::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مقالات متنوعة

 

 

الفراغ الروحي (11): من طرق علاجه أيضاً..

بقلم : أ. عبد الله عبد المؤمن  

   لا عجب أنه من حكمة الله تعالى تعدُّد معارج القبول ومنازل الرضا ومواطن الفرج قياساً على سعة رحمة الله تعالى بعباده وعطفه وتحنُّنه على خلقه، ولذا تجد أنه كلما تنوعت أسباب الفراغ الروحي والعَوز الباطني وتعددت مظاهره السالفة الذكر كطغيان المادية والاستهلاكية وقلة الوعي الديني والغفلة عن الذكر والفكر، إلا واتسعت مسالك العلاج حتى تكاد تجد بين كل مسلك ومسلك مجالاً واسعاً لحصول التفريج، وقد قدمنا في الحلقة السابقة الحديث عن مقام المفرط على نفسه بكثرة الذنوب والعيوب وخلصْنا بعد النظر في علاج فراغ هذا الصنف من الناس إلى ضرورة تحقيق الطهارة كمرحلة أولية، ولن يتأتى ذلك إلا بالمداومة على الاستغفار وحضور مجالس الحكمة والخير والتماس الدعاء من كل صالح. بغية تحقيق طهارة يصير بعدها المسرف على نفسه زكياً تقياً نقياً كيوم ولدته أمه. ونقف الآن عند:

 

المقام الثاني وهو: المُخلّط المبتلى بالمخالفة: 

وهو دون مقام المسرف على نفسه الذي سلف الحديث عنه، أي من غرق في ظلمات الجناية ووحل الرزاية، ولذا عُدّ أخسّ مقام بالنظر إلى هذا المقام. أما المُخلط المبتلى بالمخالفة فهو من يخاف على نفسه من وَجْه ويُجاهدها من وجه آخر، أو ممكن القول أن نُور مجاهدته يمحو ظلام جنايته فيتداركه الله برحمته.

  المخالفة في حق صاحب هذا المقام ابتلاء قد يكون لهواه ونفسه دخل فيه، وقد يكون بسبب سوء المخالطة والمعاشرة وقد يكون كذلك بالنظر إلى الواقع المعيش، لكنه لما كان مجاهداً لنفسه تحقق من شيء واحد وهو اجتناب الكبائر، وهذا لوحده كفيل له بنقصان الصغائر مصداقاً لقول الله تعالى: ((إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريما)).

  قال ابن عبد البر: من اجتنب كبائر ما نهي عنه كفّرت سيئاته الصغائر بالوضوء والصلاة والصيام ومن تاب من كبيرة كان كمن لم يأتها قط، فإن لم يتب منها فأمره إلى الله. اهـ

  إلا أن المبتلى بالمخالفة لا نخرجه من دائرة المبتلى بفراغ روحه لأن الغفلة محدقة به، فقد يُجاهد نفسه على اجتناب الكبائر ويقترف من الذنوب الصغائر، ومثله كما قال أبو حامد الغزالي كمثل من يشتهي الخمر وسماع الأوتار فيمسك نفسه بالمجاهدة عن الخمر ويطلقها في السماع، فمجاهدته لنفسه بالكف ربما تمحو عن قلبه الظلمة التي من معصيته سماع الأوتار.اهـ

    فالغفلة كائنة عند صاحب هذا المقام ما دام لم يتخلص بعد من هوى الابتلاء بالمخالفة، ولكنا في طرق العلاج لا ننأى عن المقصد العام الذي أسسناه في الحلقة السابقة، وهو أن كل مخالفة تهون عند طلب الرضا والإنابة والاستغفار، وقد سأل أحدهم بعض مشايخ التصوف والزهد رحمة الله عليه فقال: لساني يجري بالذكر وقلبي غافل. قال: احمد الله إذ استعمل جارحة من جوارحك في الخير وعوّدها الذكر ولم يستعملها في الشر ويعودها الفضول. اهـ

  قال ابن عطاء الله في الحكم: لا تترك الذكر لعدم حضورك مع الله فيه لأن غفلتك عن وجود ذكره أشد من غفلتك في وجود ذكره....

  والمعنى هنا التمييز بين الحالتين لأن تكون الغفلة ساعة ذكر الله تعالى أهون من الغفلة عن ذكره ونسيانه تماما. وهذه بعض المسالك التي يستأنس بها ونحن نقرع باب العلاج عافانا والله وإياكم من ظلمة المعصية وكآبة الفراغ.

 

الوصل بين الذكر والفكر

    قال تعالى: ((إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السماوات والأرض.. الآية))

 الذكر ما تبتهل به الألسن وتفيض به الأرواح ويحصل به الأنس وهتك الهوى الفضاح، والذكر ربط الصلة بالمدد الإلهي والفيض الرحماني حتى لا ينقطع الوصل فيحصل الفصل، الذي يفضي إلى تشنج الجوارح ومرض القلوب.

       ليس هنالك أجمل من أن ينبض القلب بذكر الله تعالى مستحضراً الخشية والرهبة، والطمع في رحمته والرغبة، وليس هنالك أكمل من أن تنبس الشفتان في كل يوم وليلة بأوراد واستغفار وقرآن ودعاء، فلو تعوَّد المرء على ذلك ما كان للمكروه أبداً أن يحدق به، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يذكر الله على كل أحيانه، ولا يفوته اليوم دون أن يستغفر الله مائة مرة صلى الله عليه وآله وسلم وشرف وكرم وعظم، وهو المقصود في الآية المتقدمة بذكر الله قياماً وقعوداً ومشياً وهرولة وغفوة ويقظة، وفي كل الأحوال والأوقات.

   والذكر وصله الله سبحانه بالفكر وما كان للمؤمن أن يفصل بين معنيين زكاهما ووصل بينهما الحق سبحانه ولهذا قال عز من قائل: ((ويتفكرون في خلق السماوات والأرض)).

  وقيل: الذكر هجّيرا(*) ألسن المحبين وسلم الواصلين من السالكين إلى حضرة رب العالمين، وهو العبادة التي ظاهرها أجور وباطنها حضور وباطن باطنها نور على نور، يحرس الجوارح ويحفظ الوقت ويشرد اللغو ويفتح باب الأنس ويضمن الخير بكل حال.

   وللفكر في كتاب الله المنظور ـ أي ملكه وخلقه ـ بعد الذكر في كتابه المسطور، جمال ما بعده جمال، وبغفلة الإنسان عن ذلك ينطفئ في روحه جوهر الفكر الموصل إلى حقيقة الوجود وصدق التوكل وحصول الرجاء والخوف، والارتواء بعد الظمأ والأمن من الخوف والمطعم بعد الجوع.

  وهذا أطيب ما ينشده الإنسان في واقع التيه والحيرة:

أطيب ما هي أوقاتــي      حين أكون مجموع مع ذاتي

حين أكون مع ذاتي مجموع      ترى شمسي منـي تطلع

ويــجيء فقري مطبــوع

الوجود قد بان                   وترى الإنســــان

جميع الأكوان                      كلها من جزئياتي

حين أكون مجموع مع ذاتي

   فهذا مسلك أول في علاج الفراغ الروحي باعتبارة زكاة لأرواحنا وشفاء لعللنا، ويأتي تبعاً لطرق العلاج التي أوردناها من قبل. قال سيدي عبد القادر الجيلاني رحمه الله:

  "يا غلام، إذا صحت خلوتك مع الله عز وجل، دهش سرك وصفا قلبك، يصير نظرك عبراً، وقلبك ذكراً، وروحك ومعناك إلى الحق عز وجل واصلاً. التفكر في الدنيا عقوبة وحجاب، والتفكر في الآخرة علم وحياة للقلب، وما أعطي عبد التفكر إلا أعطي العلم بأحوال الدنيا والآخرة"14

    تحقيق الوظيفية مطلب في التجريد وصفاء الباطن سواء كان بالتحديد الزمني وهو الأفضل، أو مجرداً عن الوقت، وقد سارع أهل العلم المعتبرين إلى الاعتناء بذلك في قالب قواعد ومبادئ منها مثلاً: (من لم يتمكن من تعمير كافة الأوقات فليجتهد في تعمير الأوقات الفاضلة). وهذا ما يعبر عن الصوفية بوظيفة الصباح والمساء.

                                       

الخلوة مع القرآن

   تأخذ الخلوة هنا معنى مغايراً للمعهود، ليس الاعتزال وركوب الفيافي والقفار، والرباط دون المعاشرة والاختلاط، ولكن القصد الخلوة إلى الله بمخالطة كتابه وتدبر معانيه في الليل البهيم الطويل، فهي ساعة السكون التي ترتقي فيها المعاني وتتحصل فيها الأماني..

ولقد خلوت مع الحبيب وبيننــا       سـر أرق من النسيم إذا سـرى

وأباح طرفي نظرة أمــلتهــا         فغدوت معروفـا وكنت منـكرا

   فهي ساعة الوصل، أقرب ما يكون فيها الرب من العبد، يتنزل فيها المدد، ولا يستقيم الحال حينها إلا في (ترتيل القرآن والكون ساكن، وكأنما يتنزل من الملأ الأعلى وتتجاوب به أرجاء الوجود في لحظة الترتيل بلا لغط بشري ولا عبارة، واستقبال إشعاعاته وإيحاءاته وإيقاعاته في الليل الساجي..إن هذا كله هو الزاد لاحتمال القول الثقيل، والعبء الباهظ والجهد المرير الذي ينتظر الرسول وينتظر من يدعو بهذه الدعوة في كل جيل، وينير القلب في الطريق الشاق الطويل، ويعصمه من وسوسة الشيطان، ومن التيه في الظلمات الحافة بهذا الطريق المنير)  

   ولقد كان الصحب الكرام رضي الله عنهم أضبط الناس في تمثله والمداومة عليه، خلاصاً من زحمة الحياة، وتفرغاً لموحيات الكون جمعاً بين المسطور والمنظور، واقتباساً منه لعلوم التيسير والتسخير، وسباحة في بحر معارف القرآن،  لذا قام هؤلاء الرجال الكمّل بعد أن نزلت أوائل سورة المزمل ـ الليل سنة كاملة. وقيل عشر سنين حتى تورّمت سوقهم وأقدامهم فنزل التخفيف في آخر السورة: ((إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه وطائفة من الذين معك، والله يقدر الليل والنهار علم أن لن تحصوه فتاب عليكم فاقرءوا ما تيسر من القرآن، علم أن سيكون منكم مرضى وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله، وآخرون يقاتلون في سبيل الله فاقرءوا ما تيسر منه وأقيموا الصلاة.. الآية)).

   وإن هذا المنهج المبارك لمّا تعدّاه الفرد والأمة وتجاوزه بل تناساه ـ إن صح التعبير ـ أحدقت بفهمه الظنون، وببصيرته المنون، فأشكل عليه مسايرة الواقع وأضحى حائراً يدور في بحر لجي متلاطم الأمواج، يَدري العارف مدى الترابط في المعرفة بينها وبين فتْح رباني لتسديد الوجهة، وفي نظري القاصر ليس هنالك من مستودع للحقائق غير القرآن نفسه كما سبق وأشرت، فجولة مع تمعُّن في أدعية الأنبياء في القرآن تدري لم كان طلب المدد في مهمة الرسالة ومقاليد الحوار؟ في قول الله تعالى على لسان موسى عليه الصلاة والسلام: "رب اشرح لي صدري..".

                                     

                                        

 

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 3882

 تاريخ النشر: 11/10/2009

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1140

: - عدد زوار اليوم

7403011

: - عدد الزوار الكلي
[ 66 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan