::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مقالات متنوعة

 

 

الفراغ الروحي (10): من وسائل العلاج..

بقلم : أ. عبد الله عبد المؤمن  

 

طرق العلاج:

   قال ابن عطاء الله في حِكمه: "من استغرب أن يُنقده الله من شهوته وأن يخرجه من وجود غفلته فقد استعجز قدرته الإلهية ((وكان الله على كل شيء مقتدرا))".

   فالشهوة والغفلة لا تفارق ابن آدم بمقتضى بشريته وطبيعته التي تحنّ إلى أصلها وكُنْه مادتها، مما يجعله أسيراً تحت سلطتها ومُكبّلاً في فخاخ مصائدها. لكن، هذا لا يمنع أبداً من حضور ساعة الوصل حيث يجد العبد يدَ القبول ممدودة إليه، وقطرات الرحمة تتهافت عليه: "هل من مستغفر فأغفر له.. هل من داع فأستجيب له.."،  فينهل بعد الظمأ ويصفو مزاجه من الصدأ، ومن ثم يتحقق في بحر الأحدية من فيض المدد الرباني فيوقن أنه قد لقي ما يريد ويتطلع إلى المزيد.

كل وقت من حبـيبي        قدره كألفي حجـه

فــاز من خلى الشواغــل ولمولاه توجــه

 

  قد سبق القول أنه لا بد من تدرُّج مقامي عبر مراحل وأطوار في البناء والإعداد الروحي، ومن ثم كان السبق لمن هو في أمسّ الحاجة، المُشرف على الغرق في ظلمات المعصية ووَحل الرزيّة. وأنت سائر إلى الله تعالى في طريق الترقي لا بد من العزم الصادق ولا بد من الارتقاء المرحلي كما قلت، لذا سوف نتطلع إلى وسائل الإعداد الروحي عبر مقامات ومراتب ولنشرع بحول الله..

 

المقام الأول: مقام المسرف على نفسه بكثرة الذنوب والعيوب: 

   ويجعل أرباب التربية والسادة الصوفية هذا المقام في بوابة منهج الترقي، فيه حط رحال الأوزار، وإلقاء عصا التسيار، ومنه الارتقاء إلى ارتشاف الأنوار. والمُسرف على نفسه من صَاحبَ نفسه هواها فغرّته الأماني وغره بالله الغرور، ولم يستطع التخلص من سجن الهوى، وأتبع الذنب تلو الذنب، واجتمعت عنده الصغائر والكبائر، وطبع الرّان على قلبه من شدتها، لكنه ـ والحق يقال ـ تمسك بأمر واحد وأصل شاهد هو كلمة التوحيد "لا إله إلا الله"، فكان ميزانه مع كثرة المخالفة وعظم المعصية وفُحش الرزية مخالفاً لميزان الذي كفر بالله وأشرك معه إلهاً آخر، ولذا بقي محفوفاً بالخير والبركة بجلال وجمال "لا إله إلا الله"، هذه الكلمة النورانية التي باركت موقفه ودحضت كيد ذنبه، وصار الذنب بإزائها لا أثر له ولا خطر فيه إذ لا يُخرج صاحبه ولو عظم عن الإسلام، وكل ذرة يفعلها من خير يتقبلها الله منه، فما دام قد اتقى الشرك وتجنبه تقبل الله منه كل طاعة، والفرق بينه وبين الكافر أن هذا الأخير لا يقبل الله عز وجل منه صرفاً ولا عدلاً. ولكن المسرف على نفسه بكثرة الذنوب لو رجع وأناب تقبله الله القبول الحسن وكفّر عنه سيئاته، ومن ثم كان موقف أهل السنة عدم تكفير أحد من أهل القبلة ما دام يحفظ كلمة التوحيد ويرددها إلى أن يلقى ربه.

   قال ابن عطية في تفسيره: والحق أن العاصي التارك للفرائض إذا ذكر الله وقال كلاماً طيباً فإنه مكتوب له متقبل منه وله حسناته وعليه سيئاته والله تعالى يتقبل من كل من اتقى الشرك. اهـ

   مُمكن القول أن أغلبية من سيطّلع على هذا المقام سوف يجعلُ نفسه داخل خانته نظراً لكثرة المخالفة في زماننا وعظم الفاحشة في عصرنا، ولكننا ونحن نقف في المرحلة الأخيرة من هذه الدراسة والتي تعنى بطرق علاج الفراغ الروحي،  لا نُنكر القول أن أعظم فئة يتهددها هذا الداء بكثرة أسبابه وشيوع مظاهره المتقدمة لا يستحيل في حقها العلاج الأبدي نظراً لما أنعم الله به على عباده من سعة الرحمة وعظم المنّة، ولهذا بدأت بآخر مرحلة يستفحل فيها الداء،  وهي صفة من اتّبع هواه وساقته شهوته وأسلم لها نفسه فوقع عنده احتقار المخالفة وحسِب ذلك من الأمر الهين مما جعله يسترسل في المعاصي ولو كبر سنّه وعظم شأنه، وكان مما يستعان به في العلاج لأول وهلة:

 تحقيق الطهارة:                 

 ولا نحتاج هنا إلى توكيد هذا المطلب فإليه المنتهى في بدء مراحل علاج المسرف على نفسه، والذي هو أحوج ما يكون إلى التصفية الحسية لمقابلة معان لا تنفذ إلا لمن صفا مشربه وزان ظاهره، وتهيأ نفْساً ونفَساً للنهل من حقائق ثابتة ومعان سامية، بالشفاء والتداوي من جرم المعصية، فلا يستحق القبول إلا بالتوبة ولا المغفرة إلا بالإنابة.

  لا بأس هنا أن يزكي صاحب هذا المقام كلمة التوحيد التي خرج بها من سلك الكافرين وإن كان مسرفاً على نفسه: بكلمة طيبة تمتزج فيها معاني الانكسار والرجوع، وقل: الأفضل الاستغفار.

  قال ابن العربي: فإن قلت فهذا المصر على ذنبه المستمر العزيمة على فعله هل ينفعه الاستغفار؟ 

قلنا:  نعم، بالاستغفار ينحل عنه معظم الإصرار، فإن العاصي إذا كان منتهكاً بعصيانه منهمكاً في خذلانه متمادياً في طغيانه مستمراً على غلوائه كان من جملة المعرضين عن الله الذين أعرض الله عنهم ومن الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ومن الذين ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، وهو شخص يخاف عليه سوء الخاتمة.

   وإذا عصى واستغفر كان من اللوامين ورجي الخروج من الفتنة بما هو عليه من الفتنة، فإذا كان فينة في معصية وفينة في استغفار رُجي له تأثير القلب بالانكفاف، ومن الحسن له أن يسأل الدعاء من غيره ممن يرجو عنده بركة من ذوي مودة أو ذوي صلاح.اهــ

   جعلُ الطّهارة مقدمة منهجية تربوية لدرك مقام المغفرة، ولصلاح الفرد والمجتمع والأمة، هو السبيل الوحيد لعلاج أزمة العصر المتمثلة في الجناية والجريمة والجريرة. ومرد ذلك كله فراغ الأرواح مما يجملها ذكر وفكر يصحبه حلاوة الإيمان وصفاء الجنان.

   وإن ركوب متن المخالفة حاجز يحول دون تحقيق هذه الطِّلبة، إذ لا يستقيم أن تأتي باب السمو والجلالة بخرق وأسمال بالية، أفلا تدرك ذلك في وصية القرآن الجمالية: ((خذوا زينتكم عند كل مسجد))، فذاك بيت الله والمغفرة والرحمة كذلك من عند الله.

  وإن تحقيق الطهارة لَمن مناشئ التربية الإيمانية والتصفية الحسية حتى يحصل التوافق والتآلف لتدرك مدى التكريم الذي يتفضل الله به على خلقه إن أتوه عباداً تقاة طاهرين، فلا صغيرة إذا قابلك عدله ولا كبيرة إذا واجهك فضله..

   فلا تتحقق معاني الطهارة البحتة إلا في العبودية والتذلل، وهذا ما يُرى من أشرف الوسائل إلى أشرف المقاصد استرجاعاً لما اغتُصب من حق الجمال بعد سطو الحضارة وهيمنة المادة على النفس الأمّارة.

    ويجب أن يستحضر صاحب هذا المقام في ذهنه معتقد أهل الحق أن التوبة من ذنب دون ذنب صحيحة فيقول في نفسه لئن قهرني الشيطان بواسطة غلبة الشهوة في بعض المعاصي فلم ينبغ أن أخلع العذار وأرخي العنان، بل أجاهده في بعض المعاصي فعساني أن أغلبه فيكون قهري له في البعض كفارة لبعض ذنوبي ولو لم يتصور هذا لما تصور من الفاسق أن يصلي ويصوم وهذا حال كل مسلم، إذ لا مسلم إلا وهو جامع بين المعصية والطاعة، ولا شك أن المسرف إذا كان هكذا فقد خرج عن الإسراف وخالط بسيئاته إشفاقا وانكسارا ودعاء وهذا كله عمل صالح.                               

  لتكن إن شاء الله تعالى من وسائل العلاج:

   ـ المداومة على الاستغفار، فالتوبة ولو من بعض الذنوب عند أهل السنة صحيحة، ما دام الإنسان في معركة مراغمة مع الشيطان، والمصر على الذنب إن كان يود أن لو تاب، وأن لا تأتيه منيته على تلك الحال، فهذا وإن كان مصراً ولم تأت منه توبة فهذا مما يرجى له، لمجرد أنه أراد التوبة ولم يفعلها.

   ـ حضور مجالس الخير والحكمة، وقد روي عن بعض الصالحين: احضر مجالس الخير ولو كانت الخمر في بيتك ولم تقدر على إراقتها، ولا تقل ما الفائدة في سماع الحكمة ولا أقدر على ترك المعصية؟ بل على الرامي أن يرمي إن لم يأخذ اليوم يأخذ غداً. ولعل أن تلبس بالمجلس لباس التقوى. ولا تقل لم أستفد شيئاً، فأقل شيء تستفيده أن تقول: استفدت المعرفة بإساءة نفسي.

  ـ التماس الدعاء من الغير ممن ترجو عنده البركة من ذوي المودة وأهل الصلاح، وأولاهم الوالدين ثم أهل القرآن والعلم الشريف ثم جميع الخلق بدون استثناء، إن رأيت من رأيت منهم فالخَضر اعتقد كما يقال، بحسن الظن في الجميع واعتقاد الصلاح في الكل حتى يصلح الله أحوالك، ونختم بكلام جليل لسيدنا جعفر الصادق عليه السلام قال: إن الله خبأ ثلاثاً في ثلاث، رضاه في طاعته فلا تحقروا منها شيئاً فلعل رضاه فيه، وغضبه في معصيته فلا تحقروا منها شيئاً فلعل غضبه فيه، وخبّأ ولا يته في عباده فلا تحقروا منهم أحداً فلعله ولي الله.

والحمد لله رب العالمين.

 

 

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 3941

 تاريخ النشر: 05/10/2009

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 551

: - عدد زوار اليوم

7469181

: - عدد الزوار الكلي
[ 75 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan