::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> محاضرات وندوات

 

 

أهمية بناء المساجد في الإسلام

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان (المشرف العام)  

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللّهم افتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نقوله حجة لنا، ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

سأتحدث عن أهمية بناء المساجد في الإسلام، وأثر المساجد في إصلاح أحوال الأمة الإسلامية.

^ بناء المساجد من أهم ركائز بناء المجتمع الإسلامي، والمسجد النبوي نموذجاً:

نعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم حين هاجر من مكة، وحينما وَطِئَت أقدامه المدينة المنورة فإن أول ما قام عليه الصلاة والسلام هو بناء المسجد؛ وذلك لإظهار شعائر الإسلام التي طالما حوربت في مكة، ولكي تقام فيه الصلوات الخمس التي تربط الإنسان بربه سبحانه وتعالى، وتنقي قلبه من الأدران، والأوساخ، والآثام والأمراض، وتزيده صلةً بالله تبارك وتعالى، وإعراضاً عن الدنيا، وإقبالاً على الآخرة.

لقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم ببناء المسجد في المدينة المنورة أن يثبت دعائم الدولة الإسلامية الجديدة على قواعد متينة وأسس راسخة، وليكون المسجد مكاناً يجتمع فيه المسلمون ويتلاقون، وليكون سبباً في التعارف والتآلف فيما بينهم.

أ- شراء الأرض التي تم عليها بناء المسجد النبوي:

جاء في الحديث في صحيح البخاري أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل المدينة راكباً راحلتَه، فسار يمشي معه الناس حتى بركت ناقته عند مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين، وكان موضع المسجد مِرْبَداً[1] للتمر لـ"سهل" و"سهيل" (وهما غلامان يتيمان كانا في حجر أسعد بن زرارة). فقال النبي صلى الله عليه وسلم حين بركت به راحلته: "هذا إن شاء الله المنزل". صحيح البخاري. ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الغلامين (سهلاً وسهيلاً)، فساومهما بالمربد ليتّخذ مسجداً، فقالا: "لا. بل نهبه لك يا رسول الله!". هذان الغلامان كانا ممن آمن بالنبي صلى الله عليه وسلم وأرادا أن يقدما هذا المكان هبة له عليه الصلاة والسلام حتى يتخذه مسجداً، لكن النبي صلى الله عليه وسلم رفض أن يقبله منهما هبة، بل أصرّ على شرائه منهما؛ ليعلّمنا حكماً شرعياً دقيقاً، وهو أنّ هبة الصغير لا تقبل، وهي بحاجة إلى إجازة الولي، وهذه مسألة مهمة؛ فالصغير الذي لا يميز ولا يعقل، والذي هو دون سن البلوغ لا تصح هبته ولا بد من إجازة وليِّه إذا وهب، وبما أنهما كانا يتيمين فالنبي عليه الصلاة والسلام علمنا ألا نستسهل حق اليتيم وألا نأكل ماله، بل أن نعطيه الحق الكامل في أمواله وملكه.

ب- إصلاح الأرض التي ستصبح مسجداً والشروع في بنائه:

اشترى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك المكان كما يقول سيدنا أنس رضي الله تعالى عنه، وكان فيه نخل وقبور للمشركين وخِرَب[2]، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبور المشركين فنُبشت؛ لمضيّ زمن طويل عليها لا استهانةً بها, فالنبي عليه الصلاة والسلام لا يستهين بالإنسان, هو الذي علمنا مكانة الإنسان وقيمته, والله تعالى يقول:[]وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ...[] سورة الإسراء (70). وعلَّمَنا النبي صلى الله عليه وسلم كيف يُجلّ الإنسان أخاه الإنسان وخاصة إذا كان مؤمناً، ففي غزوة بدر حينما سقط من المشركين قتلى, بعد أن انتهى النبي صلى الله عليه وسلم من دفن أجساد المسلمين سارع إلى دفن أجساد المشركين, ما تركهم عليه الصلاة والسلام نهباً للسباع، ولا تركهم للحشرات، ولا تركهم تخرج منهم الروائح الكريهة؛ لأنهم بشر، والله سبحانه وتعالى كرم الإنسان. أما الخرب فسويت بالأرض، وأما النخل فقطّعوه وجعلوه بصفّ مستقيم جهةَ القبلة، كأنه علامة أو حدود للقبلة، وجعلوا له عضاضتين من حجارة، واحدة من اليمين وواحدة من الشمال، وجعلوا سقفه من الجريد (ورق النخل)، وكانوا يرتجزون وهم يعملون في بناء المسجد النبوي الشريف: "اللهم! لا خير إلا خير الآخرة، فانصر الأنصار والمهاجرة". والمعروف أن بحر الرجز من بحور الشعر العربي التي يقولها العرب أثناء أدائهم للأعمال أو أثناء سريهم فوق الإبل حتى تسهّل عليهم قطع المسافات وتحمل المشقات والصعوبات، أما النبي صلى الله عليه وسلم فشرع بالعمل مع أصحابه، وهو أول من ضرب بالمعول في حفر أساسات المسجد النبوي الشريف الذي كان عمقه في الأرض ثلاثة أذرع، ثم اندفع المسلمون في بناء هذا المسجد وبناء هذه الأساسات بالحجارة، وصُنِعَت الجدران أيضاً من الحجارة التي لم تزد على قامة الرجل إلا قليلا. هذه الجدران جعلت من اللَّبِن[3] ، وأما في أجزاء المسجد الشمالية وضعت ظُلّة من جريد النخل سميت بالصُّفَّة، وكان أهل الصفة[4] يمكثون في هذه الصفة، وهي عبارة عن مكان خلف مسجد النبي عليه الصلاة والسلام ظُلل بالجريد.

جـ- مشاركة النبي عليه الصلاة والسلام في بناء المسجد النبوي:

النبي صلى الله عليه وسلم حينما بدأ العمل بالمسجد وأخذ المعول والفأس وبدأ يحفر بالأساسات لم يبدأ في اللحظة الأولى ثم ذهب إلى غرفته ليأخذ قيلولة, ما قصّ النبي عليه الصلاة والسلام الشريط الحريري إيذاناً ببدء العمل كما يفعل اليوم بعض المدراء العامين ثم يذهب وراء مكتبه يتابع العمل من وراء الطاولة، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم ظل مع أصحابه رضي الله عنهم يعمل في بناء المسجد من اللحظة الأولى إلى أن انتهى بنيانه، فأقام فيه الصلوات وخطبة الجمعة، فهو بذلك يعلمنا عليه الصلاة والسلام أن نكون عمليين في كل أمورنا، وأن نشارك في كل المناسبات التي تخص المساجد، فمثلاً المسجد يحتاج إلى تنظيف دائم ورعاية مستمرة، يحتاج إلى اهتمام بفرشه وأثاثه... فلا مانع إذا قام الناس متبرعين بإعادة الاهتمام بأثاث المسجد أو ترميمه أو تنظيفه من غير زخرفة.

إذاً.. لا بأس من أن نشارك في العمل بالمساجد كما كان يفعل النبي صلى الله عليه وسلم، وأن نكون قدوةً عمليّين كما كان النبي صلى الله عليه وسلم قدوة عملية في بناء المساجد، لذلك كان بعض الصحابة يرتجز أثناء بناء المسجد فيقول: ((لئِن قعدنا والنبي يعملُ.. لَذاكَ منا العمل المضَلَّلُ))

ء- زخرفة المساجد في الإسلام:

هناك إجماع لدى جمهور العلماء على أن ما خرج عن حده في زخرفة المساجد مكروه، وخاصة إذا كان المال الموقوف لعمارة المسجد، فلا يجوز عندها أن تستخدم هذه الأموال في زخرفة المساجد، أما إذا كان إنسان يبني مسجداً من ماله الخاص متبرعاً به فلا بأس بعد أن تمم بناءه وأحسنه وكمله أن يضع فيه شيئاً من الزخرفة ليعز فيه الإسلام والمسلمين.

أول من زخرف المساجد في التاريخ هو الوليد بن عبد الملك أحد خلفاء بني أمية جزاه الله خيراً، حينما بنى مسجد بني أمية وقال: "يا أهل دمشق! إن الله تعالى حبا دمشق بأربع؛ بمائها وهوائها وحمّاماتها... وزدتكم الخامسة بمسجدها". بنى لهم المسجد الجامع فكان المسجد الأموي، جزى الله خيرا الوليد بن عبد الملك وكل الخلفاء المسلمين الذين أعمروه وبنوه ورمموه إلى يومنا هذا، كان مفخرة في تاريخ المسلمين في بلاد الشام.

هـ- الأذان علامةً لدخول وقت الصلاة:

بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد، وبعد بنائه تشاور أصحابه صلى الله عليه وسلم فيما بينهم في أمر يجعل للمسلمين علامة للصلوات، فقال بعضهم: نرفع راية إذا حان وقت الصلاة يراها الناس من بعيد. فاعتُرِض على هذا الرأي وقالوا: هذا لا يفيد الإنسان النائم ولا الإنسان الغافل عن الصلاة أو غير المهتم بها. وقال آخرون: بل نشعل ناراً على مرتفع من الجبال أو الهضاب حتى يراه الناس من بعيد. أيضاً رُفض هذا الرأي، وأشار البعض بأن يتخذ المسلمون بوقاً كما كانت تتخذه اليهود، أو ناقوساً كما كانت تتخذه النصارى، يعلنون به مواعيد الصلوات. أيضاً رُفض هذا الاقتراح، فإذا ببعض الصحابة رضي الله تعالى عنهم ينوّر الله قلوبهم إلى حلّ هو الأذان المعروف في زماننا، وقد اقترح هذا الرأي أحد أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهو "عبد الله بن زيد الأنصاري" حيث قال أخذته إغفاءة، فبينما هو بين النائم واليقظان إذ عرض له شخص فقال له: يا عبد الله! ألا أعلّمك كلمات تقولها عند النداء بالصلاة. قال: بلى. علمني. فقال له: قل الله أكبر مرتين، وتشهد مرتين، ثم قل حي على الصلاة مرتين، ثم قل حي على الفلاح مرتين، ثم كبّر ربك مرتين، ثم قل لا إله إلا الله. فانتبه من إغفاءته تلك، ثم انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبره خبر هذه الرؤيا التي رآها. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "إنها لرؤيا حق". صحيح ابن حبان. فقال: يا رسول الله! لقد رأيت كذا وكذا. وقص عليه الرؤيا كاملة. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "ألقه على بلال فإنه أندى منك صوتاً". سنن البيهقي الكبرى. فقد كان صوت سيدنا بلال رضي الله تعالى عنه صوتا ندياً قوياً يُسمِع كل أهالي المدينة المنورة. وبدأ سيدنا بلال رضي الله تعالى عنه يؤذن للصلاة بهذا الأذان الذي سمعه من عبد الله بن زيد الأنصاري، وبينما هو يؤذن وإذ بسيدنا عمر رضي الله تعالى عنه يجيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يجرّ رداءه و يقول: والله لقد رأيت مثله يا رسول الله! فكان سيدنا بلال رضي الله تعالى عنه أحد المؤذنين في المسجد في المدينة المنورة وكان المؤذن الثاني سيدنا عبد الله بن أم مكتوم رضي الله تعالى عنهما. وفي صلاة الفجر زاد سيدنا بلال جملة بعد قوله "حي على الفلاح" وهي: "الصلاة خير من النوم، الصلاة خير من النوم". وعرضها على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرّه عليه الصلاة والسلام. وكان في البداية يؤذن في مكان مرتفع، ثم بدأت تُعرف بين المسلمين المآذن والمنارات، فجعلت للمساجد مآذن ومنارات عالية وشاهقة، ثم نُوّرت هذه المنارات ووضع لها الهلال، فأصبحت تعرف من بعيد ويهتدي إليها السائرون في الظلام.

هـ- المسجد ركيزة أساسية في بناء المجتمع الإسلامي:

أيها الإخوة القراء! حينما نقرأ بناء النبي صلى الله عليه وسلم للمسجد ننتبه إلى مسالة مهمة جداً وهي أن بناء المساجد من أهم الركائز في بناء المجتمع الإسلامي؛ لأن المجتمع الإسلامي إنما يكتسب صفة القوة والرسوخ والتماسك من خلال إقامة نظام الإسلام، وعقيدته، وآدابه، وسلوكه وتوجيهاته، وهذا لا يتم ولا ينبع إلا من خلال روح المساجد ووحي المساجد. قال الله سبحانه وتعالى:[]فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)[] سورة النور. هذه الروح لا تتم إلا من خلال بناء المساجد وإعمارها، فالمساجد رمز لشموخ الإسلام وشموليته واستمراريته، وعمارة المساجد تعد من أساسيات إقامة هذا الدين. قال الله سبحانه وتعالى:[]...لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ...[] سورة التوبة (108).

^ ما الهدف من بناء المساجد وما هي رسالتها؟

المساجد بُنيت لكي تُعمر بالساجدين، لكي ينتشر منها روح الإسلام وعقيدة الإسلام وأخلاق الإسلام. أُنشئَت لتكون مكاناً لعبادة المؤمنين، ولذكر الله سبحانه تعالى، لتسبيحه وتقديسه وتحميده وشكره على نعمائه, يدخل المسلم كل يوم إلى المسجد يقيم فيه صلواته الخمس، لا يؤذي أحداً، لا يرفع صوته, يصون حرمته, يغض بصره, لا ينظر إلى إخوانه إلا نظرة خير, يمد يده فيصافحهم ويسلم عليهم فيرق قلبه إليهم, المسجد ملتقى للمسلمين، يتلاقون فيه كل يوم خمس مرات.

أنشئ المسجد في الإسلام ليلتقي فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ومن يأتي إليه من كافة البقاع طلباً للإسلام والهداية، ورغبة في الإيمان, ولقد كان يدخل الداخل على المسجد ليرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلا يعرفه من أصحابه، وكانوا قد تحلّقوا حوله حلقاً فيقول: أيكم محمد؟ (صلى الله عليه وسلم), ما كان النبي عليه الصلاة والسلام يتخذ له عرشاً ولا كرسياً ولا مكاناً متميزاً, ما كان يحجز نفسه عن الناس أو يبتعد عنهم, بل كان يعيش معهم في المسجد يقضي حوائجهم، ينصف المظلوم من الظالم، يقضي لمن أراد القضاء، يعطي الفقراء والمساكين، يقسم العطايا في المسجد.

المسجد له رسالة كبيرة في الإسلام؛ أنشئ ليكون جامعة للعلوم والمعارف، ولكي يتلى فيه كتاب الله تعالى، ولكي يكون مدرسة يتدارس فيها المسلمون كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنشئ المسجد لكي يكون معهداً يؤمه طلبة العلم من كل جانب؛ يتفقهون في الدين، ويرجعوا إلى قومهم مبشرين ومنذرين، يدعون إلى الله سبحانه وتعالى، أنشئ المسجد ليكون مأوى للفقراء وأبناء السبيل، أنشئ المسجد لكي يأتيه كل ذي حاجة فتقضى حاجته ويتعاون فيه المسلمون على البر والتقوى، كم وكم دخله الأعراب الجُفَاة الذين لا يعقلون شيئاً في عهد النبوة الأول، فإذا بهم يخرجون منه على أتقى قلب رجل واحد منا، أو على أتقى قلب رجل واحد من أولئك المسلمين الذين في المسجد. دخل ذات يوم أعرابي إلى المسجد فبال في زاوية من زواياه، فقام إليه بعض الصحابة يريدون أن ينبهوه، فقال لهم النبي عليه الصلاة والسلام: "اتركوه اتركوه لا تذرموا عليه بوله وأريقوا عليه دلواً من ماء". علّمهم النبي صلى الله عليه وسلم كيف يتعاملون مع ذلك الأعرابي الذي قدم للمرة الأولى، فلما رأى الأعرابي فعل النبي صلى الله عليه وسلم قال: اللهم ارحمني ومحمداً ولا ترحم معنا أحدا. لقد تأثر بفعل النبي عليه الصلاة والسلام، فسأل الله الرحمة لنفسه ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، ومنعها عن غيرهما؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أحسن إليه إحسانا كبيرا.

كذلك كان المسجد قلعة يجتمع فيها المسلمون المجاهدون إذا استنفروا في سبيل الله, تُعقد فيه ألوية الجهاد في سبيل الله وألوية الدعوة إلى الله تعالى. تعقد في المساجد الرايات المتوجهة للشرق والغرب، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يرسل الوفود والرسائل إلى الملوك والزعماء من ملوك الأكاسرة والقياصرة والفرس والروم وملوك العرب وأمرائهم، أنشئ المسجد ليكون بريداً للمسلمين، منه تصدر الأخبار والرسائل، وفيه تقرأ رسائل الأقوام الذين يرسلون إلى النبي صلى الله عليه وسلم الرسائل والأخبار، وتقرأ فيه رسائل الملوك والأمراء. ومن  المسجد يرسَل المدد من الجيوش والقادة والفاتحين إلى كافة بلاد الأرض.

هكذا كان مفهوم المسجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، لم يكن ديراً للرهبنة أو زاوية للعاطلين عن العمل، فليس في الإسلام رهبنة أو دروشة أو غير ذلك، والنبي عليه الصلاة والسلام قال لسيدنا أبي ذر رضي الله تعالى عنه: "عليك بالجهاد فإنه رهبانية أمتي". صحيح ابن حبان. من أراد أن يترهبن في الإسلام فعليه بالجهاد، فالجهاد هو الرهبانية. دخل سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه مرة إلى المسجد، فوجد فيه جماعة من الناس قد تلبّثوا بعد صلاة الجمعة بدعوى أنهم متوكلون على الله تعالى، وأولئك المتوكلون أرادوا أن يمكثوا في المسجد وينقطعوا للعبادة، فقال لهم كلمة مشهورة في التاريخ: "لا يقعدن أحدكم عن طلب الرزق ويقول: اللهم ارزقني وقد علم أن السماء لا تمطر ذهباً ولا فضة". والله سبحانه وتعالى يقول:[]فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ...[] سورة الجمعة (10).

لقد كان المسجد في تاريخ الإسلام جامعة شعبية للتثقيف والتهذيب، كان برلماناً محلياً داخلياً تُناقَش فيه شؤون المسلمين، كان مجمعاً للتعرف والتحابب والتآلف، كان معهدا للتربية والسلوك وتنمية الأخلاق ونشر الآداب والفضائل. المسجد منذ أن أسسه النبي صلى الله عليه وسلم أصبح جامعة للعلوم يُدرس فيها العلوم والمعارف، ألم يأتِ سيدنا أبو هريرة ذات مرة إلى السوق فيقل: "هلمّوا إلى المسجد، فإن ميراث محمد صلى الله عليه وسلم يوزع". فجاء بعض الناس ينظرون ما هذا الميراث الذي يوزع؟؟ فإذا بهم يجدون حلقاً من العلم؛ حلقة لكتاب الله تعالى، وحلقة لبيان الآداب والفضائل وأحكام العبادات، وحلقة أخرى لسنة النبي صلى الله عليه وسلم. الأنبياء لم يتركوا ديناراً ولا درهماً، إنما تركوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر.

المسجد كان يمثل البرلمان، يجتمع فيه الناس ويتخذون قراراتهم، وأي برلمان أفضل حيث يجتمع فيه التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله، هؤلاء هم نوّاب هذا البرلمان الذين يقضون قضايا الناس، ويحكمون فيها، ويقودون، ويصنعون سياسة أمتهم.. سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه كانت أول خطبة ألقاها في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن وُلّي الخلافة قال فيها: "أيها الناس! وُلّيت عليكم ولست بخيركم، فإن رأيتموني على حق فأعينوني، وإن رأيتموني على باطل فسددوني". هذه وسيلة للتناصح فيما بين الحاكم والرعية، ثم قال: "ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وإن أضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم". هذه أول خطبة سياسية ألقاها سيدنا أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم. بيان ألقاه هذا الخليفة قال فيه فلم يكذب، ووعد فيه فلم يُخلف، وسمعتْه أمة فقالت: سمعنا وأطعنا فلم تُكذّب، وهذه الأمة كانت بمثابة الناصح والأمين لهذا الخليفة الصادق.

المسجد مكان يعقد فيه في كل يوم جمعة مؤتمر للمسلمين، كل حي على مستوى حيهم، يجتمعون في المسجد ويستمعون لخطبة الخطيب، ويصغون إلى الكلام والتوجيه والفائدة التي يقدمها لهم من خلاصة علمه ومعرفته وتجاربه.

المسجد علّم الناس الأوائل حرية الكلمة، علمهم حرية التعبير، علمهم كيف يخاطب أحدهم الآخر بأدب الخطاب؛ أدب الخطاب النبوي النابع من المسجد الشريف، لأن الله سبحانه وتعالى قال:[]وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً[] سورة الجن (18). ففي المساجد لا نُعظّم ولا نمجّد إلا الله سبحانه وتعالى، وهي أعدت من أجل الذكر وقراءة القران والإصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. فحرية الرأي والنقد تعلمها الصحابة رضي الله تعالى عنهم من خلال المساجد، سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه أراد يوما أن يضع حداً أعلى للمهور؛ فقد تَغَالَى الناس في المهور في عصره، فأعلن ذلك في المسجد، حدّد حدّاً أعلى للمهور بحيث لا يجوز ولا يصح أن يتجاوزه أحد من الناس، فقامت امرأة وعارضت أمير المؤمنين رضي الله عنه وقالت: "يا أمير المؤمنين! كيف تفعل هذا والله سبحانه وتعالى يقول:[]وَإِنْ أَرَدتُّمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناًً[] سورة النساء (20). فلا يجوز أن تُحدد هذا المهر؛ لأن الله سبحانه وتعالى جعله نحلة وأعطية ومنحة يعطيها الرجال للنساء: []وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً...[] سورة النساء (4). فقال سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه: "أصابت امرأة وأخطأ عمر". وتراجع عن قوله.

^  المساجد في تاريخنا المعاصر:

حتى في تاريخنا المعاصر منذ أن أُسس الجامع الأزهر في مصر تحول إلى جامعة، وفي المغرب تحول جامع القرويين إلى جامعة، وفي تونس جامع الزيتونة، وفي دمشق الجامع الأموي؛ تخرج منه الدكاترة والعلماء والمشايخ والدعاة وطلاب العلم، وكانت قبة النسر في المسجد الأموي مكاناً يدرّس فيه شيوخ الحديث وشيوخ العلم، وهذا معروف عبر التاريخ، كانت المساجد جامعات وأماكن يرتادها العلماء من كل مكان، حتى إن المسجد الأموي كان فيه زاوية تسمى بالزاوية الغزالية؛ أقام فيها الإمام الغزالي رحمه الله تعالى زمناً طويلاً، وكتب فيها كتابه العظيم "إحياء علوم الدين". الإمام النووي رحمه الله تعالى أيضا أقام في مسجد دار الحديث في منطقة العصرونية في دمشق، وسمي هذا المسجد باسم مسجد دار الحديث النووية الأشرفية نسبة إلى الإمام النووي رحمه الله تعالى، إذاً كانت المساجد موئلاً للعلم، يقصدها طلاب العلم من كل مكان. الآن من دخل الجامع الأزهر سيجد في محيط المسجد رواقاً يسمى رواق الشوام، ورواقاً يسمى رواق المغاربة، ورواقاً يسمى رواق الأتراك، ورواقاً يسمى رواق الأفارقة، عبارة عن أماكن وبيوت وغرف معدّة لطلاب العلم القادمين من أصقاع الدنيا لتلقي العلم.

^ دعاء:

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا من عُمّار المساجد, وأن يجعلنا ممن يعمرونها بناء وحجارة, وإقامة وذكراً وتقوى لله سبحانه وتعالى. اللهم! اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه, اللهم! ارفع مقتك وغضبك عن أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وفرّج عنها ما أهمّها وما أغمها، اللهم! علمك بحال الأمة يغنيك عن سؤالها، اللهم! فرج عن إخواننا المستضعفين في العراق وفلسطين وفي غزة الصامدة برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم! يا كريم! يا قوي! يا متين! نسألك أن تمنح إخواننا في فلسطين القوة والصبر والمصابرة على ما أصابهم من البلاء والغلاء وتسلط الأعداء، واكشفه اللهم عنهم ما لا يكشفه أحد غيرك. اللهم! بارك لهم في أموالهم وأعمارهم وأقواتهم وأسلحتهم، وارحم شهداءهم، وصبر أمهاتهم، وارحم من رحل منهم إلى رحمتك يا رب العالمين! إنك على ما تشاء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

 


[1] المربد: هو موضع يُجمع فيه التمر، ثم يجفف ويعد للبيع وللتصدير.

[2] الخرب: هي أماكن أو بقايا بيوت قديمة متهدمة.

[3] اللبن: هو التراب المعجون بالماء.

[4] أهل الصُّفَّة: هم فقراء المسلمين أو المهاجرون الذين يأتون إلى المدينة المنورة ولا يجدون لهم مأوى ولا مسكناً.

 

 

 

 

 

 التعليقات: 2

 مرات القراءة: 19838

 تاريخ النشر: 30/08/2010

2012-09-08

ريماس

شكراااااااااااا كتير الموضوع ممتاز

 
2010-10-20

غسان

آمين آمين ...شكرا لكم سيدي

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 686

: - عدد زوار اليوم

7469455

: - عدد الزوار الكلي
[ 75 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan