::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> محاضرات وندوات

 

 

آثار الإمام أبي حنيفة ودوره في الحوار بين الحضارات (2)

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان "المشرف العام"  

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الإمام أبو حنيفة النعمان هو الإمام الحجة الثقة، صاحب المذهب الذي يسمى بمذهب أهل الرأي، وهو الذي انتشر في الأرض انتشاراً كبيراً، حتى أن بعض أهل العلم قالوا: "إن ثلثي أهل الأرض يَدينون الله تعالى بمذهب الإمام أبي حنيفة النعمان رحمه الله تعالى.

^ عبادتــــه:

كان الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى صوّام النهار، قوام الليل، صديقاً للقرآن الكريم، مستغفراً في الأسحار، وكان من أسباب تعمقه في العبادة أنه أقبل ذات يوم على جماعة من الناس فسمعهم يقولون: إن هذا الرجل الذي ترونه لا ينام الليل. فلما سمعهم قال: "إني عند الناس على خلاف ما أنا عليه عند الله تعالى، واللهِ لا يتحدثُ الناسُ عني منذ الساعة بما لا أفعل، ولن أتوسد فراشاً بعد اليوم حتى ألقى الله". فقد كان كلام الناس في حقه سبباً في إقباله على العبادة بشكل منقطع النظير، فكان يتلو القرآن طوال الليل، ويتهجد ويتعبّد، ولا ينام الليل، حتى أنه عرف عنه أنه صلى الفجر بوضوء العشاء، قرابة أربعين سنة ما ترك ذلك مرة واحدة، وهذه الرواية تواترت في ترجمة الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى.

هذا السبب الذي يروى عن الإمام أبي حنيفة هو سبب محرِّض للإنسان المؤمن على العبادة، عندما يوصف الإنسان بأنه تقي لله وهو ليس بتقي فإنه يحرص أن يكون من أكثر الناس تقوى وفلاحاً وتقرّباً بين يدي الله تبارك وتعالى.

^ مناجاتـــه:

كان الإمام أبو حنيفة كثير المناجاة، كان يقرأ القرآن، فإذا مرّ بآية خوف ظهر أثر ذلك على وجهه، وإذا مر بآية نعيم بدا أيضاً أثر ذلك على مُحَيَّاه. ومن ذلك أنه يروى عنه أنه كان إذا قرأ (سورة الزلزلة) اقشعر جلده، وخاف قلبه، فيقول مناجياً الله تعالى: "يا من يجزي بمثقال ذرةِ خيرٍ خيراً، ويا من يجزي بمثقال ذرةِ شرٍ شراً، أجر عبدك النعمان من النار، وباعد بينه وبين ما يقربه منها".

^ من مناقبــه:

الإمام الشافعي رحمه الله تعالى كان من أكثر من عرف الفضل للإمام أبي حنيفة، ولا يعرف الفضل لأهل الفضل إلا ذووه. فقد جاء في "سير أعلام النبلاء" في ترجمة الإمام أبي حنيفة أن الشافعي قال: قيل لمالك هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم. رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته. وهذه شهادة من الإمامين مالك والشافعي بمكانة الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى. ونقل عن الإمام الشافعي قوله : «من أراد أن يتبحر في الفقه، فهو عيال على أبي حنيفة». وفي رواية أخرى: "الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة".

^ ولعه بالفقه الفَرَضي:

أولع أبو حنيفة بالفقه الفرضي بخلاف معظم علماء عصره الذين كانوا يقولون: نحن مضطرون أن نُعَلِّم حكم الله في أمرٍ حصل، أمّا إذا لم يقع لا نحمِّل أنفسنا هذه المؤونة. ومعظم شيوخ أبي حنيفة كانوا على هذا المنوال؛ فقد كانوا يفترضون وقوع المسائل ويفترضون لها الحلول. وإن وُجِدَ فيهم من استجاز لنفسه أن يتوسع قليلاً فإلى حد محدود جداً. وأبو حنيفة كان على النقيض؛ إذ كان يفرض الوقائع وإن لم تقع، وكان يتأمل في حكمها و يعطي كلاً منها فتوى.

هذا الأمر أعطى فقهه غزارة وغنى ومدعاة لأن يتبع الناس الفقه الأوسع والأكثر استجابة لواقع الحال، فما لم يقع اليوم سيقع غداً لاسيما عندما يكون هذا الإمام عالماً بعلم الاجتماع و خبيراً بالمشكلات التي ستنجم.

مثال ذلك: لقي أبو حنيفة قتادة رضي الله عنه وهو عالِم من أجلِّ علماء الحديث، فسأله الإمام أبو حنيفة: ما تقول في رجل غاب عن أهله أمداً طويلاً ولم يُعرَف مصيره، فتزوجت امرأته من زوج آخر، وبعد حين جاء زوجها، ما تقول في هذا؟ قال قتادة: أوقعت هذه المسألة؟ قال: لا، فقال له و قد ظهر الغضب على وجهه: فلماذا تسألني عنها؟ قال له هذا الكلام المهم: "إننا نستعد للبلاء قبل نزوله فإذا ما وقع عرفنا الدخول فيه والخروج منه".

^ منهجه العلمي:

لقد اتُّهِم الإمام أبو حنيفة كثيراً بأنه يُعمِل العقل على حساب الأثر (يقدّم القياس على الحديث)، لذلك ينبغي أن نوضّح هذه المسألة؛ حتى نزيل اللَّبس من أذهان كثير من الناس.

كان الإمام أبو حنيفة يقول: "آخذ ما في كتاب الله وبما صحَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما أشترطُ زيادة على الصحة الشهرةَ فيما تقتضيه الشهرة في الأحكام والمسائل، فإن لم أجد آخذ بقول الصحابة، فإن لم أجد آخذ بقول من شئتُ منهم وأدع قول من شئتُ منهم عندما يختلفون، ولكني أُلزِم نفسي بالأخذ من الصحابة، وإن لم أجد وآل الأمر إلى إبراهيم النخعي وإلى التابعين كالأوزاعي، فإني أجتهد كما اجتهدوا، ولا ألزم نفسي باتِّباع رأي واحد منهم ما دام الأمر اجتهادياً".

إذاً فهو قد رتّب منهجه الفقهي على القرآن أولاً، ثم الصحيح المشتهر من حديث النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أقوال الصحابة يتخيّر منها، ثم يأخذ بآراء المجتهدين ويجتهد كما اجتهدوا مستخدماً القياس والاستحسان والعُرف، وهذا من خواصّ مذهبه رحمه الله تعالى. 

*صفات منهجه:

أ- الأخذ بحديث الآحاد والعمل بها ما أمكن:

مثال: قوله تعالى:[]...فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ... [] سورة المزمل (20). وحديث النبي عليه الصلاة و السلام يقول: "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب". متفق عليه. فحكم أنَّ أصل قراءة القرآن في الصلاة ركن، أمّا تقسيم القراءة للقرآن الكريم إلى الفاتحة وبعض ما تيسر من القرآن فواجب، وبذلك عمل بالقرآن والسنة معاً. وكذلك الطمأنينة في الركوع ليست فرضاً عند أبي حنيفة لإطلاق قوله تعالى:[]...وَارْكَعُواْ...[]. أمّا الطمأنينة فثابتة بخبر الآحاد لذلك هي عنده واجبة.

ب- تقديم السنّة القولية على الفعلية:

لجواز أن يكون الفعل خصوصية للنبي صلى الله عليه وسلم. وهذا ما نراه كثيراً فيما نُقل عن شمائل النبي عليه الصلاة والسلام وصفاته وأحواله، وأخباره أنه كان ربما صلى الضحى وترك، وربما صلى التراويح وترك؛ حتى لا تُفرض على غيره من الناس، وما هو سنة بالنسبة لنا ربما يكون فريضة أو بحكم الفريضة والواجب على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. لذلك كان الإمام أبو حنيفة يقدم السنة القولية لأن فيها عموماً، أما السنة الفعلية فيرى فيها شيئاً من الخصوصية بعمل النبي صلى الله عليه وسلم.

جـ- تقديم السنّة المتواترة على خبر الآحاد عند التعارض وعدم إمكان الجمع بينهما:

كالجمع في السفر حيث قال: إنه جمع صوري. وهكذا كان يفعل عبد الله بن عمر. أبو حنيفة لا يجيز للمسافر أن يجمع بين الصلوات ولكن القصر عنده واجب. إنما أخذ بهذا القول الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، وغيره من الأئمة.

ويقدِّم السنّة - ولو حديثاً مرسلاً أو ضعيفاً - على القياس، لذلك قال بنقض الوضوء من الدم السائل معتمداً على حديث مرسل، وكذلك نقض الوضوء وبطلان الصلاة بالقهقهة أيضاً بحديث مرسل.

ء- الاسـتحسـان:

الاستحسان لغةً هو وجود الشيء حسناً، ومعناه طلب الأحسن للاتباع الذي هو مأمورٌ به كما قال تعالى:[]...فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ...(18)[] سورة الزمر.

أما اصطلاحاً فهو عند الفقهاء نوعان:

1- هو العمل بالاجتهاد وغالب الرأي في تقدير ما جعله الشرع مدلولاً إلى آرائنا نحو قوله تعالى:[]...مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ[] سورة البقرة (236). أوجب ذلك بحسب اليسار والعسرة، وشرط أن يكون بالمعروف، فعرفنا أنَّ المراد ما يُعرَف استحسانه بغالب الرأي ولا خلاف في هذا النوع.

2- هو الدليل الذي يكون معارضاً للقياس الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام قبل إمعان التأمّل فيه، وبعد إمعان التأمل في حكم الحادثة وأشباهها من الأصول يظهر أنَّ الذي عارضه فوقه في القوة فإنّ العمل به هو الواجب، فسمّوه بذلك استحساناً للتمييز بين هذا النوع من الدليل و بين الظاهر الذي تسبق إليه الأوهام.

هـ- العُرْف والعادة:

هو ما استقر في النفوس من جهة العقول، وتلقته الطباع السليمة بالقبول. وإنما يكون العرف دليلاً إن لم نجد دليلاً من كتاب وسنة. قال ابن مسعود: "ما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن".

وللإمام ابن عابدين رسالة مستقلة سماها "العرف" تضمنت مسألة تضمين الخياط و الكواء (و مثالهما إذا أحرقا القماش أو أضاعاه).

وأبو حنيفة هو أساس من جمع بين مذهبي أهل الحجاز أهل الحديث وأهل العراق أهل الرأي. كان أبو حنيفة من علماء الرأي و لكنه ذهب إلى الحجاز و أقام في مكة ست سنوات يأخذ العلم من علماء الحجاز أمثال عبد الله بن عمر... دخل يوماً أبو حنيفة على المنصور فقال له أحد الجالسين: هذا عالِم الدنيا اليوم. فقال له المنصور: يا نعمان! من أين أخذتَ علمك؟ قال: من أصحاب عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر (أهل الحديث)، ومن أصحاب عبد الله بن عباس عن عبد الله بن عباس، ومن أصحاب عبد الله بن مسعود عن عبد الله بن مسعود (أهل الرأي والاجتهاد). فأبو حنيفة رحمه الله تعالى خرق الحدود الفاصلة بين المذهبين، وجمع بين المدرستين؛ مدرسة أهل الحجاز وهي مدرسة المحدِّثين، ومدرسة أهل العراق وهي مدرسة أهل الرأي. وربما كان هذا الأمرُ السببَ الذي أدى إلى انتشار مذهب الإمام أبي حنيفة في الدنيا، وأنه كما قال بعض أهل العلم: "بلغ ثلثي الدنيا". أي إن أكثر من ثلث العالم الإسلامي اليوم يتّبع مذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى.

عندما ذهب إلى أهل الحجاز تعلم منهم الحديث، وتعلموا منه كيفية استخراج الأحكام فاستفاد وأفاد. وانعكس هذا الأمر على تلامذته مثل "أبو يوسف" و"محمد بن الحسن الشيباني" وغيرهم...

وكان لإخلاصه في طلب العلم يرجع عن رأيه إذا اطلع على حديث أو فتوى صحابي.

^ أسباب انتشار مذهب أبي حنيفة واتباع الناس له في شرق الأرض وغربها:

إن هذا المؤتمر الذي نتحدث فيه عن مكانة الإمام أبي حنيفة وآثاره معقود في دولة "طاجكستان" في شمال الأرض، وإن أهل هذه البلاد كلهم يَدينون الله تعالى بمذهب الإمام أبي حنيفة، وإذا ذهبنا إلى "أندونيسيا" في أقصى الشرق سنجد أن هناك أيضاً من يَدين الله تعالى بمذهب الإمام أبي حنيفة إضافة للمذاهب الثلاثة الأخرى المنتشرة أيضاً هناك، لكن مذهب الإمام أبي حنيفة قد انتشر انتشاراً كبيراً بخلاف مذهب معاصريه أمثال "الأوزاعي" و"عطاء بن أبي رباح" و"إبراهيم النخعي" وهم شيوخ أبي حنيفة، وذلك لعدة عوامل نذكر منها ما يلي:

أ- كثرة تلامذته الذين أخذوا العلم عنه:

فقد أخذ الفقهَ عن أبي حنيفة أربعةُ آلاف شيخ من التابعين، وأفتى في زمن التابعين.

ب- تدوين مذهبه من قِبل تلامذته:

قيَّض الله تعالى لأبي حنيفة تلاميذ كانوا في الوقت نفسه من فطاحل العلماء وقد دوَّنوا آراءه و فتاويه واجتهاداته بخلاف باقي الأئمة في عصره؛ فالإمام أبو يوسف دوَّن فقه أبي حنيفة في الكتب ووضع فقه الخراج. وكذا فعل الإمام محمد بن الحسن الذي دوَّن كل فقه الإمام أبي حنيفة والاجتهادات الأخرى حتى التي تراجع عنها، وهناك كتب تُسمّى كتب "ظاهر الرواية" كلها للإمام محمد. وقام كلٌّ من أبي يوسف ومحمد بجمع الأحاديث التي يرويها الإمام في فتاويه كمستندات لفقهه مثل كتاب الآثار وكتب أخرى وأحاديث كثيرة موزَّعة في هذه المدونات. وكذلك الإمام زُفر بن الهذيل فقد دوّن المسائل الخلافية كلها التي دارت بين الإمام وأصحابه وتلامذته.

ولقد كانت طريقة أبي حنيفة في التعليم متميّزة، إذ كانت مبنيةً على السؤال والإقناع برأي، ثم قوله: "ولكني أرى غير هذا". ويُعَلِّم أصحابَه طرق الفتوى، وأساليب التفكير، ووسائل الاجتهاد بعد أن يُقنعهم بالمسألة. وهكذا كان يُفَتِّق أذهانهم، ويقوِّي حججهم، ويجعلهم يتمسّكون بمجلسه ولا يجدون عن ذلك غُنيَة أبداً.

وأبو حنيفة هو أول من رتب مسائل الفقه حسب أبوابها من طهارة وصلاة... فقد كانت أبوابه مرتبة بتسلسل منطقي بحيث تُسهّل على دارس فقه الإمام أبي حنيفة تلقّيه العلم بأسلوب مقبول يَرسخ في الأذهان. وقد دوَّن هذه المسائل الإمام أبو يوسف - في غالب الأحيان - في سجلات حتى بلغت مسائله المدونة خمسمئة ألف مسألة. هذا كله لما كان الفقه مجتمعاً (أي يُقرَأ بالكلّية)، فكيف به اليوم وقد فُصِّل، وبُوِّب، وشُرح، وكتبت حوله الحواشي والمطوّلات.

انتقل تلامذته الفحول البالغون 730 شيخاً إلى بلادهم خاصة بلاد الأفغان وبخارى والهند... فشرَّق فقه الإمام أبي حنيفة وغرَّب وشمأل وجنَّب، حتى ليّعُدّ الإمام علي بن سلطان القاري المتوفى سنة 1014 هجري ثلثي المسلمين في العالم على مذهب الإمام أبي حنيفة.

جـ- تهيئه الله تعالى لهذا المذهب أن يُحكم به في الدولة العباسية:

فالإمام أبو يوسف كان قاضياً، وقد تولى القضاء لثلاثة من الخلفاء: المهدي والهادي وهارون الرشيد. وسُمّيَ بعد ذلك قاضي القضاة، وكان - وهو حنفي - يقضي بمذهب أبي حنيفة، وكذلك كان أغلب القضاة الذين يُنَصَّبون في هذا المنصب ممن يقضون بمذهب الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، والمدونات التي كانت تُدَوَّن في دار الخلافة كانت تدوَّن على مذهب أبي حنيفة، كل هذا وغيره جعل فقه الإمام أبي حنيفة ينتشر أكثر من فقه من سبقه أمثال الأوزاعي وجعفر الصادق وغيرهم...

^ تأديبه لتلميذه أبي يوسف:

يروى أن الإمام أبا حنيفة كان يحرِص على تلقين طلابه العلم، وكان في مجلسه تلميذه النجيب أبو يوسف "يعقوب بن إبراهيم"، فلمَّا مرض أبو يوسف مرضاً شديداً قال أبو حنيفة: "لئن مات هذا الغلام لم يَخْلُفْهُ أحد على وجه الأرض". فلمّا عوفي أُعجِبَ بنفسه بعد أن نُقل له هذا القول، فعقد لنفسه مجلساً في الفقه، فانصرفت وجوه الناس إليه، فلمّا بلغ ذلك أبا حنيفة قال لبعض من عنده: "اذهب إلى مجلس يعقوب (يعني أبا يوسف) وقل له: ما تقول في قصّار دفع إليه رجل ثوباً ليقصِّره بدرهمين، ثم طلب ثوبه فأنكره القصّار، ثم عاد له وطلبه فدفعه له مقصوراً، ألَهُ أجرة؟ فإن قال نعم قل له أخطأت، وإن قال لا قل أخطأت". فسار إليه الرجل فسأله فقال نعم له أجرة فقال له أخطأت، فنظر ساعة فقال لا، فقال أخطأت، فقام من ساعته لأبي حنيفة فلما رآه قال: ما جاء بك إلا مسألة القصّار. قال: أجل. قال: "سبحان الله! من قعد يفتي الناس وعقد لنفسه مجلساً يتكلم في دين الله تعالى لا يحسن أن يجيب في مسألة من الإجارات فهذا قدره[1]. فقال: علِّمني، قال: إن كان قصَّره بعد ما غصبه فلا أجرة له لأنه قصَّره لنفسه، فإن قصَّره قبل غصبه فله الأجرة لأنه قصَّره لصاحبه. فقال أبو يوسف: "والله لا أترك مجلس أبي حنيفة بعد اليوم أبدا!". عرف قدر الإمام أبي حنيفة ومكانته، ورأى أن طالب العلم لا يستطيع أن يتخلى عن مجلس شيخه، فمهما تعلّم فهو بحاجة إلى مزيد من العلم.

^ أهم مؤلّفاتـه:

ألَّف أبو حنيفة كتاب "الفقه الأكبر" الذي بيَّن فيه عقيدة المسلمين الصحيحة، وردّ فيه على المبتدعة والمحرِّفة؛ إذ كان له معاصِرون من الفرق المبتدعة؛ كالمُرجِئة، والمجسِّمة، وغيرهم من أصحاب الفرق ومن أشهرها المعتزلة. ونُقِلَ أنَّ له مسنداً وهذا المسند من جمع أبي يوسف عن أبي حنيفة سماه "الآثار ".

لا يمكننا في عجالة أن نحصي كل ما أُثر عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله تعالى، أو أن نجمع ونفصّل القول في فقهه، فقد كُتِب في ذلك الكتب، وأُلِّفت المؤلّفات والمطوَّلات.

^ أقوال معاصريه فيه:

أ- الفضيل بن عياض:

قال فيه: "كان أبو حنيفة رجلاً فقيهاً معروفاً بالفقه، واسعَ المال معروفاً بالأفضال على كل من يطوف به، صبوراً على تعلُّم العلم بالليل والنهار، حَسَنَ الليل، يقوم الليل (وهذا شيء معروف عنه)، كثير الصمت، قليل الكلام حتى يرِد مسألة في حلال أو حرام". وهذا أمر عجيب من الإمام رحمه الله تعالى.

ب- عبد الله بن المبارك:

هذا العالِم الكبير والتابعي الجليل يقول: "كان أبو حنيفة مُخَّ عِلمٍ أو مخَّ العِلمِ أي كنت تأخذ منه لُبابَ العلم".

جـ- مالك بن أنس:

قال عنه: "لو جاء إلى أساطينكم فقايسكم على أن هذه السارية من خشب لظننتم أنها خشب، وإذا قال هي من ذهب لظننتم أنها ذهب".

ء- الإمام زُفَر:

قال: "جالستُ أبا حنيفة أكثر من عشرين سنة، فلم أرَ أحداً أنصحَ للناس منه ولا أشفقَ عليهم منه، بذل نفسه لله تعالى، أمّا عامة النهار فهو مشتغل في العلم وفي المسائل وتعليمها وفيما يُسأل من النوازل وجواباتها، و إذا قام من المجلس عاد مريضاً (أي زار) أو شيَّع جنازة أو واسى فقيراً أو وصل أخاً أو سعى في حاجة، فإذا كان الليل خلى للعبادة و الصلاة و قراءة القرآن، فكان هذا سبيله حتى توفي رضي الله تعالى عنه".

- أجمع علماء عصره على أنه لم يجتمع لأحد غيره في ذلك العصر ذكاء و قوة بادرة وعلم وقوة استنتاج.

- كان أبو حنيفة في زيارة شيخه الأعمش يوماً (والأعمش من كبار المحدِّثين)، فجاء إلى الأعمش رجل يسأله عن مسألة في العلم فقال لأبي حنيفة: أجِبْه. فأجابه، فقال له: ومن أين لك هذا؟ قال: من حديث حدثتَنيه هو كذا وكذا . فقال له الأعمش: "حسبُك ما حدَّثتُكَ به في سنة تُحَدِّث به في ساعة، أيها الفقهاء! أنتم الأطباء ونحن الصيادلة".

رحم الله أبا حنيفة، ورحم شيوخه والأئمة المجتهدين والعاملين، ونَفَعَنا بهم وبعلومهم، وحَشَرَنا الله وإياهم في مقعد صدقٍ عند عزيز مقتدر.

اللهم علّمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علّمتنا، وزدنا علماً، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

 

 

 

 

 

 

 



[1] أي أن يعود إلى شيخه ويتعمّق في المسألة.

 

 

 

 

 

القسم الأول من المحاضرة   اضغط هنا

 

 

 

 

 

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 4743

 تاريخ النشر: 02/03/2010

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

Query Error
MySQL Error : Query Error
Error Number: 145 Table './risalnet_vcount1/vietcounter_usersonline' is marked as crashed and should be repaired
Date: Tue, April 16, 2024 09:33:23
IP: 18.119.17.207
Browser: claudebot
Script: /article1.php?tq=3026&re=1008&tn=1026&br=3029&tr=3026&rt=3026&try=9&ft=9&rf=1018&tt=3024&rt=3026&rf=1018&tm=3026
Referer:
PHP Version : 5.5.38
OS: Linux
Server: LiteSpeed
Server Name: risalaty.net
Contact Admin: info@risalaty.net