::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> دراسات وأبحاث

 

 

ردود على شبهات العلمانيين

بقلم : الدكتور أحمد محمد الفاضل  

ردود على شبهات العلمانيين

وبيان لآراء علماء اللغة والمفسرين

دراسة علمية لمفهوم الأمر بكلمة (اقرأ )

 

 

بقلم : الدكتور أحمد محمد الفاضل

أستاذ التفسير وعلوم القرآن

في القسم الجامعي /معهد الفتح الإسلامي

 

    في هذا المبحث أناقش معنى القراءة التي أمر بها رسول الله صلى اله عليه وسلم من جبريل الأمين حين قال له آمراً: اقرأ, و كرر ذلك ثلاثاً, فقال رسول الله مظهراً عذره: ما أنا بقارئ, ثلاثاً أيضاً, و أقف عند:

-           معنى القراءة في الحديث.

-           فهم العلمانيين لمعنى هذه القراءة.

1 - معنى القراءة في الحديث:

الذي يبدو من معنى القراءة في اللغة أنّها: ضم الحروف و الكلمات بعضها إلى بعض, و هذا المعنى تكاد تطبق عليه كتب اللغة و التفسير.

     يقول الطبري: (( قرأت الشيء, إذا جمعته و ضممت بعضه إلى بعض, كقولك: ما قرأت هذه الناقة سلىً قط, تريد بذلك أنها لم تضمم رحمًا على ولد ))(1).

    و قال الراغب الأصفهاني: ((القراءة: ضم الحروف و الكلمات بعضها إلى بعض في الترتيل, و ليس يقال ذلك لكل جمع, لا يقال: قرأتُ القومَ: إذا جمعتهم, و يدل على ذلك أنه لا يقال للحرف الواحد إذا تُفُوِّه به قراءةٌ))(2).

    و هكذا نرى أنّ الراغب الأصفهاني حصر معنى القراءة في ضم الحروف و الكلمات دون غيرها, لكن الطبريَّ أطلق ذلك و لم يقيده في الترتيل, و كذلك ابن منظور أطلق و لم يقيد. يقول: ((وقرأت الشيء قرآنًا: جمعته و ضممت بعضه إلى بعض, و منه قولهم: ما قرأت هذه الناقة سلىً قط, و ما قرأت جنينًا قط, أي لم يَضْطَمَّ رحمها على ولد...))(3).

(1) جامع البيان (1/95). و السّلى: الجلدة الرقيقة التي يكون الولد في بطن أمه ملفوفًا فيها, و هو في الدواب و الإبل: السّلى, و في الناس: المشيمة. انظر هامش المصدر السابق.

(2) مفردات ألفاظ القرآن (قرأ). و انظر: الكليات ، لأبي البقاء الكفوي (قرأ).

(3) اللسان (قرأ).

 

    الخلاصة في معنى القراءة, أنّها ضمّ الحروف و الكلمات بعضها إلى بعض, و هذا يقال لمن يقرأ من مكتوب أمامه, أو من مخزون ذاكرته و حفظه. يقولون: قرأ الرجل في صلاته بكذا, فلا يفهم أحد أنه أمسك في صلاته بكتاب يقرأ منه(1), و تخاطب الطفل الذي لا يحسن قراءة المكتوب, فتقول له: اقرأ ما حفظته من القرآن, فيقرأ لك..

    و يقوّي هذا قوله  صلى اله عليه وسلم في الجواب: ((ما أنا بقارئ)) و قد كررها ثلاثًا. فـ(ما) نافية, و الباء زائدة لتأكيد النفي. أي: ما أحسن القراءة(2).

    ما تقدم, هو معنى القراءة التي أمر بها رسول الله رسول الله صلى اله عليه وسلم, و هذا ما تدل عليه اللغة, و الآيات, و الأحاديث, و هو ما أصفق عليه العلماء المحققون من قبل و من بعد. لكنّ العلمانيين يرون رأيًا آخر في تفسير القراءة, و في الصفحات الآتية, سنعرض آراءهم في ذلك:

 2- فهم العلمانيين لمعنى هذه القراءة:

يقول الدكتور نصر حامد أبو زيد: (( و من الضروري هنا قبل أن نمضي في تحليل النص أن نتوقف عند مسألتين هامتين:

    المسألة الأولى: أنّ الأمر بالقراءة هنا أمر بالترديد, و (اقرأ) معناها (ردِّدْ) و ذلك على خلاف الفهم الشائع حتى الآن و المستقر نتيجة تطور دلالة الفعل: (اقرأ) مع تطور مماثل في إطار الثقافة أدّى إلى تحويلها من الشفاهية إلى التدوين.

    المسألة الثانية: و هي تنبني على الفهم السابق للأمر بالقراءة – أنَّ قول النبي: ما أنا بقارئ, لا تعني الإقرار بالعجز عن القراءة, فهذا الفهم يصح في حالة الخطأ في فهم معنى الفعل: (اقرأ), بل المعنى: لن أقرأ. و العبارة تجسد حالة الخوف التي انتابت النبي حين فاجأه المَلَك, فأخذ يكرر: ما أنا بقارئ ثلاث مرات. و في كل مرة يحاول الملك تهدئة روعه و يؤكد هذا الفهم من جانبنا أنّّ النبي بعد تحقيق فعل القراءة – استجابة لإلحاح الملك و خشية من غطة رابعة – أسرع إلى خديجة ترجف بوادره, و قد سيطر عليه الخوف و الفزع))(1).

(1) انظر: الملحق في أمية النبي r في كتاب: من هو سيد القدر في حياة الإنسان, للدكتور البوطي (100-101).

(2) انظر: فتح الباري ،لابن حجر (1/32-33).

 

 

    إذن قول جبريل للنبي رسول الله صلى اله عليه وسلم: اقرأ, معناه: ردِّدْ, و هذا المعنى للفعل غاب عن السابقين و اللاحقين, و الذي ظفر بهذا المعنى الذي خفي, هو نصر حامد أبو زيد!

    و قول النبي  ف رسول الله صلى اله عليه وسلم ي الرد على طلب جبريل: ما أنا بقارئ, لا يعني الإقرار بالعجز عن القراءة, بل المعنى: لن أقرأ !!

    هذا ما يراه نصر أبو زيد, فما مصدره؟ و ما دليله؟ أليس الفيصل في مثل هذه المسألة, و في فهمها, هو العودة إلى كتب اللغة و التفسير أولاً, و إلى فهوم العلماء ثانيًا؟

    و دونك كتب اللغة و التفسير فلن تظفر بشيء ممّا ادّعاه و ارتآه:

   - ففي جامع البيان, للطبري(2), و قد وقف عند معنى القراءة, لم يشر إلى ما ذهب إليه نصر حامد أبو زيد.

    و نقبت في المعاجم الآتية مادة (قرأ) فما وجدت المعنى الذي ذكره:

   – مفردات ألفاظ القرآن , للراغب الأصفهاني.

   – أساس البلاغة, للزمخشري.

   – النهاية في غريب الحديث, لابن الأثير.

   – لسان العرب, لابن منظور.

   – القاموس المحيط, للفيروز آبادي.

    هذه المصادر الأصيلة في اللغة و التفسير, خالية الوفاض من هذا الذي جرى على قلم نصر أبو زيد من أنّ معنى: اقرأ: ردِّدْ.

   بعد هذا, من الإنصاف أن يقال للدكتور حامد أبو زيد: أليس من حق العلم أن يسألك: من أين جئت بهذا المعنى الفريد للقراءة؟

 

1) مفهوم النص (65-67). و البوادِرُ: جمع بادِرة, و هي اللحمة بين المنكب و العنق. المعجم الوسيط (بدر).

(2) جامع البيان (1/95).

 

 

    أليس من حق البحث العلمي أن يناديك: أين الحواشي و الهوامش في كتابك التي توثق هذا الذي قلته و ذهبت إليه؟

    أليس من حق اللغة العربية – و أنت متخصص في دراستها – أن تقول لك: لا تثبت بالعندية لغة و لا معنى؟

    هذه أسئلة منصفة كان حقاً على الدكتور نصر أن يجيب عنها في هذا الذي ذهب إليه.

    و كما أبت اللغة و أبى شارحو الحديث(1) المعنى الذي انتهى إليه الدكتور نصر في فهم القراءة المأمور بها رسول الله رسول الله صلى اله عليه وسلم, كذلك السياق يأباه و يخاصمه و لا يستقيم معه بحال من الأحوال.

    و هذه الآيات: ) اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ* اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ* الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ *عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ([العلق/1-5].

    ففعل القراءة كرر مرتين بصيغة الأمر, و فعل التعليم كرر ثلاث مرات بصيغة الماضي مرتين, و بصيغة المضارع مرة واحدة, و ذكرت أداة التعليم و الكتابة (القلم) و كل هذا يتناسب مع معنى التلاوة الذي عليه اللغويون و المفسرون و لا يتفق مع معنى الترديد الذي يريده الدكتور نصر أبو زيد.

    و لو افترضنا أنّ من معاني القراءة (الترديد) و وجدنا لذلك أصلاً في كتب اللغة, فإن هذا المعنى يُعاديه السياق لهذه الآيات..

    و الدكتور نصر يفتخر بأنه على أثر شيخه الأستاذ أمين الخولي الذي يؤكد على قواعد في التفسير لا ينبغي للمفسر أن يتجاوزها, و منها اعتبار السياق في الكلام, فلا تنزع الكلمة المراد تفسيرها من نظمها في الكلام, ثم تفسر بمعزل عن ذلك؛ لأن المعنى المبتغى يضيع و يضل..

(1) كالنووي في شرح مسلم (2/199), و ابن حجر في فتح الباري (1/32).

 

 

   فمثلاً قوله تعالى: )وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ ...([يوسف/45] لو نزعنا كلمة (أمةٍ) من سياقها, و فسرناها, لكان معناها (الجماعة) و نحو ذلك, و هذا المعنى غير مراد هنا البتة, بل معناها الفترة و المدة(1).

    تقول الدكتورة عائشة عبد الرحمن (بنت الشاطئ) في بيان منهج الشيخ أمين الخولي في التفسير و بيان إعجاز القرآن: ((... و ثالثة من وجوه الدقة في النص, هي استحالة تفسير صيغة من صيغه أو عبارة من عباراته مبتورة من سياقها الخاص في الآية, و السورة من سياقها العام في المصحف كله..

    كاستشهاده (أي مصطفى محمود(2)) بقوله تعالى: ) وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللّهِ([البقرة/74] لدك الجبال يوم القيامة مبتورة من سياقها في قوم موسى:) ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ..( و لا علاقة لها إطلاقًا بدك الجبال يوم القيامة..))(3).

    و قول الدكتور نصر بعد ذلك: ((... أنّ النّبي بعد تحقيق فعل القراءة – استجابة لإلحاح المَلَك و خشية من غطة رابعة – أسرع إلى خديجة ترجف بوادره, و قد سيطر عليه الخوف و الفزع)) فيه إيهام و تدليس، المراد منه إضاعة المعنى الحق..

    و لا بد لبيان إيهامه و تدليسه من الرجوع إلى الرواية التي جاء فيها:

((.. قال رسول الله رسول الله صلى اله عليه وسلم: فجاءني جبريل, و أنا نائم بنمط من ديباج فيه كتاب, فقال: اقرأ؛ قال: قلت: ما أقرأ ؟... فقال: اقرأ, قال: فقلت ماذا أقرأ؟ ما أقول  ذلك إلا افتداء منه أن يعود لي بمثل ما صنع بي, فقال: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ..) قال: فقرأتها, ثم انتهى عني فانصرف عني وهببتُ من نومي, فكأنما كتبت في قلبي كتابًا. قال: فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل سمعت صوتًا من السماء يقول: يا محمّد, أنت رسول الله و أنا جبريل, قال فرفعت رأسي إلى السماء أنظر, فإذا جبريل في صورة رجل صافٍّ قدميه في أفق السماء...))(4).

(1)  انظر: تفسير النسفي (2/114).

(2) في كتابه: القرآن محاولة لفهم عصري (180).

(3) القرآن و قضايا الإنسان (321-322).

(4) سيرة ابن هشام (217-218).

 

 

    فهذه الرواية تصادم ما في الصحيحين من أنَّ رسول الله أظهر عذره بقوله: ما أنا بقارئ, أي: لا أحسن القراءة لأني أمي, فكان منهج النقد الحديثي يقتضي من الدكتور نصر ألا يغفل هذه الرواية؛ لأنها بلغت الغاية في الصحة, فإن كانت الروايات الأخرى المخالفة لها ضعيفة, فلا يلتفت إليها كهذه الرواية المرسلة و إن كانت صحيحة أو حسنة, يجمع بين هذه الروايات – إن أمكن ذلك – بما يوافق أصح الروايات.. لكن الدكتور نصر لم يصنع ذلك كله, و لعله إنما  فعل هذا؛ لأنَّ رواية الصحيحين تثبت أمية النبي رسول الله صلى اله عليه وسلم, و هذا ما لا يوافق هوى الدكتور نصر, و روايته المرسلة التي تلقفها تدل على أنّه عليه الصلاة و السلام يحسن القراءة و ذلك عند قوله: فقرأتها..!

  لكن الدكتور نصر غفل عن أنّ هذا الأمر بالقراءة من جبريل و الغت(1) ثم الاستجابة من رسول الله بتحقيق فعل القراءة, كان في المنام لا في اليقظة كما قال: فجاءني جبريل و أنا نائم... وهببت من نومي.. و الحقيقة أنه لم يغفل عن هذا, لكنه أراد الخلط و الإيهام, لتكون النصوص على وفق هواه و مراده, و خلطه ظاهر؛ لأنَّ قوله أنَّ النبي استجاب للملك و حقق فعل القراءة, أي: قرأ من رواية ابن اسحق المرسلة, و تفسيره: ما أنا بقارئ من رواية الصحيحين, و الأولى كانت منامًا و الثانية كانت يقظة!!

    و قوله: ((أسرع إلى خديجة ترجف..)) لم يكن سببه في رواية ابن إسحق المنامية التي ركن إليها في تحقيق فعل القراءة – أمر جبريل له بالقراءة و الغط هذه المرات, بل سببه رؤيته جبريل بعد هذه الرؤيا بأم عينيه.. انظر الرواية: (( وهببت من نومي.. قال: فخرجت حتى إذا كنت في وسط من الجبل... ))!

    و بعد, فلِمَ هذا الإيهام و التضليل و التدليس؟ و لِمَ هذا التفسير لمعنى القراءة الذي يصادم اللغة؟

    كل ذلك من أجل أن ينفي الأمية عن رسول الله رسول الله صلى اله عليه وسلم. و هذا ما سنقف عنده في مبحث قادم إن شاء الله تعالى.

    و هذا التأبي من رسول الله في قوله: ما أنا بقارئ, أي لن أردِّد كما ذكر نصر, هو عينه الذي يقول به هشام جعيط. و هذه عباراته:

 

(1) الغت: بمعنى (الغط) كما في الرواية المتفق عليها. انظر: القاموس المحيط (غتت).

    ((... لكن بالأساس تحفظ النبي بل صموده أمام الشخص الماورائي (أي جبريل) و أوامره يُمثّل صمود الذات الإنسانية أمام الاختراق من الخارج و رفض مبدئي للائتمار.

    فعبارة (ما أنا بقارئ) التي تبدو مبهمة لا تعني في رأيي: لا أحسن القراءة, بل: أرفض أن أقرأ؛ لأني حر في أن أقرأ أو لا أقرأ..))(1).

    و أمّا الكاتب الصادق النيهوم, فيزعم أنّ (اقرأ) بمعنى جاهر, و أعلن, و نادِ, و بلّغ, و يدّعي أن أصلها كلداني!!

    يقول: (( لكن ثمة خطأ لغوي فاضح, ارتكبه الرواة من دون أن يدروا على عادة المزوّرين في كل العصور. فالواقع أنّ كلمة (اقرأ) لا تعني أصلاً فعل القراءة. إنّها كلمة ذات أصل كلداني, مصدرها (ق ر ا) و تعني: أعلن و جاهر و نادى و بلغ. و منها في لغتنا العربية: يقرأ السلام, بمعنى: يبلغه, و قد وردت في التراتيل الكلدانية بهذا المعنى في قولهم: (قر را ب ش م م ر ي ا), أي: نادى باسم الرب. و هو المقصود في مثل قوله تعالى: (اقرأ باسم ربك) فالآية لا تطلب من الرسول أن يقرأ, بل تكلفه بإعلان الدعوة التي تمثلت في تصحيح مفهوم (الرب) بالذات, و لهذا السبب تكررت هذه الكلمة نفسها في الآية مقرونة باسم التفضيل في قوله تعالى: )اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ([العلق/3] و ليس الكريم فقط. إنَّ القرآن لا يفتتح نزوله بدعوة الرسول إلى القراءة كما يزعم رواة القصة المزورة ))(2).

    و هذا الذي يقوله الصادق النيهوم متهافت من جهتين:

    الأولى: زعمه بأنَّ (اقرأ) بمعنى: بلّغ, لا يتفق مع الحقيقة المعروفة من أنَّ رسول الله صلى اله عليه وسلم, لم يؤمر في مفتتح الوحي بالتبليغ و الدعوة, و إنما كان ذلك بعد حين, لأنه لا يعقل أن يؤمر بذلك, و هو في شك من هذا الذي جاءه و رآه رأي العين في حراء.(1) الوحي و القرآن و النبوة (39-40).

(2) إسلام ضد الإسلام, للصادق النيهوم (22) و هو مجموعة مقالات نشرها في مجلة الناقد البريطانية, ثم جمعها مع الردود عليها في كتاب سماه : إسلام ضد الإسلام!!

 

    و هذا ما يدل عليه الحديث, فقد استولى عليه الرَّوع, و رجع إلى أهله, يرجف فؤاده, و أخبر زوجه خديجة الخبر, فسكبت في قلبه الطمأنينة و السكينة بما قالت له من كلمات, ثم ذهبت به إلى ورقة بن نوفل.... (1)

    الثانية: و أمّا ادعاؤه بأنَّ كلمة (اقرأ) ذات أصل كلداني – و قد جُهل هذا الأصلُ على مر العصور و كر الدهور – فهذا ممَّا يضحك الثكلى!!؛ لأنه ليس من المعقول في شيء أن يغيب هذا المعنى عن علماء اللغة و التفسير و الحديث طوال هذه الأيام المديدة المنصرمة – و هم مَنْ هم في سعة علمهم و عظيم حفظهم – ثم يظهر لمتأخر مثل الصادق النيهوم و نصر حامد أبو زيد و هشام جعيط و غيرهم..!!

    وما تخيله الصادق النيهوم, ليس بدعًا من القول, تفتقت عنه أزاهير فكره, بل سبقه إليه المستشرقون, فقد زعموا بأنَّ مادة (قرآن) من المحتمل بأن تكون مشتقة من كلمة (قرأ) و هي كلمة سريانية في أصلها, و هو (قريانه), أي: القرأه, حيث كانت تستعمل في الكنيسة السريانية(2)

    و ما جاء في دائرة المعارف الانجليزية, يردده مستشرق آخر أيضًا, هو ريجي بلاشير(3).

    و ليست كلمة قرآن وحدها, هي التي ادُّعي بأنَّها دخيلة على العربية من أصل سرياني, و لكن هناك كلمات كثيرة, هي من لب العربية و أساسها, زعموا أنَّها غير عربية كذلك, ككلمتي الإيمان و الصلاة.. و الصراط و السورة.. و سدرة المنتهى التي زعم الأب انستاس الكرملي أنها من أصل لاتيني, و قد تبعه حسن سالم في هذا الزعم كما جاء في مجلة (المصور) القاهرية في 17 كانون الأول 1967م, العدد/2723/(4).

    هذا,و يُبطل زعمه السابق بكلدانية (اقرأ) أنّ:

(1) انظر: حديث السيدة عائشة في نزول الوحي, و قد تقدم آنفاً.

(2) انظر: قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية, للدكتور فضل عباس (25).

(3) في كتابه: القرآن, نزوله, تدوينه..(23). و انظر: المستشرقون و الدراسات القرآنية, للدكتور محمّد حسين علي الصغير (34).

(4) انظر: قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية (26).

 

    القاف و الراء و الحرف المعتل كما يقول أحمد بن فارس: (( أصل صحيح يدل على جمعٍ و اجتماع, من ذلك: القرية, سميت قرية لاجتماع الناس فيها, و يقولون: قريت الماء في المِقْرَاة: جمعته... و القرو: حوض معروف ممدود عند الحوض العظيم, ترده الإبل... و إذا هُمِزَ هذا الباب, كان هو والأول سواء, يقولون: ما قرأتْ هذه الناقة سلى, كأنه يُراد أنَّها ما حملت قط... و منه القرآن, كأنَّه سمِّي بذلك لجمعه ما فيه من الأحكام و القِصص و غير ذلك...))(1).

    و إذا تركنا هذه الكلمة, فإننا سنجد أنَّ القاف و الراء أيًا كان ثالثهما, يدل على الجمع كذلك, خذ مثالاً مادة (قرب) فإنَّه ضد البعد, و فيه معنى الاجتماع, و منه (القرت), و هو تجمع الدم و يبوس بعضه على بعض... و منه (القرص) و هو الغمز و القبض بالأصابع, و أخيرًا, فهذه مادة (قرن, و اقترن), و معنى الجمع فيها ظاهر ملحوظ(2).

    يقول الأديب الكبير عباس محمود العقاد في تجلية هذه الحقيقة: (( فإذا التبس علينا أمر كلمة من الكلمات, فلم نعلم في ظاهر الأمر: أهي من الألفاظ الأصيلة أو من الدخيل عليها, فلدينا هذا المقياس الحاضر نقيس به دلالة الكلمة, و نردها إلى حياة العرب و إلى المعهود من تعبيرها عن معالم تلك الحياة, فلا يطول بنا العناء في الرجوع بها إلى أصل معقول نطمئن إليه.

    قيل مثلاً: إنَّ كلمة (القلم) مأخوذة من (كلموس) اليونانية... و لا يعزى الاستناد في هذا القول إلى مرجع من مراجع التأريخ المحقق غير مجرد الظن القائم على التشابه في مخارج اللفظين, و هو لا يدل على السابق إلى وضع الكلمة من اللغتين.

    و لكننا نستطيع أن  نرد الكلمة إلى القلم أو التقليم من القلامة في اللغة العربية فنرى أنها أصيلة في هذه اللغة بهذا المعنى, و نتقصى المادة فنعلم أنها لا تنتقل بجملتها من لغة إلى لغة.

 

(1) معجم مقاييس اللغة (قرى).

(2) انظر: قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية (29

 

    فمادة القاف و الميم و ما يتوسطهما مطردة في الدلالة على الشق و القطع, و منها قحم و قرم, و قسم و قصم و قضم و قطم و قلم...

    و نعود إلى الشيء الذي (يُقلم) فنعلم أنَّ القناة و القصبة و الريشة ممّا يقلمه العرب و يتخذونه من لفظ أصيل في لغة لا  ينقلونه من لفظ آخر في لغة أجنبية))(1).

    علينا إذًا أن نراتب المتوافقات و المتباينات ضمن الكل نفسه, فنتبع كلمة (اقرأ) في القرآن باعتباره (كلاً), و تكون المقارنة التي استعملت في تلك الدراسة بين العربية و غيرها هي إظهار العلاقة و التوقف على معالم التشابه و الاختلاف فحسب, أمَّا ضمن نسق النص فعلى الاختيار أن يكون دقيقًا يشمل في استقرائه النص كله لا جزأه, مثال على ذلك:

أن نأخذ من السورة صيغ التَّعلم و القراءة في جزئياتها, فلا نأخذ كلمة (قرأ) في الآية دون صيغة (الذي علم بالقلم) لنرى: ما هي أبعاد العلاقة بين كلمة (قرأ) و كلمة (علم) و كلمة (قلم). ضمن هذه المعطيات, كيف يمكن أن نفسر القرآن كلدانيًا, في حين أنَّ هذا النسق لديه عموميات واسعة, كل واحدة منها تحاول أن تضفي الانسجام على الأخرى, و تحاول أن تفسر أختها, منها أنه لم تكن الإشارة إليه بأي حال يومًا:((إنَّا أَنْزَلْنَاه قُرْآنيًا كلدانيًا ))!! لعلكم تعقلون(2).

    و أخيرًا: هب أنَّ كلمةً في السريانية, جاءت مشابهة لهذه الكلمة, أفلا يمكن أن يُدَّعى أنّ الكلمة السريانية هي المأخوذة عن العربية؟ و لم لا تكون هناك كلمات متشابهة في لغات متعددة, و مَنْ يدري أي الوضعين كان أسبق من الآخر؟(3).

------------------------------------------------------

(1) اللغة الشاعرة (42-43).

(2) انظر مقال: قرآن عربي لا كلداني, لعماد سيف الدين في رده على الصادق النيهوم من كتاب: إسلام ضدّ الإسلام (84-85).

(3) انظر: قضايا قرآنية في الموسوعة البريطانية (29-30).

 

 

 

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 3582

 تاريخ النشر: 26/03/2008

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1501

: - عدد زوار اليوم

7448783

: - عدد الزوار الكلي
[ 51 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan