::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مقالات متنوعة

 

 

الفراغ الروحي (8): التوتر والقلق والاكتئاب

بقلم : أ. عبد الله عبد المؤمن  

   كنتيجة حتمية لتذمر السلوك وتسلط التأزم الخلقي والعوز القيمي يأتي التوتر والقلق والاكتئاب في مستهل الأمراض والأوبئة التي تطارد إنسان العصر وتفتك به  وتهيمن على كافة سلوكاته وأحواله الباطنية والظاهرية، وتقف الدراسات النفسية والعلمية أمام كثرة العلل الناجمة عن هذه المظاهر فتردها تارة إلى كثرة المشاكل وتارة إلى إشكالية الزمن الصعب وتارة إلى العزلة أو الوحدة... ولم توفق إلى وقتنا هذا في تشخيص هذه الأمراض نظراً لوقوفها عند الجوانب المادية والأحوال الاجتماعية والعلاقات الأسرية فقط،  ونحن إذا استقرينا قواعد الشرع التي جعلها الله عز وجل الدستور والهدى والنور وموطن الخير والحبور ثم تقرينا الواقع بما فيه من مظاهر وتجليات وسلوكات شاذة وسلبية، نجد أنه إذا أطلقنا القول بأن المشاكل المادية وراء القلق والتوتر  لقلنا بعدها وما السبب في المشاكل؟ ولو قلنا ربما العزلة والوحدة وراء ذلك؟ لأجبنا بديهة وما هي خلفياتها وأسبابها ودوافعها؟ ولو قلنا إنه الزمن الصعب الذي يعد الدافع الوحيد إلى ارتفاع الضغط والتوتر والقلق... لأجبنا كذلك وقلنا ربما:

نعيب الزمان والعيب فينا       وما لزماننا عيب سوانا

  وهكذا كلما أجبنا عن شيء إلا وواجهنا تساؤل عن مثله ولاحتاج الأمر إلى التسلسل والدوران دون الإحاطة بالأسباب ولا الوقوف على النتائج وطرق العلاج وهذا ما يدفعنا إلى الوقوف مليّاً عند بعض مظاهر الفراغ الروحي وتأتي في حلقاتها تباعاً ومنها:

                                        

التوتر والقلق والاكتئاب

   التشخيص السليم لهذه الأمراض يأتي من خلال عرض صور واقعية لأهلها ويتجلى ذلك غالباً على مستوى اضطرابات في السلوك لا يحس المرء عند وجودها براحة ولا سكينة ولا قدرة على التفكير ولا تركيز في الرؤية ولا العبادة ولا أمل في الحاضر ولا المستقبل، فيفقد توازن الجسم وجمال الروح، وأكمل ما يمكن أن توصف به هذه العلل حسب الوصف الشرعي الدقيق " الفتنة" من جنس فتنة الرجل في نفسه، بفقدان جوهر الإيمان واستحواذ قوى الشيطان مراده أخزاه الله فتنتك وإغواءك وإغراءك، ولكم هو جميل أن تتدبر قول الله عز وجل وكله اختزان واختزال لأسباب الراحة ومكامن العلل الذاتية والمجتمعية، قال تعالى: ((ومن يعش عن  ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين)).

 والذكر هنا جامع لمعان متعددة غير مقتصرة في نظري على التسبيح والتحميد والدعاء والعبادة ككل، بقدر ما هو موضوع للمعرفة والعلم بمن تذكر اسمه وتسبح بحمده وتعظمه وتسأله، ومعرفة بوسائل القرب إلى بابه وملازمة أعتابه فإن عرف ذلك فسوف يترك ظهرياً كل ما كان سبباً في ظلمة الحياة وقساوة الطبع وحصول الاكتئاب والقلق وما شابههما، وهذا ما يجعل الجهل أحد الأسباب الوجيهة في استفحال هذه الأوباء فالجهل مرد كل داء وسبب كل بلية، قال تعالى على لسان لوط عليه السلام لقومه: ((أئنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء بل أنتم قوم تجهلون))،  فلو تعلق الأمر بالجهل نرى أنه سهل تشخيصه وهو أسهل مما لو رددناه إلى العُزلة أو المشاكل... فمجرد أن يتعرف المؤمن معرفة علمية  على منظومة التشريع سوف يدنو من كل الفضائل ويجتنب جل الرذائل ولذا يقول ابن حزم رحمة الله عليه: "فنعمة العلم في استعمال الفضائل عظيمة، وهو أنه يعلم حسن الفضائل فيأتيها، ويعلم قبح الرذائل فيجتنبها، ويسمع الثناء الحسن فيرغب في مثله، والثناء الرديء فينفر منه، فعلى هذه المقدمات يجب أن يكون للعلم حصة في كل فضيلة، وللجهل حصة في كل رذيلة." اهـ

   وقلّ من يبحث في زماننا وينقب عن الفضائل ومحاسن الأخلاق حتى يجتنب خلافها وأضدادها فكل ما سوّغه الواقع فهو جميل وكل ما أنكره الطبع وإن كان على وفاق الشرع ووزان الفطرة فهو قبيح ولا حول ولا قوة بالله  لتنظر ما يصنعه الجهل بأهله من تلف وتيه.

   فإذا علمنا ذلك أيقنا كذلك أن التوتر والقلق مردهما إلى الغضب وهو كما عرفه ابن رجب في "جامع العلوم والحكم": "غليان دم القلب طلباً لدفع المؤذي عنه خشية وقوعه، أو طلباً للانتقام ممن حصل منه الأذى بعد وقوعه".

   والإنسان بفطرته مزوّد بهذه الطبيعة لكن دون أن تجاوز حدودها فإذا تعدت الحدود كانت أصلاً للمساوئ والرذائل الخلقية، ولا يغيب عن كل مؤمن عارف وصية النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيح لمن جاءه سائلاً إياها: قال لا تغضب فردد مراراً، قال: "لا تغضب".

   فالبعد عن الله وفراغ الأرواح من معرفته وذكره والشغل بالقرب منه منشأ القلق والاضطراب فلا تسكن النفس ولا تهدأ إلا بما بيّنه سبحانه في محكم كتابه حين قال: ((الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب)) اطمئناناً يعيد لها بهجتها وبهجة الحياة من حولها في حين لو فقد ذكره رغبة ورهبة لاسودّت الحياة في وجه الغافل قبل أن تسود وجوه وتبيض وجوه وهذا ما يقتضي الاقتران بالاكتئاب، وهو مرض قلبي ونوع فساد يحصل للإنسان فيفقد معه كل ما هو جميل، ويؤثر ذلك على الوضع الجسدي فيقلل القدرة على الاسترخاء والنوم الجيد ويسبب الصداع ويخفض من درجة نشاط الجسد، وهذا لا يقترن إلا بالغافل الخامل عن ذكر الله والقرب منه والذي يتربص به الشيطان الدوائر حتى يقع في شباكه وفيما يرضيه فيتكاسل عن الطاعة ويفقد المناعة من كل ابتلاء وأقصد الصبر واليقين في الله تعالى، فمهما ادلهمت بالمؤمن الخطوب وأحدقت به المصائب زاد إيمانه صلابة وابتهجت نفسه طمأنينة لأنه قد أدرك ما وعده به ربه حين قال: ((ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين)) وهذا ما يفتقد إذا وجد الشيطان فراغاً واضمحلالاً، وقد قيل: "عقل الكسلان بيت الشيطان".

   فالاكتئاب إصابة الباطن بحزونة  ما لم يحاول صاحبه التخلص منه بتعمير وقته بأنشطة يومية أولاها أوراد العبادة والذكر كقراءة جزء من القرآن وحصة من الاستغفار والصلاة على خير الأنام فهي تذهب الهم والغم وتنفي الفقر، ثم ما يحتاجه العقل من علم ومعرفة وما يحتاجه الجسد كذلك من توازن في الأكل والشرب والرياضة والعلاقات الفردية والاجتماعية...

   وقد تؤدي هذه الحزونة إلى خشونة حينما يرتبط الخلاص عند هؤلاء بالانتحار وقتل النفس رجاء إراحتها مما أحدق بها من همّ وكدر وكآبة، والأصح أنه قدمها للعذاب خالداً مخلداً أبداً لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "الذي يخنق نفسه يخنقها في النار والذي يطعنها يطعنها في النار" وفي رواية زيادة "والذي يقتحم يقتحم في النار" والاقتحام أن يرمي الشخص نفسه نسأل الله السلامة والعافية، وما أكثر وقوع ذلك في الواقع مع انعدام الصبر وقلة الأمل كقول من قال من شعراء الاكتئاب:

وفوقي سحاب يمطر الهم والأسى      وتحتي بحار بالأسـى تتدفق

 وقال آخر:

فثوبي مثل شعري مثل حظي        سواد في سواد في سواد

    ونفسح الباب هنا لما ارتضته الشريعة من منهج جمالي في تصورها للحياة والسعادة حين نهت وزجرت عن كل الوسائل المفضية إلى الشقاء في الدارين وأولاها وساوس الشيطان، قال سبحانه: ((الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء)) ثم الأخلاق المذمومة ففي الحديث: "ولا يجتمعان في قلب عبد: الإيمان والحسد".

   وفي حثّها على الأمل والزجر عن الاكتئاب والقلق والسأم جاءت الشريعة بالنهي الصريح عن تمني الموت، فقد أخرج البخاري من طريق قيس بن أبي حازم قال: أتينا خباب بن الأرتّ نعوده وقد اكتوى سبعاً فقال: "لولا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهانا أن ندعو بالموت لدعوت به"، وجاء في حديث أنس الذي خرّجه الشيخان قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يتمنين أحدكم الموت من ضرّ أصابه فإن كان لا بد فاعلاً فليقل اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي وأفضل" فلا بد من التقيد بالتفويض والتسليم وقد صُرح في أحاديث أخرى أنه من السعادة أن يطول عمر العبد ويرزقه الله عز وجل الإنابة.

   إلى هنا إخوتي القراء الأعزاء نكون قد أحطنا بجملة من أسباب ومظاهر الفراغ الروحي لنبدي العزم فيما يستقبل بحول الله على التماس وسائل العلاج، ونحن على يقين أنه في متناول كل عليل الشفاء وبإزاء كل مريض الدواء ألا فلنقرأ جميعاً قول الله تعالى ولنجعله المنطلق للحلقات الآتية:

((يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين))     صدق الله العظيم

والحمد لله رب العالمين

 

 التعليقات: 1

 مرات القراءة: 6305

 تاريخ النشر: 12/09/2009

2009-09-13

علا صبَّاغ

جزاك الله خيراً.. من رأيي أن الصحة النفسية أهم من الصحة الجسية .. طالما علمنا أن التوتر والقلق والاكتئاب بسبب فتنة المرء بنفسه - فلماذا لا نفرح أو نعبد الله بعبودية الفرحة؟ والسؤال بشكل آخر لماذا لانفرح ونحن نعبد؟ قد يقول البعض الحمد لله - ولكنه بينه وبين نفسه غير راضٍ، أريد أن تكون كلمة الحمد لله نابعة من القلب، نابعة من أن كل قضاء من الله هو خير ولله الحمد وأنت سعيد بأنه قد قسم لك هذا.. فالله لا يقسم لعباده إلا الخير - فأنت قد تتوتر لأجل شيء ما - قد يكون بنظرك شيء هام وترى أنت نفسك أن فيه الخير ببصيرتك القصيرة ولكن الله لم يقسم لك فيه الخير فلا يتحقق - فلماذا لا تترك التدبير إلى المدبر الحق الوكيل - لماذا لا تتوكل عليه وتعيش مع أسمائه الحسنى؟ وبالمثل قد تقلق لأجل أمر مستقبلي ومن يدري لعلك لا تعيش إلى هذا الزمن الذي تقلق الآن من أجله.. لا تحزن! وطالما علمنا أن التوتر والقلق مصدره الغضب فالمؤمن يـُـذهب الغضب بالوضوء فعليك به..أما عن الإكتئاب، فنعود إلى أن نعمتان مغبون عليهما ابن آدم الصحة والفراغ، وإني لأستغرب من وجود أشخاص لديهم فائض في الوقت! الفراغ قاتل وقد يؤدي إلى الاكتئاب فلماذا لا تـُعمر حياتك بالعمل والعلم؟ ومن هنا أوجه دعوة للقراء فيما تيقى من شهر رمضان لمعرفة معاني أسماء الله فأنا عندما أدعوه بالرحمن الرحيم فهو رحمن بالخلائق كلها رحيم بالمؤمنين خاصةً..فما أوسع رحمته وقد كتب تعالى عنده "إن رحمتي سبقت غضبي" يكفي ذلك لتعيش بدون قلق، فقد كتب الله على نفسه الرحمة ولم يكتب على نفسه الغضب مثلاً! قد تقلق لمصيبة حدثت معك ولكن آمن وكن على يقين أن ما أتاك من مصيبة هو ابتلاء من الله أو أن يكون لتكفير الذنوب وآخر ما أذكره الحديث القدسي: "وعزتي وجلالي إني لأقبض عبدي المؤمن وإني أريد أن أرحمه، ولا أقبضه حتى أصيبه في ماله وولده وأهله حتى يلقاني وليس عليه خطيئة......" ارض واعلم أن في كل حياتك خير، ولكن قد يكون بصرك محدودأً ولكن كن راض بما قسمه الله تصل إلى أعلى مراتب الإيمان.

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1594

: - عدد زوار اليوم

7448969

: - عدد الزوار الكلي
[ 43 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan