::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مساحة حرة

 

 

قراءة أخرى لنظرية الزبد

بقلم : د . أحمد خيري العمري  

{فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض} الرعد/ هناك قراءة سائدة و منتشرة لهذه الآية الكريمة حالياً، يسميها البعض "نظرية الزبد" و هي نظرية تكاد أن تتحول إلى عقيدة جبر معاصرة، إذ إنها تروج- دون اتهام أصحابها أنهم يتعمدون ذلك- للاستسلام للوقائع والأحداث والمتغيرات.

و هذه العقيدة تتنكر خلف النص القرآني، لترسخ فكرة أن كل شيء مخالف للمشروع الإلهي ، سيذوب ويختفي ويذهب مع الزبد— أما ما ينفع الناس (أي إنه موافق للمشروع الإلهي)، فهو سيمكث في الأرض .. و نحن مطمئنين إلى النتيجتين طبعاً لكن المشكلة في هذه القراءة أنها توحي أن ذلك يحدث" بشكل تلقائي" ..دون تدخل من أحد .. و هذا يرسخ حتماً فكرة "ألا داعي لعمل أي شيء"، لا داعي حتى للقلق أحياناً، نظرية الزبد كفيلة بكل شيء.. وما علينا سوى أن ننتظر.. حتى لو لم نرَ أي تغيير ضمن حياتنا.. لا بأس.. نظرية الزبد تحتاج بعض الوقت..

يستوي أمام نظرية الزبد كل أنواع التحديات المخالفة للمشروع الإلهي : الأيدلوجيات والأفكار الحديثة و أنماط الحياة كما الجيوش و القوة العسكرية و نتائجها ، كل" الباطل" بالنسبة لهم خاضع لنظرية إنه سيذهب تلقائياً..

إذا قلنا مثلاً إن الحروب الظالمة تصبغ وجه العالم ، و إن الملايين يشردون كل عام ، و إن "الرق الجديد" يضم شعوباً كاملة بدأت تفقد حريتها دون أن تدري ذلك ، قالوا لا داعي للقلق، هذا كله مجرد زبد سيزول بينما يسير التاريخ إلى الأمام ، و إذا قلنا لهم إن الفساد الخلقي بدأ يتسلل ليدمر بنية الأسرة و المجتمع سواء اعترفنا بذلك أو أنكرناه و إذا ذكرناهم أن تيارات التجديد الديني المزعوم صارت تستخدم النص الديني من أجل إلغاء النص و قتل مقاصده..  و أن وسائل الإعلام بمخالبها الأخطبوطية صارت تقوم بعملية إعادة تشكيل العقول بحيث تنتج تسطيحاً للعقل و تتفيهاً للفكر وتحويلا للإنسان إلى" إنسان ذي بعد واحد".. رغم كل ذلك سيقولون: لا بأس، كل ذلك زبد.. كل ذلك سيزول.. كما يذهب الزبد، لا داعي للقلق، فقط اتركوا السيل يأخذ مجراه..

وكل ما نراه هو أن الزبد يربو أكثر وأكثر، ويتكاثر، مثل دغل شيطاني يمنع نمو أي نبات مثمر.. ويقول أصحابنا، و على وجوههم ابتسامة الواثق من النصر، لا شيء يهم، إنه فقط زبد.. مشكلة هذه الرؤية إنها تعتبر أن "المشروع الإلهي" هو مشروع يقصي الإنسان من الفعل ومن البناء — وإن الأحداث تسير لوحدها، دون أن يكون في إمكان الإنسان — المكلف أصلاً بالبناء والاستخلاف — أي شيء سوى مراقبة ما يدور، والتنظير له باعتبار الزبد وذهابه.. إلخ. والحق أن المشروع الإلهي في أصله قائم على استخلاف الإنسان واستخلاف إرادته الحرة على هذه الأرض — والإنسان الذي سيحترف انتظار أن يذهب الزبد لن يكون جزءاً من هذا المشروع.. بل إنه، سيكون برؤيته هذه، وربما بحسن نية، ودون قصد، جزءاً من مشروع آخر، ما دام يعوق التفاعل الإنساني، ويحوله إلى محض انتظار سلبي..

ولأن هذه الرؤية تتمترس خلف نص قرآني مقدس، نؤمن نحن أن الباطل لا يأتيه من أمامه أو من خلفه، فإننا نؤمن أيضاً أن القراءة الإنسانية للنص المقدس، هي قراءة يمكن أن يأتيها الباطل من مختلف الاتجاهات، وإذا كانت قراءة النص تؤدي إلى اتخاذ موقف السلب والانتظار — مخالفة موقع "الفعل الإنساني" الذي هو أصل التكليف بالاستخلاف — فإنها لا يمكن إلا أن تعتبر "قراءة مجانبة للصواب" كائناً من كان مطلقها ودون الدخول في حسن أو سوء نيته.. إنها قراءة "تبريرية" في أحسن الأحوال.. تبرر العجز والكسل وحالة اللا فعل..تبرر أن الزبد هو الرابي، وهو المهيمن، وهو الذي يكاد يغرقنا ويكسحنا..وتقول لنا، لا داعي للقلق.. إنه سيذهب جفاء..

بينما يقولون لك ذلك، فإن الآية الكريمة بريئة تماماً من ذلك.. فالآية تقول طبعاً إن الزبد يذهب جفاءً ، لكنها لا تقول أبداً إن ذلك يجب أن يمنعنا من الفعل و العمل بحجة "رجاء" ذهابه ، ذلك أن الجزء المتمم للآية الذي لا يمكن أبداً أن نفهم الصورة كاملة إلا به ، هو أن ما ينفع الناس يمكث في الأرض ، و هذا يعني ، بوضوح ، إنه يمكث في باطنها، و إن الناس لن ينتفعوا به إلا إذا استخرجوا منها : أي إذا امتلكوا الوعي و الإرادة و الفعل اللازم للتدخل..

و هكذا فإن الزبد قد يذهب ، بعد أن يكون قد علا ، لكن زبداً آخر سيأتي، و يأتي .. ويظل يأتي ، ما لم يحدث تدخل يخرج ما ينفع الناس من مكوثه في باطن الأرض.. و الذي يحدث الآن ، إن "الباطل " لم يعل فحسب ، بل إن هناك تدخل واضح لاستبقاء الزبد وجعله هو الرابي دائماً و هو المهيمن.. أي إن أهل الحق لا يتدخلون باعتبار أن الزبد سيذهب جفاءً ، أما أهل الباطل فهم يعملون على إبقائه في القمة.. و هذا يفسر تزايد الزبد و علوه طبعً..

أكثر من هذا أن الآية الكريمة نفسها توضح أهمية الفعل الإنساني في إذهاب الزبد و إزالته فما تشير إليه الآية " و مما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله" فلفظة "مما يوقدون عليه" تشير إلى وجود "فاعل" هو الإنسان الذي سيوقد من أجل تنقية المعادن — من الحديد أو النحاس أو الذهب و الفضة، ابتغاء الحلية أو المتاع كما توضح الآية- وكلها يعلوها "زبد" لن يذهب إلا بالفعل الإنساني الملتحم بالمشروع الإلهي و أوامره.. مفهوم الآية إذن، هو العكس والضد التام مما يرونه فيها، الآية تقول إن الباطل يعلو (يربو) — ولو لفترة من الزمن، ويعني ذلك، أن عليك أن تتصدى، لكي تفهم الآخرين أن ليس كل ما يعلو التيار هو صحيح — ذلك أن السيل سيأتي بزبد آخر، وآخر، وآخر، كلهم سيكون (رابياً) — كذلك فإن الكثيرين سينخدعون به.. أما (الحق) — (ما ينفع الناس) فهو يحتاج أيضاً إلى فعل وتدخل، لأنه غالباً ما يكون يحتاج إلى إظهار، في باطن الأرض.. يحتاج إلى استخراج وتنقيب وتمحيص وعمليات تنقية.. وفي الحالتين، فإن المؤمنين بنظرية الزبد، ممن يقولون أن لا داعي للقلق، سيجدون أنفسهم وقد جرفهم السيل، قد يعتري بعضهم بعض القلق، لكنهم سيتهامسون أن لا شيء يهم، إنه فقط الزبد.. بينما الآية الكريمة تقول لنا ، في الحقيقة ، أن نعمل على إذهاب الزبد..

كي لا نذهب نحن كزبد..

 

http://www.alqlm.com/index.cfm?method=home.con&ContentId=471

 

 

 


 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 3204

 تاريخ النشر: 06/11/2008

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 599

: - عدد زوار اليوم

7400835

: - عدد الزوار الكلي
[ 44 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan