::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> محاضرات وندوات

 

 

الفكر الديني في مواجهة العولمة الفكرية والثقافية

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان  

نص المحاضرة التي ألقاها فضيلة الشيخ محمد خير الطرشان

في الملتقى السابع للشباب الإسلامي /المسيحي

المنعقد في عمان /المملكة الأردنية الهاشمية

مابين 18 21 /10/ 2007 في فندق سنشري بارك

تحت عنوان

 (الشباب الإسلامي والمسيحي بين الالتزام الديني وتحديات العصر)

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وبعد:

 أشكر كل من أشرف على هذه الظاهرة الصحية التي تجعل من أبناء أكبر ديانتين يتعانقان باسم الله ومن ثم الخير لبني البشر.

من دمشق الفيحاء جئتكم ، حيث تشمخ المآذن بصوت الله الأكبر ، وتدق أجراس الكنائس مرتلة آيات المحبة، قائلاً لكم :

إن نبي الرحمة سيدنا محمداً r وجه أتباعه أن يعاملوا المسيحيين بحب ورفق، ويجادلوهم بالتي هي أحسن ويقولوا لهم قولاً معروفاً.

ومن هنا فقد لبيت هذه الدعوة ،لأني رايتها دعوة العقل والمصلحة والدين والتحضر، فشكراً جزيلاً لكم، والشكر موصول للحضور الطيب الكريم.

أيها السادة الحضور:

مثل الدين للإنسان كمثل الماء للسمكة وهل تحيا السمكة بلاماء ؟

لذلك كان الخطاب الديني أساساً هاماً ومرتكزاً رئيساً لعملية الإصلاح والتجديد الدائمين للحياة الإنسانية ، فهو في الأصل خطاب الرسل عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم (موسى كليم الله وعيسى روح الله ومحمد حبيب الله ورسوله) وكذلك سائر الرسل والأنبياء ، كما أنه خطاب المصلحين لأتباعهم، وقد امتدحه الله تعالى في القرآن الكريم بقوله: ﴿وهدوا إلى الطيب من القول، وهدوا إلى صراط العزيز الحميد الحج/24.

وكذلك قال المسيح ابن العذراء مريم عليهما السلام (لم آت لتخدموني إنما أتيت لأخدمكم)

والخطاب الديني (الإسلامي والمسيحي) له هدف سام يتمثل في توضيح رسالة الإنسان في هذه الحياة، ووسائل تنفيذها، قال تعالى: (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) الذاريات/59. فالله عز وجل أوجد الإنسان في هذا الكون لكي يعمره بالنفع والخير، زراعة وصناعة واختراعاً وابتكاراً وتطويراً ومهارات؛ لأننا في عصر لا تتنافس فيه الأمم باتساع رقعة أراضيها وأملاكها ولا بكثرة عدد سكانها، ولكنها تتنافس بالعلوم والاختراعات والقوة، وهو ما ندبنا إليه الإسلام من خلال قول النبي عليه الصلاة والسلام: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف".

نموذج من الأسلوب القرآني المثمر:

خطاب موسى وهارون لفرعون خصمهما اللدود: ﴿اذهبا إلى فرعون إنه طغى، فقولا له قولاً ليناً، لعله يتذكر أو يخشى.

 

لذلك يمكن أن نضع أسساً للخطاب الديني المثمر نحددها في النقاط التالية:

1-أن يستمد الخطاب الديني قيمته من قدرته على الاحتفاء بالإنسان قدرا واحتراما بغض النظر عن دينه ومعتقده، قال تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين). ولم يقل للمسلمين أو العرب أو أهل مكة؟؟

وإن أول سورة في القرآن الكريم بدأت بـ ﴿الحمد لله رب العالمين وآخر سورة ختمت القرآن بقوله تعالى ﴿قل أعوذ برب الناس.

2-اعتماد مبدا العيش السلمي المشترك تربية وفكراً وسلوكاً بين أبناء الإسلام والمسيحية....

فالإسلام ليس حريصا على دخول أعداد جديدة في كنفه ، بقدر ما هو حريص على إقامة الحق والعدالة بين بني البشر،ومن الحق احترام عقل الإنسان ومعتقده..

3-أن يعنى الخطاب الديني(الإسلامي والمسيحي) بتكوين فكر الاعتدال من خلال التربية الإيمانية الصحيحة القائمة على الاحترام المتبادل ، وأن لكل شريعة خصوصيتها.. وأن يبتعد عن الحلول المستوردة من التجربة الغربية المادية الحديثة بكل أشكالها الفردية والشمولية، لأن لكل أمة تكويناً خاصاً في عقائدها وقيمها ومفاهيمها، ولها دوافعها وتاريخها.

 

 4-أن يفصل الخطاب بين الموقف السياسي وموقف رجل الدين بحيث لانحمل أخطاء ساسة الغرب ومقابح بعضهم للمسيحية ، وكذلك لا نحمل أخطاء المتشددين والمتطرفين من المسلمين للإسلام الحنيف وأن يواكب الأحداث ويتعايش معها، مؤثراً فيها ومتأثراً بها، وألا يتصادم معها،.

5-أن يقوم على الحقائق الثابتة بعيداً عن التفسيرات المتشنجة او الموتورة، كمنهج التيسير والتبشير الذي حث عليه النبي محمد عليه الصلاة والسلام.

نموذج من الأسلوب النبوي في الخطاب:

خطاب رسول الله لأبي موسى الأشعري ومعاذ بن جبل لما أرسلهما إلى اليمن قائلا لهما : "يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا" حيث عكس هذا التوجيه سماحة الإسلام ومحبته للآخرين ونبذه للعنف والتطرف والتشدد، ودعوته لقبول الآخر.

 

6-إن أهم أركان الخطاب الديني (الوسطية والاعتدال) لأن الشريعة الإسلامية قامت عليهما، قال تعالى: (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً) وهذه الوسطية تأمر الناس بالتعاون فيما بينهم حتى ولو كان بينهم اختلاف في العقائد، والمسلم ليس من وظيفته أن يحاسب الناس على معتقداتهم بل وظيفته تقوم على الدعوة إلى الخير والحق والفضيلة وإقامة العدالة، كما لا يجوز إكراه الناس على تغيير عقائدهم، فالعقائد لا إكراه فيها، كما قال الله تعالى : (لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي) البقرة/256.

نموذج:

بعد غزوة بدر دفن رسول الله r شهداء المسلمين، ولم يترك أجساد المشركين ملقاة على الأرض، بل أمر بدفنها أيضاً !!

لم يحرقها، ولم يمثل بها، بل احترم أجسادهم ولم يتركها نهباً للسباع والذئاب والحشرات، وهو بذلك يعطي العالم درساً في احترام الأنفس، التي قال الله تعالى في حقها: (ولقد كرمنا بني آدم) وقال أيضاً: (لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم).

نموذج آخر:

في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله t قال: مرت بنا جنازة، فقام لها النبي صلى الله عليه وسلم وقمنا له، فقلنا يا رسول الله: إنها جنازة يهودي! قال: إذا رأيتم الجنازة فقوموا.

وفي رواية أخرى لهذا الحديث قال: أليست نفساً؟ وكلا الروايتين في صحيح البخاري.

يقول الإمام ابن حجر في شرحه فتح الباري على صحيح البخاري 3/180: (مقصود الحديث أن لا يستمر الإنسان على الغفلة بعد رؤية الموت، واستوى فيه كون الميت مسلماً أو غير مسلم).

كما أن في هذا النص دلالة رائعة تتمثل في تدريب الرسول عليه الصلاة والسلام أصحابه الكرام على تجاوز النظر الجزئي الضيق، إلى التعامل مع الواقع بإحاطة وشمولية.

ولعل هذا الأسلوب التربوي الفريد هو الذي جعل أصحاب رسول الله يتعاملون مع الوقائع المستجدة بمرونة، فحين أرسل أبو بكر الصديق جيوشه لفتح بلاد الشام أوصاهم فقال: أوصيكم بتقوى الله، لا تعصوا، ولا تغلُّوا، ولاتجبنوا، ولا تعقروا نخلاً، ولا تحرقوا زرعاً، ولا تحبسوا بهيمة، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تقتلوا شيخاً كبيراً، ولا صبياً صغيراً، وستجدون أقواماً حبسوا أنفسهم في الصوامع فذروهم وما حبسوا أنفسهم له...).

ففي هذه الوصية: يبرز حرص الإسلام على الآخر، وحمايته لحقوق الإنسان، ورعايته للطفولة والشيخوخة، وتكريمة للمرأة، وحفاظه على البيئة، واحترامه للمقدسات، وإكرامه لذوي الهيئات من أصحاب الشرائع السماوية السابقة.

هذا الخطاب الديني ذو الارتكازات الإنسانية ما هي صورته وصوته في عصر سقوط المحرمات (حقوق الإنسان والعدالة والكرامة والتسامح )؟؟.

 لقد ضرب الواقع باتفاقيات جنيف وشرعة حقوق الإنسان ومواثيق هيئة الأمم المتحدة بعرض الحائط أمام مسمع ومرأى العالم كله مما خلق بؤرا للتوتر والتطرف في العالم ؟؟

هنا يبرز أمام الخطاب الديني مصطلح العولمة بتجاذباته المتعددة و مناهجه المتنوعة وتعريفاته المتناقضة أحياناً..

وبداية لابد من تحرير معنى العولمة ببيان الموقف غير المتأزم منها :

بعد استعراض معنى العولمة وتطبيقاتها الجارية في الأقطار المتقدمة الغنية والأقطار الفقيرة النامية يمكن الخروج بالملاحظات الآتية:

أولاً: سواء أأقررنا أم لا فإن العولمة تكتسح الواقع شكلا ومضمونا ، وهي واقع لامحالة ولا استطاعة لرده  ، والوقوع في أزمة يعني حالة مرضية، ومن هنا فأنا اشدد على أن تبقى الأديان حالة صحية بعيدة عن الأزمة أو المرض، وغالبا ما تتسم أفعال المأزوم بالفوضى بل إنه قد يحفر خندقا ليصرع نفسه فيه!!

ثانياً: العولمة شعار تحِيط به النزاعات والخلافات سواء حول معناه أو مبناه.

يذهب بعض الباحثين: إلى أن العولمة نظام عالمي فعال برز في حقبة تاريخية لها قوانينها التي تحكم مسيرة الاجتماع الإنساني في نظام واحد شامل يحكم مسيرة الإنسان، وكان من نتائجه أنه أدى الى الاستقلال السياسي لأقطار الأرض كلها.هكذا تم التعامل مع العولمة وكأنها نتاج طبيعي لسير البشرية.

بينما يرى الآخرون :في العولمة شكلاً من أشكال الاستعمار الجديد وأنه تشكّل بفعل انفراد أمريكا بمركز الدولة العظمى، وبفعل عالمية الاتصال وثورة المعلومات، وتسلحه بأحدث مكتشفات العلم والتكنولوجيا، الأمر الذي أدى إلى الفقر والمرض والقتل في بقاع كثيرة من العالم ، وإلى اجتثاث متزايد للناس، وتشريد أعداد غفيرة من أقطارهم الأصلية ، ويهدد بمزيد من الأخطار يصعب التنبؤ بنتائجها والآثار التي ستنجم عنها والتي منها :

1-       لا تقتصر العولمة على التغييرات الاقتصادية وإنما جمعت إلى ذلك إحداث تغييرات بنيوية جديدة في الأنظمة التعليمية عند المجتمعات الأخرى بغية عولمة نظام تعليمي له فاعليته في التمكين الدائم للهيمنة الأمريكية ومصالحها في العالم كله.

2-       إن الإشكالية المستعصية في عولمة التربية القائمة في مجتمعات العالم المعاصر هي أن الأقطار الغنية التي تقود هذه العولمة هي غنية في علوم وسائل الحياة ولكنها تعاني من فقر مجدب في علوم غايات الحياة؛والتي منها الإجابة على السؤال الخالد (من أنا وأين سأذهب ومن خلقني) ولذلك فهي تستعمل هذه الوسائل لخدمة ضلالات فكرية، وعصبيات عرقية، وتلبية شهوات حسية، بينما يقف إلى جانبها مجتمعات غنية بعلوم غايات الحياة.. ولكنها فقيرة جدًا في علوم وسائل الحياة التي تحتاجها لإشاعة الغايات الإنسانية النبيلة.

                   النتائج والتوصيات :

وفي ختام هذه المشاركة أتقدم بالتوصيات والمقترحات الآتية:

1-       إن مواجهة العولمة تقتضي من عقلاء أتباع الديانات السماوية أن يعوا دورهم المتجذر في التاريخ، والمتفرع في آفاق المستقبل، وأن يكون بمقدورهم وفي صلب إرادتهم إثبات أنفسهم في المجال الدولي والإنساني،من خلال جبهة عالمية دينية (إسلامية مسيحية) تقف في وجه كل من يسئ إلى إنسانية الإنسان بغض النظر عن دينه ، وأن تمارس التزامًا مبدئيًا أمام الله سبحانه وتجاه الأمم الأخرى وتجاه السلام العالمي، لأن الأمم التي لا تملك وعيًا ذاتيًا متماسكًا، وإرادة عازمة تحول هذا الوعي إلى صراط مستقيم ، سوف تصبح ـ بؤراً ـ للتوتر ومناخاً خصباً للأزمات العالمية التي تحدثها ـ العولمة المعتدية ـ وأن القوة الداخلية والوعي الذاتي للأمم يبرزان كشرط للبقاء والأمن والسلام في العالم في عصر العولمة أكثر من أي عصر مضى.

 

2 - لا بدّ من تنظيم شؤون التربية، وبلورة نظم ومضامين تربوية تطرح قضايا الدين والثقافة والتاريخ والسياسة والقانون وكل ما من شأنه إضفاء صفاء التميز والأصالة المشتركة على أبناء الأرض وفق مفهوم التوافق لا الإكراه، والتعاون لا الاقصاء.

3 - الاهتمام بتربية الشباب على الرسوخ في العلم الطبيعي وتقنيات العلوم الحديثة، والتفاعل مع وسائل الاتصال وثورة المعلومات وتحويلها إلى منابر عالمية لإيصال أصوات المعتدلين من أبناء الديانتين المسيحية والإسلامية بمختلف اللغات إلى ميادين التفاعل الحضاري والانفتاح على ثقافات العالم باستقلال وإيجابية.

وهذه مسؤولية تتطلب منا الوعي بالمسؤولية الجماعية المتعلّقة بوظيفة التربية وعدم ترك هذه المسؤولية لمن يريد أن يشعل نار الفتن والدمار باسم الدين.

 

4 - التأكيد على دور علماء الدين الإسلامي  ورجال الدين المسيحي بالتوافق على إعمار الكون والحياة وعلى إقامة حلف يرتكز على القضايا الكبرى (حقوق الإنسان العدالة الكرامة) ويمد الشباب بالوعي بالأصول الثقافية دون تشنج أو تنابز.

نموذج : حلف الفضول قبل الإسلام الذي حضره النبي محمد عليه الصلاة والسلام وقال فيه : " لئن دعيت الى مثله في الإسلام لأجبت ".

 

وفي الختام أتقدم بالشكر الجزيل للقائمين على تنظيم هذا الملتقى الشبابي وعلى رأسهم الأستاذ رازق سرياني ، ولكم جميعاً كل الشكر على حسن استماعكم..

وفقكم الله لما فيه الخير.

 محمد خير الطرشان

 www.risalaty.net

   

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 3808

 تاريخ النشر: 21/10/2007

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 325

: - عدد زوار اليوم

7443715

: - عدد الزوار الكلي
[ 52 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan