::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> محاضرات وندوات

 

 

آثار الإمام أبي حنيفة ودوره في الحوار بين الحضارات (1)

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان "المشرف العام"  

محاضرة ألقيت في طاجكستان

الإمام أبو حنيفة .. أمّة في رجل

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللّهم افتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نقوله حجة لنا، ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

        سأتناول بالحديث إماماً من أئمة المسلمين، حجّةً، علماً، ثقة ومجتهدا.. هو الإمام أبو حنيفة النعمان؛ صاحب أحد المذاهب الأربعة التي يتعبد الناس فيها ربهم، ويقلّدون فيها فقهه رضي الله تعالى عنه.

^ نشأته وتلقّيه العلم:

ولد الإمام النعمان بن ثابت المعروف بأبي حنيفة في الكوفة سنة (80هـ=699م). بدأ منذ نعومة أظفاره يذهب مع أبيه إلى متجره، حيث كان يلازمه ويتعلم منه أصول وأسس التعامل مع البائعين والمشترين، وتابع خطا أبيه وعاش في رخاء ويُسر. كان بزّازاً[1]،وكان له شريك في متجره يساعده في البيع والشراء.

رأى في صغره الصحابيَّ الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه، ثم التحق بحلقات شيخه حمّاد بن أبي سليمان وأخذ العلم عنه، وكان حماد فقيهاً كوفياً كثير الرأي. ومعلوم أن فقه أهل الكوفة يرجع إلى الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود الذي أرسله عمر بن الخطاب ليفقّه أهل الكوفة. وقد أخذ تلامذته من بعده عن علي بن أبي طالب أيام خلافته. ثم نشأ بعد هؤلاء التلامذة فقيهان أخذوا عنهم، هما: عامر الشعبي وإبراهيم النخعي. وصار هذان الإمامان فقيهي الكوفة في زمانهما. أما الأول فكان أميل للأخذ بالأثر، وأما الثاني كان يميل إلى الرأي، شأنه شأن عامة أهل الكوفة. ثم أخذ الفقه عن إبراهيم النخعي إمامان؛ منصور، وحماد. و أخذ سفيان الثوري رحمه الله تعالى الفقه عن شيخه منصور . وأخذ أبو حنيفة الفقه عن حماد. ومن تأمل فقه الإمامين أبي حنيفة والثوري رحمهما الله تعالى، لوجده قريباً من بعضه، فهذان الفقهان يكاد كل منهما يأخذ من الآخر، إلا أن فقه الإمام أبي حنيفة أكثر تفريعاً، وفقه الإمام سفيان الثوري كان أقرب للأخذ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

لزم أبو حنيفة عالِمَ العصر آنذاك وشيخ الشيوخ حمّاد بن أبي سليمان، وتخرَّج عليه في الفقه، و استمر معه إلى أن مات. بدأ بالتعلم عنه وهو ابن 22 سنة و لازمه 18 سنة من غير انقطاع ولا نزاع ولا خلاف. يقول الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: "بعد أن صحبتُ شيخي حمّاداً عشر سنين نازعتني نفسي لطلب الرياسة، فأردتُ أن أعتزله وأجلس في حلقة لنفسي. فخرجتُ يوماً بالعشيّ وعزمي أن أفعل، ولمّا دخلتُ المسجد رأيتُه ولم تطب نفسي أن أعتزله فجئتُ فجلستُ معه، فجاء في تلك الليلة نعي قرابة له قد مات بالبصرة، وترك مالاً وليس له وارث غيره، فأمرني شيخي حماد أن أجلس مكانه وألقي الدرس على الناس. فما هو إلا أن خرج حتى وردتْ عليَّ مسائل لم أسمعها منه، فكنتُ أجيب وأكتب جوابي. ثم قَدِمَ، فعرضتُ عليه المسائل وكانت نحواً من ستين مسألة، فوافقني بأربعين وخالفني في عشرين، فآليتُ على نفسي ألا أفارقه حتى يموت وهكذا كان". وفي ذلك درس عظيم لنا - نحن طلبةَ العلم - أن نحافظ على دروس مشايخنا، وألا ينظر أحدنا إلى نفسه أنه أصبح علماً كبيراً ومستغنياً عن علم شيوخه. علينا أن نحافظ على حلقات شيوخنا من المهد إلى اللحد. هكذا كان الأئمة الكبار رحمهم الله تعالى، ورضي عنهم، ونفَعنا بهم وبعلومهم.

كان الإمام أبو حنيفة شديد الأدب مع شيوخه وأساتذته، حتى أنه كان لا يتخلى باتِّجاه بيت شيخه حمَّاد[2]، وكان إذا نام يحرص أن لا تتوجه قدماه باتجاه بيت شيخه حمَّاد. و قيل إن أبا حنيفة لم يكثر من الشيوخ مخافة أن تكثر حقوقهم عليه فلا يستطيع أداءها، لذلك حافظ على شيخه حماد ولبث في حلقاته إلى أن لقس وجه ربه. فتأملوا في هذا الأدب الرائع!. وأخاطب هنا الإخوة طلبة العلم وطلاب المدارس أن يتأدبوا مع أساتذتهم وشيوخهم؛ فإن هذا الأدب سر عظيم في الفتوحات الربانية التي ينزلها الله سبحانه وتعالى على قلوب طلاب العلم والمتخصصين فيه.

^ مسايرة مذهبه للعصور والأزمنة:

وقد ثبت لدى أهل العلم أن مذهب الإمام أبي حنيفة يعد من أكثر المذاهب مسايرة للعصور والأزمنة والأمكنة؛ وذلك يتضح من خلال المخالفات التي كانت تكون بينه وبين أصحابه وتلامذته. لذلك فبعض أهل العلم يعدّ هذا المذهب مذهب الرأي والاجتهاد وإعمال العقل والتجديد، حتى أن بعض أهل العلم قالوا: "إن مذهب الإمام أبي حنيفة يناسب المدنية الحديثة". أي حيث ما وجد فقه الإمام أبي حنيفة فإنك لن تجد مشكلة ولا معضلة؛ لأن الإمام أبا حنيفة رحمه الله تعالى كان أول من اخترع ما يسمى بالفقه الافتراضي، أي كان يفترض مسألة لم تقع بعد، وكان يأتي لها بالأدلة والحل والأجوبة التي تناسب الزمان والمكان الذي ستكون فيه هذه المسألة.

^ تلامذتـه:

تخرج على يدي الإمام أبي حنيفة جمع كبير من الفقهاء، من أمثال الإمام أبي يوسف يعقوب بن إبراهيم (183هـ=799م): وهو الذي نشر المذهب الحنفي وأول من كتب فيه، وكان قاضي القضاة في عهود خلفاء ثلاثة، من أبرزهم هارون الرشيد رحمه الله تعالى. والإمام محمد بن الحسن الشيباني (189هـ=805م): كان من أذكى خلق الله تعالى على وجه الأرض كما يقول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى. وهو الذي دوّن المذهب الحنفي، وسجله، وقيد مسائله. والإمام زُفَر بن الهذيل وغيرهم. وهكذا فإن جل تلامذة الإمام أبي حنيفة كان كل واحد منهم أمّةً في نفسه. فإذا كان التلاميذ بهذا المستوى فكيف بشيخهم؟! قال شيخ الإسلام: «وأبو يوسف ومحمد هما صاحبا أبي حنيفة، وهما مختصان به كاختصاص الشافعي بمالك. ولعل خلافهما له يقارب خلاف الشافعي لمالك. وكل ذلك اتباعاً للدليل وقياماً بالواجب». والمجتهد إذا اجتهد فأصاب له أجران، وإن أخطأ فله أجر واحد. وقد ذكر ابن عابدين الحنفي في "حاشيته" (1|67): «حصلت مخالفة الصاحبين لأبي حنيفة في نحو ثلث المذهب». مما يدل على بعدهم عن التقليد و قدرتهم على الإبداع. وفي ذلك ردٌّ على من يزعم أن في الفقه الإسلامي جموداً، أو أنه لا يتماشى مع العصر، فالإمامان العظيمان "أبو يوسف ومحمد" خالفا شيخهما الإمام أبا حنيفة في ثلث مذهبه، واجتهدا بأقوال يُفتى بها إلى اليوم في زماننا.

^ من صفاتـه:

أ- حرصه على مظهره:

كان حريصاً على أن يكون مظهره حسناً تماماً، لذا كان كثير العناية بثيابه.

رأى مرة على بعض جلسائه ثياباً رثة فأمره أن ينتظر حتى تفرَّق المجلس وبقي وحده فقال له: "ارفع هذا المصلى وخذ ما تحته". فرفع الرجل المصلى وكان تحته ألف درهم، وقال له: "خذ هذه الدراهم وغيِّر بها حالك". فقال له الرجل: "إني موسر، وأنا في نعمة، ولستُ أحتاج إليه". فقال له أبو حنيفة: أما بلغك الحديث: "إن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده". فالإمام أبو حنيفة كان يُعلي من شأن العلم، ويرفع من مكانة العلماء عندما كان مظهره حسناً، وكانت يده يد تاجر ممتلئة على الدوام، وكان يعطي ولا يأخذ. وليس كل أهل العلم في عصرنا يبلغون رتبة أبي حنيفة علماً، وفقهاً، واجتهاداً، وعزة نفس، وعطاءً، ويسراً... وأن يجدوا بين أيديهم من العطاء والمال ما يجودون به على الناس.

ب- جوده وكرمه:

وكان من جود وكرم أبي حنيفة رحمه الله ورضي الله عنه:

1-  أنه كان إذا انفق على عياله نفقة تصدّق بمثلها على غيرهم من المحتاجين. وهذا يعد نوعاً من التكافل الاجتماعي والإحساس بآلام الآخرين.

2- وإذا اكتسى ثوباً جديداً كسا المساكين بقدر ثمنه.

3- وكان إذا وُضع الطعام بين يديه غرف منه ضعف ما يأكله عادة ودفع به إلى الفقراء.

4- وكان لأبي حنيفة شريك في بعض تجارته واسمه حفص بن عبد الرحمن. فكان أبو حنيفة يجهز له أمتعة الخز (الحرير) ويبعث بها معه إلى بعض مدن العراق. فجهز له ذات مرة متاعاً كثيراً وأعلمه أن فيه ثوباً فيه كذا وكذا من العيوب، وقال له :"إذا هممت ببيعها فبيّن للمشتري ما فيها من عيب". فباع شريكُه حفص المتاعَ كلَّه، ونسي أن يعلم المشتري بما في الثوب من عيوب. فلما عرف بذلك أبو حنيفة، بحث عن الذين أخذوا هذه التجارة التي بها عيب فلم يجدهم، فأخرج أبو حنيفة ثمن البضاعة كلها زكاةً وصدقة، فلم يأكل من تلك الصفقة قرشاً واحداً؛ لأن في ذلك شبهة.

ليت التجار اليوم يسمعون بأخلاق أبي حنيفة، ويعلمون هذه الحقائق التي حرص عليها في بيعه وشرائه. لكن كثيراً ما نسمع في زماننا أن الإنسان يشتري ثوباً، فيجد فيه عيباً، فيعود به على البائع الذي يقول: أنا لا أتعرف على أي عيب يحدث خارج المتجر، وهذا لا يُعد من تقوى الله سبحانه وتعالى، وكم سيكلّف التاجرَ ثوبٌ فيه عيب؟! فالثوب الذي يباع وفيه عيب يضرّ بالمشتري أكثر مما يضر البائع فعلينا أن نتقي الله جميعاً إن كانت لنا تجارة، فلا نغش الناس في بيعنا أو شرائنا، وإن كان في تجارتنا شيء من العيوب أن ندل الناس عليه؛ حتى لا نأكل مالاً راماً أو فيه شبهة الحرام.

^ حياة حافلة بالزهد والتقوى:

أدرك النعمان بن ثابت العصرين الأموي والعباسي؛ فقد عاش ونشأ في آخر عصر بني أمية، وأول عصر بني العباس. وكانت بدايته في الحياة أنه اجتهد على إكرام نفسه وعلمه، وأن يظل عزيزاً، رافضاً الذل والمهانة، وعقد العزم على أن يأكل من كسب يده، وألا يمد يده إلى أحد من الناس.

أ- قصته مع الخليفة أبي جعفر المنصور:

كان الخليفة أبا جعفر المنصور كان يرفع من شأن الإمام أبي حنيفة ويكرمه، ويرسل له العطايا والأموال، لكن الإمام أبا حنيفة لم يكن يقبل عطاءً قط، لا من الخليفة ولا من غيره، ولقد عاتبه الخليفة المنصور يوماً على ذلك فقال له: "يا أبا حنيفة! لم لا تقبل صلتي؟!". فقال أبو حنيفة: "ما وصلني أمير المؤمنين من ماله بشيء فرددته، ولو وصلني بذلك لقبلته، إنما وصلني من بيت مال المسلمين، ولا حق لي به". انظروا إلى هذا الموقف من مواف أبي حنيفة، والذي يدل على زهده، ورفعة نفسه، وعلوّ شأنه، فلم يكن يقبل مالاً ولا عطاء من أحد، ويريد بذلك أن يُعزّ العلم ومكانة العلماء.

وقع يوماً خلاف ين الخليفة أبي جعفر المنصور وزوجته، والسبب أنه كان ميالاً عنها إلى غيرها، فطلبت منه أن يعدل بينها وبين غيرها من النساء، فقال لها: "من ترضين في الحكم بيني وبينك؟". قالت: "أبا حنيفة". فرضي المنصور به حكماً بينه وبينها، ثم جيء بالإمام فقال له المنصور: "يا أبا حنيفة! زوجتي تخاصمني، فأنصفني منها". فقال له أبو حنيفة: "تكلم يا أمير المؤمنين". فقال المنصور: "كم يحل للرجل أن يتزوج من النساء؟". قال: "أربع". فقال المنصور لزوجه: "أسمعتِ؟ إنه قول أبي حنيفة". فقال أبو حنيفة: "يا أمير المؤمنين! إنما أحل الله هذا لأهل العدل، فمن لم يعدل أو خاف ألا يعد فواحدة". قال تعالى: []...فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً...[] سورة النساء (3). فينبغي لنا أن نتأدب مع الله، وأن نتّعظ بمواعظه. وكان هذا الجواب مُسكِتاً للخليفة المنصور الذي سكت وطال سكوته، فقام أبو حنيفة وخرج من مجلسه، فلما بلغ منزله أرسلت إليه زوجة المنصور خادماً ومعه مال وثياب وعطاء، فلما وصل المال إليه ردّه وقال للخادم: "أقرِئها السلام وقل لها: إنما دافعت عن ديني وقمت بذلك المقام لله وحده، ولم أرد بذلك تقرباً إلى أحد، ولا التمست به دنيا". رحمه الله تعالى. أراد بذلك الموقف أن يعلّمنا كيف يعمل الإنسان لوجه الله تعالى، ولا ينتظر عطاء أو ثناء من أحد، ولا أجراً أو مكافأة من ملك أو خليفة أو زعيم أو قاض أو نحو ذلك؛ لأنه عندما يبيّن حكم الله وشرعه فإنه بذلك يدعو إلى الله تعالى على بصيرة ويؤدي الرسالة التي اؤتمن عليها كما أداها من قبل النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام.

دعاه الخليفة المنصور مرة إلى زيارته، فلما دخل عليه أبو حنيفة أكرمه ورحّب به وقربه من مجلسه، وجعل يسأله عن كثير من شؤون الدين والدنيا، فلما أراد أبو حنيفة الانصراف دفع إليه بكيس من النقود فيه ثلاثون ألف درهم، علماً أن ترجمة الخليفة أبي جعفر المنصور تشير إلى أنه كان بخيلاً، لم يكن يعطي عطاء الخلفاء، ولا يجود بالمال لا على الشعراء ولا على القضاة لا على العلماء، لكنه جاد على أبي حنيفة إكراماً لمكانته ومقامه وشأنه، لكن الإمام أبا رحمه الله تعالى قال: "يا أمير المؤمنين! إني غريب في بغداد، وليس لهذا المال موضع عندي، وإني أخاف عليه، فاحفظه لي عندك في بيت المال، فإذا ما احتجتُه طلبته منك". فرضي المنصور وأجابه إلى رغبته، لكن الإمام أبا حنيفة لم يلبث أن توفي بعد زمن يسير من هذا العطاء، ووُجد في بيته ودائعُ كثيرة للناس تزيد أضعاف أضعاف المبلغ الذي أعطاه إياه المنصور، فقد كان أميناً يتخلق مع الناس بأخلاق حسنة. بلغ هذا الأمر المنصور فقال: "رحمك الله يا أبا حنيفة! فقد خدعتنا، وأبيت أن تأخذ منا شيئاً، وتلطّفتَ في ردّنا". فالخليفة لا يستطيع أحد أن يرد عطاءه، ومن يرد عطاء الخليفة يستحق إثماً كبيراً عنده، لذلك فقد رد الإمام أبو حنيفة رحمه الله على الخليفة رداً رقيقاً وحكيماً.

ولا عجب فيما نسمع ونقرأ عن الإمام أبي حنيفة؛ لأنه أخذ عهداً على نفسه منذ نعومة أظفاره ألا يأكل إلا من كسب يده، فلقد كان مبدأ الإمام أبي حنيفة: "ما أكل امرؤ لقمة أزكى ولا أعز من لقمة يأكلها من كسب يده". لذلك كان مع اشتغاله بالعلم والفقه والاجتهاد يخصص جزءاً من وقته للتجارة، فقد كان رجلاً ميسوراً غنياً يعمل بتجارة الحرير والصوف والثياب، وكانت تجارته رابحة، وكان متجره معروفاً يقصده الناس، فيجدون فيه الصدق في المعاملة والأمانة في الأخذ والعطاء، وكانت تجارته تُدِرُّ عليه خيراً وفيراً، وتهبه من فضل الله تعالى مالاً عظيماً. وكان رحمه الله يأخذ المال من حله ويضعه في محله، فلا يأل المال الحرام أو ما فيه شبهة الحرام، بل كان يأكل المال الحلال الصافي. وكان كلما حال الحول على ماله يحصي أرباحه، ويستبْقي منها ما يكفيه لتجارته، ثم يشتري بالباقي حوائج القراء، والمحدثين، والفقهاء، وطلاب العلم، وأقواتَهم وكسوتَهم. وكان يقول لهم تواضعاً منه وتكريماً لهم: "هذه أرباحُ بضائعكم أجراها الله لكم على يدي. واللهِ ما أعطيتكم من مالي شيئاً وإنما هو فضل الله علي فيكم". فقد كان يُشعِر المشتغلين بالفقه والحديث وقراءة القرآن أن لهم حصة في ماله فيشاركونه فيه، وأنه هو الذي يتّجر بهذا المال، فإذا حال الحول أعاد لهم نصيبهم من الأرباح والعطاء.

ب- قصته مع امرأة عجوز:

جاءته امرأة عجوز يوماً تطلب ثوباً من حرير، فلما أخرج لها الثوب المطلوب قالت له: إني امرأة عجوز ولا علم لي بالأثمان، فبعني الثوب بالثمن الذي اشتريتَه وأضف إليه قليلا من الربح فإني ضعيفة فقال لها: "إني اشتريت ثوبين اثنين في صفقة واحدة، ثم إني بعت أحدهما برأس المال إلا أربعة دراهم فخذيه بها ولا أريد منك ربحاً".

^ أخلاقـه:

كان من أخلاق أبي حنيفة رضي الله عنه أنه كان طيبَ المعاشرة، حلوَ المؤانسة يسعد به جليسه. حدث أحد أصحابه فقال: سمعت عبد الله بن المبارك، يقول لسفيان الثوري: "يا أبا عبد الله! ما أبعد أبي حنيفة عن الغيبة، فإني ما سمعته يذكر عدواً له بسوء قط". فقال له سفيان: "إن أبا حنيفة أعقل من أن يُسلَِّط على حسناته ما يَذهب بها".

وكان الإمام أبو حنيفة رضي الله عنه مولعاً باقتناص ود الناس، حريصاً على استدامة صداقتهم، وقد عرف عنه أنه ربما مر به الرجل من الناس، فقعد في مجلسه من غير قصد ولا مجالسة، فإذا قام سأل عنه، فإن كان ذا حاجة أو فقر أعانه، وإن كان به مرض عاده، وإن كانت له حاجة قضاها حتى يجره إلى مواصلته وبرّه جراً. فلم يكن أحد من الناس يلتقي به إلا دامت محبته وصلته وعلاقته به.

* قصته مع امرأة تبيع ثوباً:

مرة جاءته امرأة بثوب من حرير تبيعه فسألها كم تريدين ثمنه؟ قالت : مئة، قال: هو خير من ذلك، بكم تقولين؟ فزادت مئة، قال: هو خير من ذلك. حتى قالت أربعمئة، قال: هو خير من ذلك. قالت : أتهزأ بي؟ قال : لا والله! هاتي رجلاً خبيراً ببيع القماش يقوّمه، فجاءت برجل فقومه، فاشتراه أبو حنيفة بخمسمئة. فهذا من تقوى الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وزهده، وحرصه على أن يأكل مالاً حلالاً، وعلى أن تكون تجارته تجارة حلالاً.

^ دعاء:

نسأل الله تعالى أن يفقّهنا في ديننا، وأن يعلّمنا رشدنا، وأن يدلنا على ما فيه خير ديننا ودنيانا، وأن يجعلنا خيرَ خلف لخيرِ سلف، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

 

 

 

 



[1] بزّاز: تاجر أقمشة وثياب.

[2] أي إذا دخل الخلاء لا يتجه أبداً قبالة بيت شيخه أدباً واحتراماً له.

 

 

 

 

القسم الثاني من المحاضرة   اضغط هنا

 

 

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 4421

 تاريخ النشر: 29/01/2010

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 112

: - عدد زوار اليوم

7468297

: - عدد الزوار الكلي
[ 71 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan