::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مقالات متنوعة

 

 

حقيقة تحكيم الشريعة

بقلم : د.أحمد الزهراني  

 

 

يولد الإنسان خلياً عن العلم والإيمان، ويبدأ رويداً رويداً يكتسب معارفه وعلومه وعاداته حتى يبلغ سنّ التكليف، والله سبحانه لا يؤاخذه بشيء، بل يصبر عليه حتى يبلغ سناً يُفترض فيه أنّه قد تأسس لديه ما يشبه البنية التحتية أو القاعدة والأساس الّذي يمكن أن يُبنى عليه قانون الثواب والعقاب؛ فيُحمد على الحسن ويُذمّ على القبيح، ويُؤاخذ بما تقترف جوارحه، سواء في الدنيا أو الآخرة.

وهذه الفترة الزمنية تمتد إلى خمس عشرة سنة أو أقل بقليل، وهي فترة طويلة من حياة الإنسان قد تشكل ربعه أو خمسه عند غالب الناس، ومع هذا فالشريعة لا تعجل عليه حتى يستقيم عوده، ويصبح أهلاً للتكليف.

ليت كلّ الجماعات والأحزاب والحركات الّتي تقاتل من أجل تحكيم الشريعة تعي هذه السنة الكونية الشرعية وتتأملها جيداً؛ إذ أنا على يقين أنّ المنهج الذي تنتهجه هذه الحركات بعيد كل البعد عن الفقه الصحيح في مسائل السياسة الشرعية، ولهذا فهي غالباً ما تؤول إلى السقوط ويحصد ثمرة جهدها غيرها.

إذا كان هذا تعامل الشرع مع الفرد وهو وحدة واحدة تتشكل منها المجتمعات، فكيف يمكن الاستفادة من هذه العبرة في تربية وسياسة المجتمعات؟ الحقيقة أنّ هذا لا يحتاج إلى اجتهاد، بل نظرة سريعة في تاريخ التشريع الإسلامي ومراحل تكون النظام السياسي وغيره تعطيك الحقيقة جلية، وهي أنّ الشريعة تعاملت مع المجتمع كما تعاملت مع الفرد، فكثير من التشريعات جاءت متدرجة، وبعضها جاء تابعاً لبعض، تحريم الخمر من الأمثلة المشهورة، فلك أن تتخيل أنّ أصحاب بدر وأحد من خيرة الصحابة كان بعضهم شارباً للخمر! نعم كان ذلك في وقت لم ينزل فيه تحريم الخمر.

بل التشريع الإسلامي كله راعى هذه السنة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: «إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام، نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندع الخمر أبداً، ولو نزل لا تزنوا لقالوا لا ندع الزنا أبداً، لقد نزل بمكة على محمد صلى الله عليه وسلم وإني لجارية ألعب: (بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر). وما نزلت سورة البقرة والنساء إلاّ وأنا عنده».

ونحن نلاحظ التركيز في مسألة تحكيم الشريعة على جانب العقوبات مع أنّ هذا الجانب ينبغي أن يكون صاحب السلطة على حذر كبير وحساسية شديدة تجاهه؛ لأنّ العقاب مدعاة لتولد الكراهية والعداوة؛ خاصة حين يكون تطبيق العقوبات معزولاً عن بقية الجوانب التشريعية.

على الجماعات والحركات الإسلامية التي تباشر مسائل الدعوة والجهاد والتربية أن لا تعجل على الناس في تطبيق الشريعة، سواء ذلك المتعلق بالعقوبات أو الإلزام، وأن تسير بالمجتمع سيرة الشريعة مع الطفل الصغير الذي يُعفى عنه مدة من الزمان، ويُشجَّع مدة من الزمان، ويُعلّم بعد ذلك، ويوجّه، ويوبخ، ثم آخر الأمر يُسلك معه مسلك العزيمة.

وهذا الذي ذكرته يشمل كل حالات الدعوة، بمعنى أنّ الأمر لا يتغير سواء كان الإسلاميون في السلطة أم كانوا خارجها، فإذا كانوا هم أصحاب السلطة فسيرة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم خير أنموذج في هذا الجانب، وإذا كانوا خارج السلطة فالأمر أشدّ؛ إذ عليهم أن يصبروا على الناس بمن فيهم الحكام والولاة وألاّ يستعجلوا منهم ما لا طاقة لهم به حتى تتكون لديهم الأسس العلمية والإيمانية الّتي يمكن أن يُبنى عليها البناء الإسلامي وفق رؤية متكاملة صلبة تتأثر وتتفاعل وتمرض وتضعف، لكنّها لا تموت ولا تُستأصل.

إذا عرفنا هذا عرفنا حجم الضرر الذي لحق بالدعوة والجهاد في مناطق من العالم اختارت الحركات الجهادية حين مُكّنت في بعضها تمكيناً نسبياً أن تعلن عن تبنيها تحكيم الشريعة عن طريق قطع أيادي الجوعى، وجلد الرجال والنساء، وإقفال دور السينما، وحرق محلات الفيديو ومطاردة المقاهي والجالسين فيها، في مجتمع وقع ضحية التغريب، وتغييب الشرع فترة طويلة.

إنّ قضية تحكيم الشريعة قضية أصابها الابتذال كثيراً؛ فمرة هي مجرد شعارات تُمرر من تحتها الأباطيل، ومرة تتحول إلى أداة لتعذيب الناس عن طريق التعمق والغلوّ فيها، وكلّ هذا سببه النظر إليها نظرة مجتزأة.

فتحكيم الشريعة يجب أن يكون ذا مرجعية سلطوية واحدة، لأنّ الشرع ليس مجرد قانون عقوبات، ولا مجرد قانون أحوال شخصية، أو غير ذلك. الشريعة مثل الآلة ذات التروس المتعددة التي تتناغم أسنانها وتتشابك في دورانها حتى تؤدي وظيفة ضبط إيقاع السلوك الاجتماعي وفق النصوص الشرعية، وهو أمر في غاية الدقة لا يجوز الأخذ بجانب منه وترك آخر، وإلاّ توقفت الآلة أو أصابها خلل يجعل منها آلة تخريب لا ضبط.

تأمل معي ما يلي كمثال نفهم منه الأمر بشكل أوضح:

قانون العقوبات هو سياج يحمي ويردّ من يخرج عن الطريق إلى جادة الصواب، ويكون عبرة لغيره، وهذه العقوبات تتداخل مع عدة أنظمة شرعية، دعنا نأخذ العلاقة بين الرجل والمرأة كمثال، فالله تعالى أمر بالحجاب وحرم السفور والتبرج والخلوة والسفر بلا محرم، وغير ذلك من المحاذير الّتي تعين على بقاء الجريمة الأخلاقية -أي الزنا- في أدنى مستوياتها.

فيأتي حدّ الزنا أو العقوبات الأخرى التعزيرية كحل أخير لمن لم تنفع معهم التربية الأخلاقية، ولم يُجْدِ معهم النظام الاجتماعي المنضبط، فتكون العقوبة لتأديبه وزجره عن التكرار أو الاستعلان بالخطأ، هنا نقول إنّ تطبيق الحد الشرعي أو العقوبة التعزيرية قد جاء فعلاً تطبيقاً صحيحاً للشريعة.

لكن!

حين يكون المجتمع ضاجاً بمختلف أنواع السفور والتبرج وربما التعري، سواء ذلك في الشارع أو أماكن العمل والدراسة أو في وسائل الإعلام وتكون العلاقة بين الرجل والمرأة هي محور القصة والخبر والعمل السينمائي والمسرحي بل وحتى الدعايات المصورة لمختلف المنتجات التجارية توظف فيها المرأة وجسدها بصورة في غاية الجمال والإغراء؛ فهذا يعني أنّ البيئة الّتي يعيش فيها الإنسان بيئة دافعة وبقوة تصل أحياناً إلى شبه الإجبار والإكراه تحت ضغط الغريزة التي تتحول بفعل البيئة المشجعة إلى غول يصعب على الكثير من الناس مقاومته، وكل هذا يحصل تحت سمع وبصر السلطات؛ فحين يقع شخص ما في جريمة الزنا أو ما دونها مما يجري مجراها فيُقام عليه الحد أو العقوبة التعزيرية فإنّ هذا -وإن ظنه البعض تطبيقاً- للشريعة لكنّه تطبيق مشوّه لا يؤدي إلى تحقق الحِكَم الشرعية من العقوبة، بل يصبح ذلك مدعاة لكراهية الناس للدين والشريعة الّتي لا تظهر لهم إلاّ في صورة الجلاّد الذي يقطع الأعضاء، ويجلد الظهور، ويسجن وينفي ويصادر الأموال، ويزيد الأمر شدة وسوءاً حين يُستثنى من العقوبة أشراف الناس!! فانظر وتأمّل أيّ نفس سويّة تقبل الدعوة لتطبيق الشريعة بمثل هذا الاجتزاء والتشويه.

الشريعة الإسلامية بكل أنظمتها يجب أن يبرز فيها جانب الرعاية والرحمة، لا أن يُهمل منها هذا الجانب ويبرز فيها القسوة المجردة؛ إذ حتى بعد تطبيق العقوبة الشرعية تتحول العقوبة إلى حكم أبدي يلاحق المحدود، ولا يجد من يعيد للمحدود شخصيته الاجتماعية، وإذا عدنا إلى سنّة النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم نجده يقول في حقّ الخزاعية الّتي سرقت فقطع يدها: «أنت اليوم من الخطيئة كيوم ولدتك أمك»، ونُقل عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم: «أنّه كان بعد ذلك يصلها ويرحمها»، وكان يقول عن مدمن الخمر الذي كان يُؤتى به ويُجلد في الخمر: «إنه يحب الله ورسوله»، وهذا يعني أنّه يعالج الأثر النفسي الذي تحدثه العقوبة، وهذا ما لا نعلمه يكون في الواقع.

وخلاصة الأمر- حتى لا يُفهم عني الدعوة لتعطيل الحد الشرعي - أقول: إنّ الشريعة نظام كامل مترابط الأجزاء، يبدأ من التربية والتوجيه وتوفير البيئة ومنع المثيرات وأسباب الخطأ، ويمر بمعاقبة المخطئ، ولا يتوقف عند استصلاحه مرة أخرى وإعادته إلى جادّة الصواب، أمّا اقتطاع جزء من الشريعة وتطبيقه بحذافيره وبصرامة قبل استكمال الأساسات التي يقوم عليها فأخشى أن يكون هذا التطبيق المشوّه للشريعة عائداً بنتائج عكس ما شُرعت له الأحكام، والأمر لله من قبل ومن بعد.

 

المصدر: الإسلام اليوم

 

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 3510

 تاريخ النشر: 05/09/2009

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1907

: - عدد زوار اليوم

7467523

: - عدد الزوار الكلي
[ 49 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan