القدوة في وسائل الإعلام في زمن أضحى فيه بطل الأمة أفضل من رقص وغنى...
بقلم : سهير على أومري
القدوة في وسائل الإعلام
في زمن أضحى فيه بطل الأمة أفضل من رقص وغنى...
أريد أن أصبح مثل أبي بل مثل أمي، مقولة كثيراً ما رددناها عندما كنا صغاراً، ونسمع الكثيرين من أطفالنا اليوم يرددونها، ذلك لأن الطفل أول من يقتدي به ويتأثر بسلوكه ويحاول تقليده أمه وأبوه، ولقد أثبتت الدراسات والأبحاث الاجتماعية والنفسية أن على الآباء تعليم أبنائهم بطريقة إيجابية تبتعد عن النصح والإرشاد وتقوم على تقديم القدوة الحسنة والصورة المثلى، وذلك من خلال أفعالهم وسلوكهم لأن الطفل يكون كثير التقليد والمحاكاة لكل ما يفعله الوالدان أو يقولانه.
حتى إذا ما تقدم الطفل قليلاً في السن أصبحت دائرة التأثير في سلوكه وأفعاله أكبر لتشمل أسرته الكبيرة المؤلفة من أخوته وأقاربه بالإضافة لوالديه، ولتشمل مدرسته وجيرانه والرموز والأعلام التاريخية والقومية والاجتماعية التي يقرأ عنها أو يراها في وسائل الإعلام، وهنا يبرز هذا الدور الخطير للمؤسسات الإعلامية السمعية والبصرية والمقروءة في تجسيد القدوة للناشئة والأطفال...
**ذكريات لا تنسى:
وإني لا أنسى إلى الآن الفترة التي عُرض فيها مسلسل "رأفت الهجان" لأول مرة كيف أصبح هذا الرجل قدوة للكثيرين من أبناء وبنات جيلي، ولا أنسى كيف تعدّى إعجاب العديدات ممن حولي بهذا البطل الأسطوري، ليصبح إعجاباً متناهياً بالممثل محمود عبد العزيز، وكأنه أصبح رأفت الهجان نفسه ذلك المناضل الذي خدم وطنه على حساب نفسه واستقراره، فكانت صوره وقتها تباع هنا وهناك، وتعلّق في البيوت وعلى الجدران، وتلصق على الكتب والدفاتر... حتى أصبح من المستنكر رؤية هذا الممثل في أي عمل فني آخر... وكيف يمثل في عمل آخر وهو رأفت الهجان نفسه!!....
كما لا أنسى في فترة الاجتياح الإسرائيلي الأول للبنان في الثمانينات كيف أصبحت الشهيدة سناء محيدلي قدوة ومثلاً أعلى لنا نحن فتيات ذلك الجيل، وحتى أصبحنا نفكّر ونخطّط وبشكل جدي للتطوع والتدريب للقيام بأعمال استشهادية كما فعلت هذه البطلة، وخاصة أنها فتاة استطاعت أن تحقق ما لم يقدر عليه الرجال.......
ومن منا ينسى عدد اللواتي رمين أنفسهن من شرفات المنازل يوم مرور جنازة عبد الحليم حافظ... وإن كنتُ لم أعاصر تلك الفترة إلا أن هذا الخبر تناقله الناس جيلاً بعد جيل.....
ردت أأممك أردت أن أقف هذه الوقفة لأبين وبشكل واقعي إلى أي مدى تؤثّر شخصيات القدوة التي تُقدَّم في وسائل الإعلام على تفكير الناشئة وطموحاتهم وأهدافهم، وكم يتوجب على القائمين على الإعلام أن يكونوا واعين لما يقدمونه.
وهنا يبرز سؤال هام... ما معنى القدوة؟
القدوة أو الأسوة هي الشخصية التي تجذب أنظارنا، وتلفت انتباهنا لنحبها حتى إذا أحببناها تمنينا وسعينا لأن نكون مثلها، فنقلدها عن قصد أو عن غير قصد ذلك لأننا نتأثر بها في عقلنا الواعي واللاواعي.
**كيف تُجسَّد القدوة في وسائل الإعلام المرئية اليوم؟؟
يتنوع إعلامنا المرئي بين المسلسلات والأفلام والبرامج بشتى أنواعها الإلقائية والحوارية وبرامج اللقاءات والمسابقات وبين الأغاني المصورة "الكليبات" والإعلانات... وتبرز فيها شخصيات متميزة تجذب إليها الأنظار، فتتطلّع العيون إليها، وترنو النفوس لأن تصبح مثلها، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا: ما الشيء الذي يتمُّ التركيز عليه في هذه الشخصيات لتكون شخصية صالحة للاقتداء؟ أهي مقومات نفسية وسلوكية أو مقومات شكلية وجمالية؟؟؟ وعلى أيٍّ من هذه المقومات يتمُّ التركيز عليه في وسائل الإعلام؟
أترك لك عزيزي القارئ الإجابة عن هذه الأسئلة والأمر لا يتطلب كثير عناء أو مشقة، فهو ليس أكثر من متابعة ما يقدَّم على شاشاتنا الفضائية العربية والمحلية في فترة السهرة فقط.... ولنقوم بإعداد نسبة مئوية لنرى عدد الأعمال التي تُقدَّم بهدف إبراز شخصية القدوة بشكلها وجمالها ومفاتنها، وشخصية القدوة بأعمالها و إنجازاتها النفسية والاجتماعية والعلمية، أيهما أكثر وأيهما له المساحة الأكبر في وسائل إعلامنا؟؟
**القدوة والإعلانات التجارية:
لقد أدركت الشركات التجارية أهمية ترويج منتجاتها وسلعها من خلال شخصيات محبَّبة تجذب الأنظار وتدفع المشاهد للإقبال على شرائها واستعمالها، فكان تركيزهم على استخدام العنصر الأنثوي، فأصبحت المرأة وسيلة لترويج المنتجات والسلع التجارية ممتهنين بذلك كلَّ ما كرَّمها الله تعالى به من عقل وعلم وصفات إنسانية، وغدا جسدها أداة للربح والبيع والشراء، فكانت الإعلانات التجارية على نحو ما نراه اليوم في التلفاز وفي الكثير من الإعلانات الطرقية والصحفية، وتعدّى الأمر أكثر من ذلك ليصبح صوراً ومشاهد غرامية نراها وتداهمنا هنا وهناك، ولا فرق بين أن يكون الإعلان لملابس النساء أو للأدوات الكهربائية.... كلاهما تروج له المرأة على حد سواء حتى إننا لنشتري على سبيل المثال ثلاجة يجب أن تسلِّط الكاميرا إضاءتها على جسد المرأة بكل تفاصيله المثيرة لنرى حجم البراد وسعته وطوله وعرضه.......
والأمر لا يقتصر على الإعلانات بل يمتد ليشمل أغلب أنواع المواد الإعلامية، فأغلبها إن لم نقل كلها تركز على جسد المرأة وأنوثتها ومقومات جمالها، وتُغفِل صفاتها وملكاتها الروحية والنفسية والعقلية، وكأن ليس لها في الحياة قضية إلا أن تكون أنثى مع أنها نصف المجتمع وتربي النصف الآخر وتؤثر فيه، وبصلاحها تصلح المجتمعات وترقى وبفسادها تفسد المجتمعات وتفنى، وقد أثبتت على مر العصور دورها الفعال في بناء الحضارات والمجتمعات...
أما ما نراه اليوم من الموجة العارمة للأغاني المصورة "الكليبات" فالأمر متروك لك أخي القارئ الكريم لتحكم على المقاييس التي يتم التركيز عليها لنجاح الأغنية، والعوامل الواجب توفرها لانتشارها أو رواج ألبوم صاحبها.....
**أين نحن من هؤلاء؟؟
إنهم أولئك الأبطال والأعلام الذين بأيديهم بنيت حضارتنا واتسعت لتبلغ الأرض من شرقها إلى غربها.... ماذا فعلنا لنخلدهم!! ماذا فعلنا لنلقي الضوء على نقاط القوة التي تحلوا بها، والتي بها بلغوا ما بلغوا من تأثير تركوه في الحياة وبصمات حفرتها أنامل الزمن على صفحات التاريخ... ماذا عرف أبناؤنا عنهم؟ هل يعرفونهم؟ هل يقتدون بهم؟ هل اقتصر دورنا كأحفاد لهم على أن نسمي بعض شوارعنا وبعض مدارسنا بأسمائهم؟ هل اقتصر دورنا على كتابة نبذة تاريخية عن حياتهم على بعض الألواح الحجرية في ساحات بعض المدارس والحدائق وعلى جدران بعض القاعات في الجامعات والمستشفيات؟؟ هل أدَّيناهم حقهم عندما قدّمنا بعضهم في أعمال درامية جعلناهم من خلالها أبطالاً أسطوريين جاء بهم الزمن على حين غرة على نحو لن يتكرر؟ ولن يكون هناك أمل أن يتكرر في يوم من الأيام؟؟...
من منا لا يعرف قصة توماس ألفا أديسون؟؟ لقد درسنا قصته منذ المرحلة الإعدادية، وجميعنا يعرف بطولته وعظمته وعدد المحاولات التي قام بها حتى نجح فيما يريد، وكيف كانت أمه سبب نجاحه حتى استطاع أن ينير وجه الأرض.... أنا لا أعارض دراسة أعلام الأمم الأخرى على الإطلاق، ولكن لماذا خدمت تلك الأمم أعلامها وخلّدت نقاط القوة في شخصياتهم بينما اكتفينا نحن بأن نذكر متى ولد أعلامنا ومتى توفوا مع تعداد بسيط لما فعلوه!!... إننا نريد في وقتنا الراهن أن نعرف وتعرف أجيالنا كيف فعلوا ما فعلوه؟ من كان وراء تفوقهم في الحياة؟ ما الصفات التي تحلَّوا بها؟ ما المحن والعوائق التي تجاوزوها؟ وكيف تجاوزوها؟...
أليس هذا هدف يجب أن تتجنّد له وسائل الإعلام أم أنّ هذا أمر أقل أهمية!!
إن لسان حال إعلامنا العربي الراهن يقول: ما لنا ولأعلامٍ مضى بهم الزمن إلى حيث لا رجعة! إن الأهم في المرحلة الراهنة من تاريخ أمتنا أن نتعرف تجارب أعلام معاصرين.. أعلام تركوا الأهل والمال والولد تغرّبوا عن دورهم عن أوطانهم تركوا أعمالهم وتجمّعوا في أماكن مختلفة من عالمنا العربي... يجمعهم هدف واحد وغاية واحدة تتعدّد بتعدُّد مؤهِّلاتهم ونقاط القوة في شخصياتهم، فهاهم يجتمعون لإسعاد الناس وإدخال الفرحة على قلوبهم يتنافسون على التربُّع على عرش الغناء تارة وعرش الرقص تارة أخرى، وربما كانوا أكثر تميزاً فتربعوا على عرش واحد كبير هو عرش الغناء والرقص معاً، فكانوا أعظم إسعاداً للناس وأكثر مهارة وإبداعاً في الحياة، ومرة ليشهروا "مقصَّهم" أقصد سلاحهم في وجه الروتين والثياب التقليدية ليكونوا أفضل مصمِّمين ومصمِّمات للأزياء، وتارة أخرى لينتصر الحق فيغلبوا شهوة الطعام التي أطاحت بهم فينتصروا عليها، ويخسروا كميات أكبر من الكيلو غرامات.... وغير ذلك من التجارب الرائدة التي على أجيالنا وأبنائنا أن يعايشوها ويتعلموا منها ويتحمّسوا لها، فينطلقون بدافع الإحساس بالمسؤولية والإخلاص لأولئك الأبطال ينطلقون لنصرتهم والشدّ على أيديهم ومؤازرتهم في جهادهم من خلال اتّصالاتهم ورسائلهم القصيرة على الجوالات وعلى البريد الإلكتروني للتصويت لهم وتشجيعهم في طريقهم نحو النصر وبلوغ ذرا المجد....
**ماذا نطب من إعلامنا العربي في هذه المرحلة من واقع أمتنا؟؟
المطلب الأهم هو دراسة التجربة الإعلامية للأمم الأخرى عبر التاريخ، وليس السير في ركب الإعلام الغربي دون تبصُّر، فالأمم الأخرى عبر التاريخ عرفت ماذا تريد من أبنائها، فسخَّرت وسائل إعلامها لخدمة هذا الغرض وتحقيق هذا الهدف عن طريق تقديم النماذج التي تصلح للاقتداء بها، وهذا يتجلى واضحاً فيما كانت تقدّمه الأنظمة الرأسمالية ومن بعدها الشيوعية في وسائل إعلامها من أعمال تروّج لأفكارها وتحثّ على تحقيق مبادئها وأهدافها السياسية، وذلك بعد إعداد إعلاميين يعون هذا الدور ويسعون لتحقيقه... لأن الإعلامي هو المعلم والمربي والموجه صانع الرأي في المجتمع، وإنه ليس علينا الآن أن نسير في ركب الإعلام الغربي فيما يقدّم وتقليده في فنونه..... لأننا بهذا نكون كمن يأخذ دواء غيره لمرضه فيزيد مرضه مرضاً، وقد يتحول هذا الدواء إلى سمٍّ زعاف يودي بحياته... وهذا لا يتنافى مع الأخذ من الإعلام الغربي ما يناسبنا والاستفادة منهم من حيث جودة الأعمال المقدمة وإتقانها، مع ضرورة التنبه إلى ترك ما لا يناسب حاجة مجتمعاتنا في المرحلة الراهنة وما لا يناسب منظوماتنا الاجتماعية والأخلاقية.
**أمر هام وواجب خطير:
وهنا يجب التنبه إلى ضرورة عدم ترك مسؤولية الإعلام بين أيدي ثلة من التجار وأصحاب المآرب والأفكار الهدامة والمروجين للقيم المسفة، وسعي المجتمع بكافة فئاته للقيام بدوره في العملية الإعلامية من خلال نشر الوعي الإعلامي، وإقبال أصحاب هذا الوعي على الإنتاج الإعلامي الذي يخدم الأمة...
**القدوة والإرهاب:
كما كان من واجب الإعلام أن يبرز الرموز التي تستحق أن يُقتدى بها كان من الضروري تسليط الضوء على العناصر الهدامة التي تقوّض أركان المجتمع، وتسير به نحو الهاوية لذا كان من الضرورة بمكان توعية الأجيال من خلال أعمال فنية منوّعة لوجود فئات تستغلّ اسم الدين وقيمه للقيام بأعمال إرهابية تودي بحياة الأبرياء.... ولكن كان من الإساءة بمكان أن تقتصر تلك الأعمال على تسليط الضوء على تلك الفئات بشكل غير متساو مع إبراز دور المعتدلين في تفهُّم قيم الدين وتطبيقها والتعامل معها على أنها منهج ودستور حياة تصلح بها حياتهم، فيغدون عناصر فعالة بنّاءة تبني الأمة وترقى بالمجتمع... عناصر تعمل وتحب العمل تطمح إلى المزيد ولا تخشى الفشل... عناصر تحب لغيرها ما تحبه لأنفسها تعمل لدنياها كأنها تعيش أبداً وتعمل لآخرتها كأنها تموت غداً، وتعلم أن من أكبر الكبائر إراقة دم بريء.....
لأننا بمثل هذه الأعمال التي لا تسلط الضوء إلا على الفئات المتطرّفة نكون قد عمَّمنا ذلك وهذا من الخطورة بمكان لأننا نؤثّر في ضمائر أجيال نرنو إلى تنشئتها على نحوٍ تعي دورها في أن تكون خير مثال لأمة الوسط والاعتدال التي قادت ركب الحياة لعقود عدة.
وإن تقديم نماذج القدوة الصالحة والأسوة الحسنة ليس عليه أن يكون مقتصراً على رجالات التاريخ فقط فنحن أمة ماض، وأمة حاضر، وأمة مستقبل، وتقديم نماذج المبدعين ممن سبقنا أو عاصرنا من أعلام الشرق والغرب مع التركيز على النواحي التي أعانت تلك الرموز على التفوق في الحياة والإبداع يكاد يكون من أكثر الأمور التي نحتاج إليها في وقتنا الراهن لتستفيد منها الأجيال وتستعين بمسيرها في الارتقاء والعمل والسعي بإصرار وأمل لتحقيق الهدف.
التعليقات:
6 |
|
|
مرات
القراءة:
3478 |
|
|
تاريخ
النشر: 28/11/2008 |
|
|
|
|
|
|