعلم كل ذي لب أن الله سبحانه وتعالى أجمل ذكر هذا الجانب في القرآن فذكر كرامة الأرواح وزكاتها قبل وبعد الانتقال إلى جوار ربها، ثم خلوها وفراغها في عاجلها وآجلها، ولما كان الأمر كذلك كان ولا بد من وجود أسباب وخلفيات لا خلاف ولا مواربة في كونها مفضية إلى بطالة وعطالة أرواح المومنين، ويكفي ما ذم به الله سبحانه التعلق بالمادة والشهوة والركون إلى الخلود، وهو ما فسرته في الكلام عن المادية والوقوع في شباك الاستهلاكية وفخاخ التحضّر والتمدّن السلبية، ثم ما يحدثه الجهل بالدين ومفاهيمه من طوام تجني على نفس الإنسان ودينه وعاقبته في دنياه وأخراه، وذانك السببان من أوجه الأسباب التي تفرغ الروح من محتواها وتفشل من عمّرها وزكاها وتزيد في خيبة من دسّاها.

   ومن الصور الجمالية المبثوثة في القرآن الكريم والتي عنت بهذه الحقيقة النورانية قول الله سبحانه وتعالى في سورة الواقعة: " فأما إن كان من المقربين فروح وريحان وجنة نعيم" وفي هذا الموطن إشارة جليلة إلى كمال الأرواح قبل الانتقال إلى جوار ربها والتنعم بجنته ولقائه ورؤيته، وقد قُرِئت "الروح" في الآية بالضم، والمعنى يفيد سكينتها وطمأنينتها وأمانها حتى تلقى ربها، وقال بعض المفسرين في معنى " فروح" أي راحة روح قبل لقاء الله عز وجل، وزاد تفسير هذا المعنى سياقه حين ذكر الريحان، من طيب أهل الجنة وعرف ريحها، ويؤكده ما قاله أبو العالية رضي الله عنه: أن المقربين لا ينتقلون إلى جوار ربهم إلا بعد أن يكرمهم الله بشم ريحان الجنة وهم على فراشهم أو كما قال، ثم بعدها الدخول إلى جنات النعيم.

  وذا الأمر نشهده في سويعات احتضار كثير من أهل الإيمان ونقرؤه في كتب السلف الصالح وتراجم المتقدمين، كيف يختم الله عز وجل على أرواح المقربين بلذة القرب وحب اللقاء، ولنا الأسوة في سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يردد في آخر لحظة من فراق الدنيا: " اللهم الرفيق الأعلى"

  الشاهد عندنا في هذا الصدد هو ما يقابل هذا المشهد الجمالي من مظاهر أخرى لفراغ الأرواح واشتغالها بما يصرفها عن مراد ربها، وتركها لحياتها وعمارتها الموصلة إلى المحبة والإيثار، والتفكر والاعتبار والتي وسمها بعض العارفين في محبة الصالحين:

تضيق بنا الدنيا إذا غبتم عنا     وتذهب بالأشواق أرواحنا منا

    وإني ذاكر هنا سبباً ثالثاً بعد ما ذكرت، حتى يقف الإنسان على تشخيص هذه الآفة، وهو:

                                    

3. الغفلة عن الذكر والفكر

     وهذا ما يضاف إلى الأسباب المتقدمة التي تختفي وراء ضمور وفتور الوازع، وغياب الجمال الروحي مما يجعل المرء أسيراً في قالب المادة بما تفرضه من هموم وكدر، وحزونة وضجر، يخرج على الناس في زينته فيقول ضعاف العقول يا ليت لنا مثل ما أوتي إنه لذو حظ عظيم، ولكنهم لا يدرون أن الشرف والتكريم في ما احتواه إيمانه وغزر به يقينه وجملت به روحه، ولذا كان الإيغال في التعلق بالدنيا رغبة ومحبة مما يحدث التجافي والبعد عن المقصد الأسمى والغرض الأسنى الذي ربطه الله عز وجل بخلق الملك والملكوت، ووسم به الإنسان بأجمل نعوت، حين قال عز من قائل:

  " إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض.. الآية"

   الذكر ما تبتهل به الألسن وتفيض به الأرواح ويحصل به الأنس وهتك الهوى الفضاح، والذكر ربط الصلة بالمدد الإلهي والفيض الرحماني حتى لا ينقطع الوصل فيحصل الفصل، الذي يفضي إلى تشنج الجوارح ومرض القلوب.

  الذكر الذي ترغب عنه إلى الكلام الساقط وإلى جلسات يومية يطغى عليها طابع النكتة واللهو ونبش أعراض الناس، وتخصيص حصص متتالية لزيارة المقاهي وأماكن الفراغ، حتى تجد في الشارع الواحد عشرات المقاهي ومئات نوادي اللعب والترفيه، وأضحى ذلك أنجح مشروع وأفضله بدل المكاتب ودور الثقافة وغذاء العقول والأرواح، كل ذلك نزولاً عند رغباتنا واستجابة لنزواتنا، فلو كنا أهل فكر وذكر لما طاب لنا تخصيص الفراغ بما لا طائل تحته وهدر الوقت الذي سنسأل عنه يوم القيامة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: "نعمتان مغبون فيهما الإنسان: الصحة والفراغ" وقد ألف أهل العلم مصنفات في الحث على حفظ الوقت وذكر قيمته وكيفية عمارته، كتلك التي خصصت لعمل اليوم والليلة، وأوقات النفحات وقيمة الزمن عند العلماء وغيرها.

  فبدل أن يبحث الإنسان عن مجال يعمّر فيه روحه تجده ينفر عن ذكر الله، يمضي يومه دون أن يقرأ فيه ولو جزءاً من القرآن أو حصة من الاستغفار أو.. وهو يوم جديد وعلى عمله شهيد، حتى تمضي السنة ولم يختم ختمة واحدة فما بالك بمن لقي الله وهو على هذه الحال؟

  فالإنسان أخي القارئ حين يشتكي من جلل المصاب والقلق والاكتئاب فهذا سببه تغييب ذكر الله تعالى من النفوس وهو مآل الغافل الجاهل، قال تعالى "ومن يعش عن ذكر الرحمان نقيض له شيطانا فهو له قرين"

 أي والله، ما بالك بمن ظله شيطاني يقوده هواه إلى ما لا تحمد عقباه،  وهذا أثر الفراغ الروحي بعد غياب الذكر المحدث بؤساً وحياة ضنكاً، وهمّاً وغمّاً وقلقاً وحزونة قلب وخشونة طبع وقِس على ذلك، وقد صدق ربي عز وجل في كتابه العزيز:

 " ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى"

    ليس هنالك أجمل من أن ينبض القلب بذكر الله تعالى مستحضراً الخشية والرهبة، والطمع في رحمته والرغبة، وليس هنالك أكمل من أن تنبس الشفتان في كل يوم وليلة بأوراد واستغفار وقرآن ودعاء، فلو تعود المرء على ذلك ما كان للمكروه أبداً أن يحدق به، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه، ولا يفوته اليوم دون أن يستغفر الله مائة مرة صلى الله عليه وآله وسلم وشرف وكرم وعظم، وهو المقصود في الآية المتقدمة بذكر الله قياماً وقعوداً وماشياً ومهرولاً ونائماً ومستيقظاً، وفي كل الأحوال والأوقات.

   والذكر وصله الله سبحانه بالفكر وما كان للمؤمن أن يفصل بين معنيين زكاهما الله ولهذا قال سبحانه "ويتفكرون في خلق السماوات والأرض"

   وللفكر في كتاب الله المنظور ـ أي ملكه وخلقه ـ بعد الذكر في كتابه المسطور، جمال ما بعده جمال، وبغفلة الإنسان عن ذلك ينطفئ في روحه جوهر الفكر الموصل إلى حقيقة الوجود وصدق التوكل وحصول الرجاء والخوف، والارتواء بعد الظمأ والأمن من الخوف والمطعم بعد الجوع.

  غياب الفكر هو غياب للاعتبار والاستقرار، ولذا نرى الإنسان يربط مستقبله وحياته مثلاً بفلان أوعلان، ولو تفكر لوجد أن الأمر بيد الله يؤتي من يشاء ويصرف عمن يشاء ويعز من يشاء ويذل من يشاء بيده الملك وإليه المصير وهو على كل شيء قدير.

  آه، لو توصل الناس إلى هذه الحقيقة والتي لا تستدعي إلا بضع هنيهات في الوقوف أمام مرآة الكون، عشرون دقيقة في اليوم يقفها الإنسان ممتثلاً خاضعاً خاشعاً ينظر إلى سر الله في الوجود المفتقر إلى غناه، والمحتاج إلى رضاه، لو أمعن لتوصل إلى ثقة مستديمة وكمال يقيني وعقيدة أثرية متينة، وهذا أطيب ما ينشده الإنسان في واقع التيه والحيرة:

أطيب ما هي أوقاتــــي       حين أكون مجموع مع ذاتي

حين أكون مع ذاتي مجموع     ترى شمسي منــي تطــلع

ويـجيء فقري مطبــوع

الوجود قد بان                     وترى الإنســان

جميع الأكوان                    كلها من جزئياتي

حين أكون مجموع مع ذاتي

ولذا كان حرياً بالمؤمن التفكر في الذات والعالم الخارجي فهذا يزكي روح الإنسان ويستنهضها من غفلتها وسباتها، لاستخلاص العبر وطيب الأثر، ولذا جاء في الخبر:

" تفكروا في الخلق ولا تفكروا في الخالق"

    انظر مثلاً حاجة الإنسان في الأيام الأخيرة إلى نزول الغيث وهطول المطر وإلى سقيا الرحمة، كيف يحتاج الزرع والبهائم إلى رحمة الله ؟ وكيف اصفرَّ لون النبات وانكسر عوده؟ كأنه يشكو ضيقاً وحرجاً، وكيف يلحق من جراء ذلك الضيق بالرزق والمعيشة؟ فالفكر هنا لا بد وأن يحدث هزة تزلزل القلب فينصرف إلى الذكر، ولذا يهلل الناس في المساجد بطلب الغيث والاستنجاد برحمة الله، والاستكثار من الاستغفار "استغفروا ربكم إنه كان غفاراً يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا". 

   فهذا عين الفكر الذي إذا غاب عن الروح ضاع وشرد صاحبها، ولكن بحضوره يردك الله إليه رداً جميلاً، فتصل إلى أن انقطاع الغيث والمطر من أسبابه العصيان وكثرة الذنوب وتستيقن أنه بذلك شحّ الرزق وهلك الحرث والنسل، ولحق الشؤم بالدابة والجماد، والبلاد والعباد، وانظر إلى جمال الوصل بين الفكر والذكر، فهذا يصبّك في ذاك، وإذا غاب الاثنين فذاك منتهاك.

   وهنا وقفت على كلام جميل لسيدي عبد القادر الجيلاني في"الفتح الرباني" رضي الله عنه:

  " يا غلام، إذا صحت خلوتك مع الله عز وجل، دهش سرك وصفا قلبك، يصير نظرك عبراً، وقلبك ذكراً، وروحك ومعناك إلى الحق عز وجل واصلاً. التفكر في الدنيا عقوبة وحجاب، والتفكر في الآخرة علم وحياة للقلب، وما أعطي عبد التفكر إلا أعطي العلم بأحوال الدنيا والآخرة"

  فلا خلاف إذن أنه من أسباب فراغ الأرواح غياب الذكر والفكر، وحصول الغفلة اللامتناهية والتي قد كثرت أسبابها وتوفرت عللها، مما يصرف بال الإنسان عن نشدان الخير، فيثقل الذكر على الذاكر، وإذا رفع يده للدعاء سرعان ما يقبضهما ويمضي وقد وصف الله المنافقين بقوله: "ولا يذكرون الله إلا قليلا "

  أو إذا دعا ولم يستجب له تعجل وتذمر وقال دعوت فلم يستجب لي، وانقلب على وجهه حائراً يدور، فيجد الخلاص في المعصية والرزية ويزين له الشيطان طرق الهوى فيخسر الدنيا والآخرة، فهذا لعمري سبب وجيه لفراغ الأرواح ننزله تنزيلاً على كل المظاهر المتعددة التي نجمت عنه في واقعنا وحياتنا اليومية ولذا سوف ننتقل إن شاء الله تعالى إلى ذكر المظاهر بعد الأسباب، ونشرف بعدها على طرق العلاج وزكاة الأرواح، وأملنا في الله كبير وما خاب عبد لجأ إلى مولاه.

 

                              

 

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 5087

 تاريخ النشر: 30/06/2009

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1420

: - عدد زوار اليوم

7404131

: - عدد الزوار الكلي
[ 68 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan