::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> دراسات وأبحاث

 

 

للعفة في سورة النور قصة (2من6)

بقلم : د. محمد عصام العويد  

 

أسوارُ سُورةِ النّور (2/6)

السُّور الأول:

أن بيضة العفة لن يحميها من لُعاب الوالغين فيها بفروجهم أو بألسنتهم إلا حزم خازم وتنكيل بالغ في الدنيا قبل الأخرى .

"النور" لم تبدأ بفضل العفاف وذكر محاسنه والتنفير من ضده ، بل ولم تخوف الزاني بعقاب الآخرة ،

بل "النور" حين استهلت قالت :

ـ (الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا ..) ، وإن كان محصناً فيُرجم حتى يُثلغ رأسه بصحيح السّنة.

ـ (وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ) وتأمل (إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ..) فهنا شرطٌ عدمه عدمٌ للمشروط، فمجردُ وجود "الشفقة" في تنفيذ الحد زال معه الإيمان الكامل.

ـ ولا بد من التشهير (وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ)

ـ ولم تكتف "النور" بهذا بل ضربت (عُزلة اجتماعية) و (حجراً صحيا) حتى تضيق دائرة الفُحش، وحتى يتردد من ثارت فورته ألفَ مرة وهو يتدبر كيف سيعيش بعدها في المجتمع إن كشف الله ستره (الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ)

فالعفيف لن يتزوج زانية، والعفيفة لن ترضى بزان، بقي أن يكونا زوجيين زانيين؛ كِخْ كِخْ فلن يقبل حتى الزاني أمَّ ولده فاجره، والزانية أيضاً أيضاً كذلك، فلابد بسلطان المجتمع (أيضاً) أن يكونا عفيفين، إما أصالةً أو بتوبة، وهنا يتدخل التشريع ليفرض على المجتمع أن يقبل به أو بها بعد التوبة.

 

 

إن سُوْرَ "النور" الأول لحماية المجتمع من شيوع زنى الفرج - عياذاً بالله -

هو "المجتمع الطارد" لهذه الرذائل، فهو مجتمع محصن، يجلدهم بلا رأفة، يشهر بهم، يحجر عليهم.

وقد بُدء بهذا السوْر لأنه أقواها ردعاً وأبقاها أثراً، لكنه "سوْرٌ جماعي" قبل أن تبنيه لابد أن تبني المجتمع الذي يتبناه.

فإن قيل: فأين التخويف بعذاب الآخرة؟

فالجواب: قد جاء كثيرا في ثنايا السورة، لكن الفاحشة إذا فارت في القلب طغت على نور العقل؛ فقلما يردعها تذكر الآخرة إلا عند عبادٍ لله مخلصين، بينما بأس الدنيا من الجلد والفضيحة وخوف نبذ المجتمع ينزع الله به مالا ينزع بالقرآن.

وإن قيل : وأين التحصين بالتربية وغرس محبة الطهر والعفة ؟

فبيانه أن هذا وغيرَه سيأتي ، ولكن هكذا شاء العليم الحكيم أن يرتب آيات هذه السورة العظيمة .

هذا هو السوْر الأول لتحصين الفرج ..

 

وأما تحصين اللسان عن الفاحشة كما جاء في "النور" فشيء آخر

فقد تعاملت "النور" مع الوالغين في الأعراض بألسنتهم بحجج عقلية ونداءٍ ايماني وصرامة شديدة في الوصف والجزاء والشرط، حتى إنه يتخايل لك حيناً أن تهديدها للألسنة الوالغة أشدُّ مما هددت به الفروج الزانية، (فالفرج) جريمته مع بشاعتها هي واحدة ، فإذا تناقلتها (الألسنة) صارت ثقافة شائعة فانتُهكت آلافُ الفروج المحرمة .

ومن البدهي أن ليس للإشاعات نمط واحد لا تتجاوزه، بل يدخل فيها شائعات البريد الإلكتروني ومنتديات الإنترنت ومواقع اليوتيوب والفيسبوك والتشات والدردشة ورسائل الجوال والماسنجر عن فلانة وفلان، ونلحظ أن بعضهم إذا اختلف مع رجل أو امرأة في عقيدة أو فكر أو منهج ونحوها استباح من مخالفه كل عرض ، وظن أن هذه المخالفة تسوغ له بهتانه ، بل حيناً يحتسب الأجر عند الله ـ بزعمه ـ لأن مخالفه عدو لله .

وله نصيب وافر منها أيضا ًذاك الكذاب الذي رأى ظِنةً فصيرها مِئنة ، فأخذ يثير الظنون الفاسدة بين الناس ، بمثل قوله لهم : رأيت زوجته تكلم فلانا ، وبنات جيراننا يعدن في ساعة متأخرة من الليل ، وفلانة تركب مع رجل غريب ... 

 ومن هؤلاء من يحدث بكل ما سمع ، ويزعم أنه لم يتهم وأنه وأنه .. وإنما هو ناقل ،

فيقول مبيناً حكمه : " كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع " رواه مسلم .

وهذه هي الأوصاف التي اختارها الله لهم :

ـ (وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ)

ـ (فَأُولَئِكَ "عِنْدَ اللَّهِ" هُمُ الْكَاذِبُونَ)

وصيغة الحصر في الآيتين للمبالغة كأن لا يوجد في الدنا من الفاسقين والكاذبين إلا هم ،

و(عند الله) جملة حالية أي أنهم في علم الله الذي لا يدخله تغيير أو تبديل هم كاذبون .

ـ (إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) (15)

(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ) والتلقي عادة بالآذان لا بالألسنة لكنهم لسرعة إلقائهم لهذه الإشاعات بألسنتهم بمجرد سماعهم لها فكأنها عبرت للسان دون مرور بالسمع ، وتأمل خفة العقل هنا .

(وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ) ومن المعلوم أن القول يكون بالأفواه لا بغيرها ، فهل ذُكر عبثاً ؟ حاشاه ، لكن هذا القول لما لم تقلبه القلوب و تمحصه العقول أصبح مجرد حركة للفاه لم يتأمل عُقباه .

(وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ) أما هذه فقد نطقت بما ليس للعبد معها إلا أن يرددها .

أما الجزاء :

ـ (فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً)

ـ ( وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا) [النور : 4] حتى يتوبوا .

ـ (لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) [النور : 14]

وأما الشرط :

ـ (يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [النور : 17]

(يَعِظُكُمُ اللَّهُ) الموعظة تأتي في غالب القرآن ولا تُسند لفاعل (يوعظ به) (يوعظون) (موعظة) ، وهنا جاء لفظ الجلالة صريحاً (يعظكم الله) ، وهي تكون لمن علم التحريم أعظم ممن لا يعلمه .

(إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) شرط ، ومن المقرر أن الشرط يلزم من عدمه العدم ، فمن عاد فليس بمؤمن .

وهذا الشرط دليل عند الإمام أحمد على تكفير كل من رمى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها لأن الآيات نص فيها .

 

-  وهنا واجبات أربع فرضها الله على المجتمع حين ورود شائعة تتعلق بالأعراض :

فأولها : حسن الظن ببعضنا (لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا) وتأمل قوله (بأنفسهم) فهم نفس واحدة ، فكل ما يصيب المؤمن يصيب أخاه شاء ذلك أم أبى .

ثانيها : التكذيب المباشر والصريح إعمالا للبراءة الأصلية  (وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ)، ولم يرض منهم بقول : لاندري .. الله أعلم .. قد يكون .. هذا مستبعد .. بل يقذفون القاذفَ صريحاً بقولهم له"إفك"و"بهتان" (مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) (16)

ثالثها : هات دليلك وبرهانك أو أنت رأس الكاذبين

(لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [13] .

وهنا ثلاثة مؤكدات لاستحقاقهم هذا الوصف "عند الله" و "هم" و"ال" وأنكاها أولها، وأصل الكلام "فأولئك كاذبون".

رابعها : التروي وتقليب الأمر والنظر في العاقبة وترك العجلة في الكلام والحكم

(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ) ، (مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا)

 

ختاما ً، في صحيح البخاري قال جبريل عليه السلام لمحمد صلى الله عليه وسلم : 

"وأما الرجل الذى أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ، ومنخره إلى قفاه ، وعينه إلى قفاه، فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق"

حفظ الله فروجنا وألسنتنا وجوارحنا من كل سوء

وإلى السّوْر الثاني بمشيئة النور وعونه سبحانه...

 التعليقات: 1

 مرات القراءة: 3085

 تاريخ النشر: 08/08/2010

2010-08-11

غسان

شكراً للدكتور محمد عصام و تقبل الله طاعتكم في رمضان

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 189

: - عدد زوار اليوم

7449769

: - عدد الزوار الكلي
[ 40 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan