::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> كلمة المشرف

 

 

محطات مع العام الجديد (2): التوبة إلى الله.

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان (المشرف العام)  

محطاتٌ مع العام الجديــد (2):

التوبــــة إلى اللـــه تعالى

 

كنا قد بدأنا المحطة الأولى من محطات العام الجديد بالحديث عن سيدنا عيسى عليه الصلاة والسلام ومكانته عند المسلمين، كيف يعظمونه ويجلونه ويؤمنون به واحداً من الرسل والأنبياء الذين اختارهم ربنا واصطفاهم، وكان اصطفاؤه مميزاً حيث اختاره الله من أم بلا أب في معجزة تاريخية لا نظير لها..

في المحطة الثانية من محطات العام الجديد نتحدث عن التوبة إلى الله سبحانه والإقبال عليه وتجديد الصفحة مع الله، فنحن في عامٍ جديد يحتاج منا أن نفتتحه بتوبة صادقة، لا نرجع فيها إلى ما كنا عليه من أحوالنا السابقة التي كنا نشكو فيها ضعف الهمة في العبادة، وغياب الإقبال على الله، فالتوبة إلى الله هي وظيفة العمر التي لا يستغني عنها المسلم أبداً.

نحن نحتاج إلى توبة كل يوم، كيف لا وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يستغفر الله ويتوب إليه في اليوم أكثر من 70 مرة، فما بالنا نحن؟ ونحن نرتكبُ الزلات ونقع في المعاصي والموبقات؟؟!!.

تعالوا بنا نلبي دعوة الله وهو يدعو عباده إلى التوبة ((وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) [النور:31].

ما من نبي إلا دعا قومه إلى التوبة كما قص القرآن علينا ذلك في مواضع متعددة، لأن التوبة تعني الرجوع إلى الله وهذا مؤداها اللغوي.

ومن أسماء الله تعالى وصفاته (التواب): أي كثير قبول التوبة من عباده.

 

¨   معنى التوبة:

إذا أردنا أن نقف على تعريف دقيق لمصطلح (التوبة)، فإننا نقول: إن التوبة هي الرجوع إلى الله بحَلِّ عُقدة الإصرار عن القلب، أي: الإصرار على الذنب.

بعض العلماء قالوا: التوبة هي ترك الذنب لقبحه، والندم على ما فرط فيه، والعزم على ترك العودة إليه.

إن الإنسان عندما يرتكب ذنباً، فإذا خلا مع نفسه أنَّبه ضميره الداخلي، وهذا الضمير هو مراقبة الله سبحانه، فهي تدعوه ألا يقع في ما نهاه الله عنه، لأن الله يدعونا أن نتقي الله، أي أن نضع حاجزاً بيننا وبين ما يُغضبه.

والتقوى هي ألا يراك الله حيث نهاك وأن يجدك حيث أمرك. فعلينا أن نلتزم ما أمرنا الله به، وأن نترك ما نهانا عنه.

 

¨   شروط التوبة:

عندما تكلم العلماء عن التوبة قالوا: لا بد لها من أربع شروط:

1.    الإقلاع عن الذنب، أي تركه، سواء كان من الكبائر أو الصغائر.

2.  الندم على الذنب، بمعنى أن يندم على فعلته التي وقع فيها ويشعر بالأسف على تلك المعصية التي ارتكبها، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الندم توبة" [رواه الحاكم في المستدرك وقال عنه الحافظ الذهبي: صحيح].

3.    العزم على عدم العودة إلى الذنب: وهو شرطٌ لا بد له من نية جازمة، عليه أن يقطع عهداً على نفسه ألا يعود إلى ذلك الذنب.

4.    التحلل من الحقوق، أي حقوق الناس، فلا بد من رد الحقوق إلى أصحابها.

فلو كانت المسألة في حق من حقوق الله لكان مبنى الأمر فيها على المسامحة، فالله مسامحٌ كريم جواد، يلطف بعباده ويفتح لهم باب القبول، ويكرمهم بقبول توبتهم كلما تابوا من ذنوبهم، أما العباد فمبنى التعامل معهم على المشاححة، فالعبد لا يسامح، لذلك كان لا بد من التحلل من حقوق العباد.

 

¨   أنواع التوبة:

والتوبة نوعان: توبة إنابة وتوبة استجابة.

1.  أما توبة الإنابة: فهي أن يخاف العبد من الله سبحانه لقدرته عليه، فالله قادر مهيمن مسيطر، قادر أن يفضحه وهو يقع في الذنب الذي ارتكبه، فعندما ينيب العبد إلى الله هذه توبة الخائفين، فقد شعر بخوف من الله وعلم أن الله يراه فأقبل تائباً إلى ربه سبحانه وتعالى.

2.    وأما توبة الاستجابة: فهي أن يستحي العبد من الله لقربه منه، فهو يعلم أن الله قريب ((وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)) [ق:16]. فإذا علم قرب الله منه علم أن الله يراه ومطلع عليه، يسمع نجواه ويطلع على سره، عندها يتخلى عن الذنوب، ويعاهد الله ألا يعود إليها.

 

¨   ورود التوبة في القرآن:

وردت التوبة والدعوة إليها في القرآن في أكثر من 47 آية وبعدة صيغ، منها:

قوله تعالى: ((إنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمْ)) [البقرة:54]. وردت هنا بصيغة المبالغة: توَّاب=فعَّال=كثير التوبة على عباده، فأقبِلْ إليه أيها العبد في كل وقت وكل حين، وفي كل آن، وتُبْ إليه، فالله سيتوب عليك، وهذه الصيغة لحث العباد على التوبة.

وقوله: ((فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ)) [البقرة:160]، فصيغة المضارع دليل على استمرار التوبة.

وقوله: ((وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ)) [التوبة:15]. مضارع، أي يتوب الله على من يشاء، ولم يخصص ربنا في هذه الآية فئة ولا جماعة، بل تركها على الإطلاق.

وقوله: ((ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ)) [التوبة:117]. بصيغة الماضي.

وقوله: ((غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ)) [غافر:3]. صيغة تفيد بأن الله يقبل التوبة من عباده، فأيما أحدٌ أقبل إليه أقبل الله عليه، وأيما إنسان أعلن توبته لله تعالى، فإن الله يتوب عليه ويقبله.

 

¨   التائبون في القرآن:

نجد في القرآن معاني كثيرة للتوبة، وتخصيصاً لصفات التائبين.

فقد ذكر الله صفة التوبة في الأنبياء والمرسلين، في قوله: ((نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ)) [ص:30].أي كثير الأوب والرجوع إلى الله، كلما وقع في أمر عاد إلى الله، وإذا أراد أن يفعل أمراً استخار الله، وإذا شعر أن في قلبه شيءٌ من الثقل بادر إلى الله وأقبل على الله.

وذكر الله صفة الأولياء والمقربين حيث قال: ((وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ)) [ق:33]. أي يملؤه الخوف والخشية من الله سبحانه.

فالإنابة من صفات الأولياء والمقربين وعباد الله الصالحين، فهم يخافون من الله خوفاً دائماً، لا من عذابه وإنما من أن يغضبوه، ويخافون ألا يكون راضياً عنهم مدى الحياة، فيحرصون على أن تكون كل أنفاسهم في طاعة الله.

وينقل عن السيدة رابعة العدوية أنها قالت: "إلهي ما عبدتُك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك، إنما عبدتك لأنك ربٌّ تستحق العبادة".

إننا مكلفون بالعبادة لله سبحانه وتعالى في البداية والنهاية، ومن صفات البعد أنه مكلف، والمكلف عليه أن يقوم بواجبه أحسن قيام، لكن السيدة رابعة عبرت في هذا المقام عن حالة الوجد التي كانت تعيشها، فقد كانت في حالة عبودية مستمرة لله في جميع أحوالها، لذلك وصلت إلى المقام الذي جعلها تقول إنها كانت تعبد الله لأنه إله عظيم تقدس في علاه، فهي تعبده لهذه القداسة ولهذه العظمة سبحانه.

فالأولياء يأتون إلى الله منيبين دائماً.

أما المؤمنون بشكل عام، فيقول الله عنهم: ((وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)) [النور:31].

 

¨   متى تُقبَلُ التوبة؟

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما من يوم ينشق فجره إلا وينادي: أنا فجر جديد، وعلى عملك شهيد، فتزود مني فإني لا أعود إلى يوم القيامة".

نحن في بداية العام، وعلينا أن نفتح صفحة جديدة مع الله سبحانه، بأن نُقبلَ على الله بقلبٍ منيب، بقلبٍ مقبلٍ خائف، بأن نستحضر معاصينا وآثامنا وتقصيرنا في حق الله، ونتوب إليه توبة نصوحاً، فإن باب التوبة مفتوحٌ ولم يُغلق قط.

باب التوبة مفتوح لكل الناس، سواء مرتكب الكبيرة أم مرتكب الكبيرة.

يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر" [رواه أحمد في مسنده]. أي ما لم تصل روحه إلى حلقومه، إلى مرحلة الغرغرة بحيث يفقد وعيه ولا يدرك ماذا يتكلم. فطالما أقبل العبد على الله وتاب إليه قبل موته ولو بساعة فإن الله يقبل التوبة عن عباده جميعاً، قال تعالى: ((إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُوْلَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً * وَلَيْسَتْ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُوْلَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً)) [النساء:17+18]. فالذين يعملون السيئات عن جهلٍ وتقصير وتفريط بحق الله ثم يتبعونها بتوبة إلى الله، فالله يتوب عليهم توبة صادقة طالما أنهم صدقوا في توبتهم معه.

أما أولئك الذين إذا حضرهم الموت ووصلت الروح إلى الحلقوم، فلا تقبل توبتهم، أو الذين يموتون وهم كفار.

فما دون الغرغرة تقبل توبة العبد ولو ارتكب ذنوباً ملء السموات والأرض.

ورد في الحديث أنه جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وقال: "يا رسول الله أحدنا يذنب، قال: يكتب عليه، قال: ثم يستغفر منه ويتوب، قال: يغفر له ويتاب عليه، قال: فيعود فيذنب، قال: يكتب عليه، قال: ثم يستغفر منه ويتوب، قال: يغفر له ويتاب عليه ولا يمل الله حتى تملوا".

 

¨   تجديد الإيمان:

  إن الله سبحانه وتعالى يقول: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا)) [النساء:136]. تدل هذه الآية على ضرورة تجديد الإيمان، أي أن يُجدد العبد إيمانه مع كل صباح، وفي كل يوم، مع كل نفس يتنفسه، يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، يستغفر الله ويتوب إليه، كما ورد في الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَوَضَّأَ ثُمَّ قَالَ: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنَ التَّوَّابِينَ، وَاجْعَلْنِي مِنَ الْمُتَطَهِّرِينَ، فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ يَدْخُلُ مِنْ أَيِّهَا شَاءَ" [رواه البيهقي]. إذاً هذه توبة مستمرة للعبد، وتجديد للإيمان دائمٌ ومتكرر.

 

¨   وختاماً.. رحلة التوبة إلى الله..

هكذا يبدأ العبد رحلته مع الله، توبةٌ صادقة، توبة مع وضوئه، توبة في صلاته، توبةٌ في سجوده، توبةٌ في دعائه، توبةٌ مع إنابة، توبةٌ مع خشوع، هكذا يبدأ العبد رحلة الإصلاح مع الله، رحلة الإقبال على الله، والله تعالى لم يغلق بابه ولا يغلقه في وجه عباده المقبلين عليه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللهَ تَعَالى يَبسطُ يَدهُ باللَّيلِ ليَتوبَ مُسيءُُ النَّهارِ، ويَبسطُ يَدهُ بالنَّهارِ ليَتوبَ مُسيءُ اللَّيلِ حَتَّى تَطلعَ الشَّمسُ مِنْ مَغربهَا" [رواه أحمد في مسنده].

إن رحمة الله واسعة، تشمل جميع عباده، سواء الذين ارتكبوا الذنوب الفواحش، أو من كانت ذنوبهم من الصغائر، فالله يخاطب عباده برحمته فيقول: ((قُلْ يَا عِبَادِي الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) [الزمر:53].

اللهم إنا نسألكَ أن تتوب علينا توبةً صادقة، يا أرحم الراحمين، إنا تُبنا إليكَ فتُبْ علينا، إنا رجعنا إليكَ فاقبلْ عودتنا، اللهمَ إنا نستغفركَ إنكَ كنتَ غفاراً، فأرسل السماء علينا مدراراً، وأمددنا بأموالٍ وبنين، واجعل لنا أنهاراً..

والحمد لله رب العالمين، وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم...

 

 

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 4436

 تاريخ النشر: 17/01/2010

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1047

: - عدد زوار اليوم

7402639

: - عدد الزوار الكلي
[ 77 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan