::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مقالات متنوعة

 

 

الفراغ الروحي (9): طرق علاجه..

بقلم : أ. عبد الله عبد المؤمن  

 

 بين يدي العلاج:

  لكم يعسُر على المصاب بأي داء تقبّلُ وصفة العلاج بعد أن يُضْنيه كلل المرض وجرح الداء فلا يتماثل للشفاء إلا بعد الالتزام بتعليمات صارمة وحمية مستديمة ثم لينتظر الشفاء من قبل الله عز وجل: ((وإذا مرضت فهو يشفين))، ولكن هذا يختلف تماماً لو تعلَّق الأمر بعلاج الباطن وصفاء الروح من كل الأعراض التي أنهكت صاحبها وجرّدته من الجمال بسبب ظلمة المادة وطغيان الاستهلاكية المفرطة وقلة الوعي الديني والغفلة عن الذكر والفكر كما ذكرنا في جملة الأسباب المتقدمة ليرمي به ذلك في أحضان الرذيلة من تأزم للأخلاق إلى شعور بالعدمية ويأس من صلاح الأحوال إلى تسلط الأوهام والقلق والاكتئاب إلى غير ذلك مما فصلناه في موضعه بتوفيق من الله سبحانه.

  قلت، يختلف الأمر تماماً عن علاج البدن وقمع الداء في الجسد وهذا قل من يتفطن له إلا من أكرمه الله سبحانه بنفاذ البصيرة وقوة الإدراك والتي لا تتأتى إلا بالاستقامة والثبات، نعم، يختلف الأمر لسببين اثنين:

السبب الأول: أن الله سبحانه وتعالى قضى في أزلية أمره أن رحمته سبقت غضبه وأنه لا مناص لعبده منه إلا إليه ومن ثم ضمن له القبول إن رجع وأناب وأوسعه رحمته وتكفل بحفظه ورعايته حتى يلقاه.

فكلمـا ناديت رباه             قال يا عبدي أنا الله

  فالله عز وجل أفرح بطهارة عبده ورجوعه إلى بابه كي يُذهب عنه الرّجس ويطهره تطهيراً ففي الحديث: "لله أفرح بتوبة عبده من العقيم الوالد ومن الضّال الواجد ومن الظمآن الوارد".

والسبب الثاني: أن الله عز وجل أخفى رضاه في طاعته وغضبه في معصيته فيكفي من العبد التفاتة إلى مولاه بولوج باب الطاعة واجتناب المخالفة ليضمن له سبحانه الرضا التام، قال تعالى: ((والذين اهتدوا زادهم هدى وآتاهم تقواهم))، وقال سبحانه: ((ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيراً لهم وأشد تثبيتا)).

    إذن سوف نفتح الباب على مصراعيه وكلنا أمل في أن نلقى علاجاً أزلياً ودواءً ربانياً لإنسان العصر الذي أحدقت به الفتن وأنهكته المحن ما ظهر منها وما بطن ورجاؤنا في الله كبير لأنه كما قال ابن عطاء الله في حكمه: "من استغرب أن ينقده الله من شهوته وأن يخرجه من وجود غفلته فقد استعجز قدرته الإلهية ((وكان الله على كل شيء مقتدرا))".

  وسنسم هذه العملية بالبناء الروحي أو الإعداد الروحي تركيزاً على المقومات التي لا بد منها والتي تحتاج في الحقيقة إلى شروط ثلاثة ومنها يبدأ العد الاستدراكي لما فات الإنسان من خير كثير نرجو الله ألا يحرمنا منه أبداً حتى نلقاه:

 

  1 ـ الشرط الجبلّي ـ إن صح التعبيرـ أو التكويني والبنائي:

وأقصد بذلك أن العبد ـ وأُفضّل هذا المصطلح بالذات كما يرضاه هو سبحانه عند مخاطبة خلقه ـ تربطه مجموعة روابط متينة بخالقه توسم بالصلة الداخلية والعلاقة الإيمانية الخفية وهي في جملتها قوانين ومبادئ نفسية تشترك وتجتمع الفطرة البشرية في امتلاكها والقدرة على تسخيرها وقد جعل القرآن هذه المبادئ من صفات ومعالم المؤمن الذاتية، واقرأ إن شئت قول الله سبحانه ((إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم)) وقوله عز وجل: ((لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم))  وقول النبي عليه الصلاة والسلام:"كل مولود يولد على الفطرة"، هذا الشرط لعمري يمتلكه جميع من أسلم نفسه للإيمان حيث يسهل عليه الإذعان ويدرك الحاجة الملحة في كل حين إلى رضا الرحمان.

 

 2 ـ الشرط التشريعي: وهذا ما نشُد به الأزر في منهج الإعداد الروحي لأنه لا يمكن أن نيمم الوجهة شطر مصالح الدارين  دون الائتمام بهدي التشريع، ومن ثم فالوسائل التي نختارها ونصطفيها هي جل الوسائل المشروعة التي أمرنا بها الله ورسوله ليس إلا، حتى نجد الأثر جلياً بعد المداومة عليها ونحن نبغي طهارة أرواحنا وصفاء باطننا والخلاص من أسر المادة والإصر والأغلال التي كانت علينا.

   فكما يحتاج المرء في ظلمات الليل إلى سراج منير يضيء دربه ويدلّه على قصده، كذلك في علاج فراغ الروح لا بد من نور تشريعي وهُدى رباني لظلمة القلب كنور القمر في سواد الليل بوصف جامع بينهما في قوله سبحانه: ((وهو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا)) وقوله عز من قائل: ((واتبعوا النور الذي أنزل معه))،  وكنكتة لطيفة فالنور هنا أبلغ من الضياء ولذا جعله الحق سبحانه من مقاصد شرعه وكتابه.

   

 3 ـ المبادرة الفردية: إذا كان الشرط الأول من مهمات الجانب التكويني في خلق الإنسان وهو خارج بطبيعة الحال عن طوع إرادته وكان الشرط الثاني من مهمات التشريع فإن الشرط الثالث يبقى رهين المبادرة الفردية ليدرك العبد المسلم أنه مُقْدِم على مرحلة مهمّة تحتاج إلى معاناة وطول نفس وإلى جمع بين زكاة الطاعة وشحّة الوقت وقصر العمر وبُعد الأمل وهذا ما لا غنى عنه  فيما أفصح عنه القرآن بما أسماه المجاهدة والمكابدة والكدح، قال تعالى: ((والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا))، وقال سبحانه: ((يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه))،  والكدح في اللغة: الجد والاجتهاد. قال بعض المفسرين: في الآية نكتة لطيفة وهي أنها تدل على انتهاء الكدح والتعب للمؤمن بانتهاء هذه الحياة الدنيوية، ويحصل بعد ذلك محض سعادته وراحته الأبدية.

   فالمفروض في المبادرة الفردية هنا الاجتهاد ولكن ليس على معنى بذل الجهد وقصارى الأمل كالعمل في الاجتهاد الدنيوي أو المادي وإنما المقصود بالكدح والمجاهدة هنا غاية الاجتهاد في السير إلى الله نظراً لسرعة الزمان والذي بطبيعة الحال يحتاج إلى تبني المنهج القرآني في تزكية النفوس بالمسابقة والمسارعة والمنافسة، ((سابقوا إلى مغفرة من ربكم...)).. ((سارعوا إلى مغفرة من ربكم...))..((وفي ذلك فليتنافس المتنافسون)). بخلاف العمل في الاجتهاد الدنيوي فقد عبر عنه المولى سبحانه بما هو أهل له من السير الحثيث والمشي الهوينا، حين قال: ((هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها)).

 فإذا كان هذا هو حال السائر إلى الله والآمل في علاج باطنه فقد وردت بين آية الكدح والآية التي بعدها مناسبة لطيفة إذ بضدها الأشياء تعرف، وذلك في وصف الغافل عن هذا المنهج والذي فرغت روحه من محتواها الإيماني فساقته غفلته إلى التكاسل والخذلان قال تعالى واصفاً إياه: ((إنه ظن أن لن يحور، بلى إن ربه كان به بصيرا)). فأوقعته الغفلة في ظنه عدم الرجوع إلى ربه في الدنيا والآخرة نسأل الله السلامة والعافية.

  والكدح في السير إلى الله تعالى صفة ذاتية توافق اسم الجنس الوارد قبلها أي حين نقول الإنسان المؤمن فبطبيعة الحال سيكون مجاهداً ومجتهداً وكادحاً.

   فإذا تحصّلت هذه الشروط عُلم ضرورة أنه هنالك إقبال على إرادة الصلاح ورفع الجناح وعلاج فراغ الأرواح، واختيار وسائل التربية الروحية شاق إلى درجة ما ليس بطبيعة الحال لوعورة الطريق أو صعوبتها ولكن  لخفاء الحال إذ لا يعرف سر القبول ولا الاستجابة إلا المولى سبحانه خصوصاً ما يتعلق بالطاعات والموافقات حيث يشترط انتفاء حظ النفس والرياء والعجب إلى غير ذلك، قال ابن عطاء الله في الحكم:

    "حظ النفس في المعصية ظاهر جلي وحظها في الطاعة باطن خفي ومداواة ما يخفى صعب علاجه"

   ثم المشقة حاصلة لعظم المقام إذ لا تستوي المقامات في الطلب فحسنات الأبرار سيئات المقربين، وليس الظالم لنفسه كالمقتصد وليس المقتصد كالسابق بالخيرات لذا يصعب الاعتماد على وسيلة واحدة ولكن كما ذكرنا لا يناسب الكدح والمجاهدة والاجتهاد إلا الاغتراف من جميع الوسائل بدون استثناء حتى يحصل الفوز بأدناها أو أعلاها.

   وهنا أضرب مثلاً من واقع الحياة الدنيوية فكما أن الإنسان لا يقنع في مزاولته لعيشه الدنيوي بالشركة الواحدة والسيارة الاقتصادية والفراش العادي والحياة المقتصدة وإنما يطمح دائماً إلى الأفضل فهذا لعمري فيما يرضي الله أحرى وأولى إذ أم قواعد السلوك في الشرع أن تختار للدنيا الأسهل وللآخرة الأفضل، قال سحنون من المالكية: ( انظر أبدا الأمرين يكون فيهما الثواب فأثقلهما عليك هو الأفضل)، وقال المحاسبي: ( تبدأ في أوامر الله بالأوجب فالأوجب والأفضل فالأفضل فإن لم يتبين لك في الأمرين أيهما أفضل وأوجب فآت الذي هو أثقل على قلبك فإنه لا يؤمن عليك أن تعمل العمل الذي خف عليك لهوى نفسك لا لربك سبحانه...)

   في طريق الترقي وأنت سائر إلى الله تعالى لا بد من العزم الصادق ولا بد من التدرج المقامي لذا سوف نتطلع إلى وسائل الإعداد الروحي عبر مقامات ومراتب ولنشرع بحول الله في المقام الأول: مقام المسرف على نفسه بكثرة الذنوب والعيوب، وسيأتي تفصيله في المقال القادم بحول الله.                

والحمد لله رب العالمين.

                   

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 3381

 تاريخ النشر: 26/09/2009

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 762

: - عدد زوار اليوم

7395783

: - عدد الزوار الكلي
[ 56 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan