::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مقالات المشرف

 

 

الغضب .. أسبابه وعلاجه (3)

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان (المشرف العام)  

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللّهم افتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نقوله حجة لنا، ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

        ختمنا المقال السابق بالحديث عن وسائل علاج الغضب، وذكرنا منها: السكوت وعدم الاسترسال في الكلام، الوضوء، الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم، وسنكمل من حيث انتهينا في الحديث عن هذه الوسائل:

ء- أن يغير الإنسان الوضع الذي كان عليه حال الغضب:

        عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: "إذا غضب أحدكم وهو قائم فليجلس ، فإن ذهب عنه الغضب وإلا فليضطجع". رواه أبو داود.

كشف الطب الحديث أن هناك العديد من التغيرات التي يحدثها الغضب في جسم الإنسان، فالغدة الكظرية التي تقع فوق الكليتين، تفرز نوعين من الهرمونات هما هرمون الأدرينالين، وهرمون النورأدرينالين، فهرمون الأدرينالين يكون إفرازه استجابة لأي نوع من أنواع الانفعال أو الضغط النفسي، كالخوف أو الغضب، وقد يفرز أيضاً لنقص السكر، وعادة ما يُفْرَز الهرمونان معاً.

وإفراز هذا الهرمون يؤثر على ضربات القلب، فتضطرب، وتتسارع، وتتقلص معه عضلة القلب، ويزداد استهلاكها للأكسجين. والغضب والانفعال يؤدي إلى رفع مستوى هذين الهرمونين في الدم، وبالتالي زيادة ضربات القلب، وقد يؤديان إلى ارتفاع ضغط الدم. ولذلك ينصح الأطباء مرضاهم المصابين بارتفاع ضغط الدم أو ضيق الشرايين أن يتجنبوا الانفعالات والغضب، وأن يبتعدوا عن مسبباتهما، وكذلك مرضى السكر؛ لأن الأدرينالين يزيد من نسبة سكر الدم.

وقد ثبت علمياً أن كمية هرمون النورأدرينالين في الدم تزداد بنسبة ضعفين إلى ثلاثة أضعاف عند الوقوف وقفة هادئة لمدة خمس دقائق، وأما الأدرينالين فإنه يرتفع ارتفاعاً بسيطاً بالوقوف، وأما الضغوط النفسية والانفعالات فهي التي تسبب زيادة مستوى الأدرينالين في الدم بكميات كبيرة، فإذا كان الوقوف وقفة هادئة ولمدة خمس دقائق، يضاعف كمية النورأدرينالين في الجسم، وإذا كان الغضب والانفعال يزيدان مستوى الأدرينالين في الدم بكميات كبيرة، فكيف إذا اجتمع الاثنان معاً الغضب والوقوف؟! لذلك أرشد النبي صلى الله عليه وسلم الغضبان إن كان قائماً أن يجلس، فإن لم يذهب عنه الغضب فيلضطجع؛ فإن اضطجاعه يسبب له حالة من الهدوء، ويخفّ إفراز هذين الهرمونين عند الإنسان ويعود إلى طبيعته.

هذا السبق العلمي منه صلى الله عليه وسلم يعدّ من أوجه الإعجاز التي ظهرت في هذا العصر، وإلا فما الذي أدراه بأن هذه الهرمونات تزداد بالوقوف، وتنخفض بالجلوس والاستلقاء، حتى يصف لنا هذا العلاج النبوي؟ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.

هـ- أن يتذكر الأجر والثواب لمن ضبط نفسه وكظم غيظه:

قال الله تعالى:[]وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ[] سورة الشورى (37). وقال تعالى:[]وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)[] سورة آل عمران. في هذه الآية جعل الله سبحانه وتعالى كظمَ الغيظ عند الغضب من صفات المتقين المتعددة، فالمؤمن لا ينتقم إن أغضبه إنسان ما، بل يصبر ويتحمل في سبيل الله تعالى ومسارَعَةً إلى مغفرته؛ للفوز بجنته التي عرضها السماوات والأرض.

وقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى هذه المسألة بشكل واضح في الحديث الذي يرويه سيدنا معاذ بن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "من كظم غيظاً وهو قار على أن يُنْفِذَه, دعاه الله سبحانه وتعالى على رؤوس الخلائق يوم القيامة؛ حتى يُخَيِّرَهُ من الحور العين ما شاء". رواه أبو داود, حديث رقم 4777, والترمذي, حديث رقم 2022.

وعن سيدنا أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! دلني على عمل يُدخلني الجنة. قال: "لا تغضب ولك الجنة". رواه الطبراني في الأوسط (2353) وفي مسند الشاميين (21) قال المنذري: "رواه الطبراني بإسنادين أحدهما صحيح".

و- العفو والصفح والإعراض عن الجاهلين:

ورد عن سيدنا عبد الله بن عباس رضي الله عنه قال: قَدِمَ عيينة بن حصن, فنزل على ابن أخيه الحُرِّ بن قيس - وكان الحر من النفر الذين يدنيهم عمر رضي الله عنه وكان من جملة القراء الذين يستشيرهم سيدنا عمر رضي الله عنه  كهولاً كانوا أو شباناً - فقال عيينة لابن أخيه: "يا ابن أخي! لك وجه عند هذا الأمير, فاستأذن لي عليه". فاستأذن الحر, فأذن له عمر, فلما دخل؛ قال: "هِيْ يا ابن الخطاب! فوالله؛ ما تعطينا الجزل, ولا تحكم فينا بالعدل". فغضب عمر رضي الله عنه؛ حتى هم أن يوقع به, فقال له الحرُّ: "يا أمير المؤمنين! إن الله تـعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم:[]خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ[] سورة الأعراف (199). وإن هذا من الجاهلين". قال ابن عباس رضي الله عنه: فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها, وكان وقّافاً عند كتاب الله تعالى. (رواه البخاري, حديث رقم 7286). فلم ينتقم سيدنا عمر رضي الله عنه من ذاك الرجل لأنه جاهل، ولو أن كل إنسان أعرض وعفا عمن أساء إليه لخلا مجتمعنا من العنف، والقسوة، والحقد وحالات الغضب الشديدة التي تنتاب كثيراً من الناس.

^ الناس في الغضب على ثلاثة أحوال:

أ- الحالة الأولى: حالة انعدام الغضب:

وهي حالة تفريط يفقد فيها المرء غضبه بالكلية، ويكون ضعيفاً لا حمية له، فلا يغضب لحرمات الله، ولا يغار على عرضه ومحارمه، ولا يكرم نفسه. وهذه صفة خِسّةٍ وبلادة في الحس، وهي صفة سلبية.

ب- الحالة الثانية: حالة الإفراط في الغضب:

وهي مناقضة تماماً للحالة الأولى؛ حيث يغضب الإنسان إلى درجة فقد السيطرة على النفس، وذلك بطغيان الغضب على العقل والدين، فيخرج صاحبه إلى الباطل، ويوقعه فيما يناقض عقيدته، وربما كان غضبه لأتفه الأسباب، وهذا هو الغضب المذموم الذي نهى عنه سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

جـ- الحالة الثالثة: حالة التوسط والاعتدال:

حيث يدافع المرء عن نفسه ودينه وعرضه وماله، ويغار على حرمات الله وحدود الوطن، ولولا هذا لظهر الخبث، وعم الفساد، وشاعت الفوضى، وهذا هو الغضب المحمود، وهو النوع المطلوب من الغضب، والذي لا يُساء فيه إلى الإنسان الذي يتصف به.

وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يغضب إذا انتُهِكت محارم الله، أما إذا كان الأمر في حق نفسه فقد يتجاوز. تقول السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها: "ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم شيئاً قط بيده، ولا امرأةً ولا خادماً، إلا أن يجاهد في سبيل الله، وما نِيلَ منه قط فينتقم من صاحبه، إلا أن ينتهك شيءٌ من محارم الله تعالى فينتقم لله تعالى". صحيح مسلم. فالنبي عليه الصلاة والسلام كان يميّز بين أمرين؛ فما كان يتعلق بالله سبحانه وتعالى والدين والحرمات فإنه كان يغضب لأجل ذلك، وأما ما كان يتعلق بالنفس فقد كان مضرب مثل بأن يملك نفسه، فلا يغضب ولا يسيء لأحد من الناس. ولا شك أن هذه الحالة الأخيرة هي أصلح الأحوال وأنفعها عند هجمة الغضب.

وهكذا كانت أخلاق الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم، فهو أَمْلَكُ الناس لنفسه في مواطن الغضب، إلا أن تُنتهك حرمات الله تعالى، فعندها يغضب غيرةً على الحرمات، وانتصاراً لله عز وجل. وما أحوجنا للامتثال والاقتداء بالهَدْيِ النبوي القويم في حال الرضا والغضب، ففيه الاعتدال والتوسّط، وبه النجاة بإذن الله تعالى.

^ نموذج من غضب رسول الله:

غضب رسول الله صلى الله عليه وسلم مرات، وعرف الغضب في وجهه، لكن غضبه عليه الصلاة والسلام كان من النوع المعتدل الذي يسيطر فيه على نفسه، ولا تخرجه حالة الغضب عن طوره.

مرةً قسَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَسْمًاً، فَقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ هَذِهِ لَقِسْمَةٌ مَا أُرِيدَ بِهَا وَجْهُ اللَّهِ. فجاء رجل فأخبر النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَغَضِبَ عليه الصلاة والسلام حتى عُرِف الغضب في وجهه، ثُمَّ قَالَ: "يَرْحَمُ اللَّهَ مُوسَى، قَدْ أُوذِيَ بِأَكْثَرَ مِنْ هَذَا فَصَبَرَ". رواه البخاري.

نستنتج من ذلك أن: الغضب المذموم ما أفرط فيه الإنسان وخرج به عن الاعتدال، متعدياً ضوابط العقل والشرع، أما المعتدل فهو من الفضائل المشرقة التي تعزز الإنسان، و ترفع معنوياته، كالغضب عن المنكرات، وإذا انتهكت المحارم، حيث إن الغَيرة تبعث الغضب المحمود...

^ اتخاذ القرارات لحظة الغضب:

        أيها الإخوة القراء! المشكلة ليست في حالةِ الغضب ذاتِها، إنما المشكلة في القرارات التي يتخذها الإنسان لحظةَ الغضب، فربما أوقع قراراً بطلاق امرأته حالةَ الغضب، وربما اتخذ قراراً بفض الشركة مع شريكه مثلاً، وربما اتخذ قراراً بقطع صلته بالناس، وربما وثّق هذا الأمر بالأيمان المغلّظة، وهذه مشكلة خطيرة، لذلك نجد من هدي النبي صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يحكم الإنسان أثناء غضبه ففي الحديث: "لا يحكمْ أحد بين اثنين وهو غضبان". رواه الخمسة واللفظ لمسلم. لأن حالة الغضب ستخرجه عن طَوره وتوازنه، فقد يميل إلى أحدهما ويقسو على الآخر، فهو في الحالتين لم ينصف لا الذي قضى له بخير، ولا الذي قضى عليه بشر.

عندما يغضب الإنسان غضباً يخرجه عن حلمه, ويرتكب نتيجته ما لا يليق به من أفعال، فعليه ألا يتخذ قراراً ذا شأن، وأن يعود إلى وسائل علاج الغضب التي ذكرتها؛ ليسيطر بذلك على نفسه لكي يتخذ القرار السليم في وقته. والإنسان لا يستشعر جرم ما فعل إلا بعد أن يذهب عنه غضبه حيث يعود إليه رشده. والقرآن الكريم يبين لنا الأضرار الجسيمة التي يفعلها المرء عندما يغضب حيث يقص علينا نبأ سيدنا موسى عليه السلام لما أغضبه قومه بعبادتهم العجلَ، وكان مما ذكره ربنا سبحانه وتعالى قوله:[]وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[] سورة الأعراف (150). فسيدنا موسى عليه السلام عندما وجد قومه يعبدون العجل غضب غضباً شديداً، وترتب على هذا الغضب أنه ألقى الألواح على الأرض وفيها وصايا الله تعالى لبني إسرائيل، ثم أخذ برأس أخيه هارون وهو نبي من أنبياء الله... هذه الأمور حدثت في ساعة الغضب... وعندما ذهب عنه الغضب أخذ الألواح. قال سبحانه وتعالى:[]وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ[] سورة الأعراف (154). ولو ظل في غضبه ما أخذ الألواح، وربما ظلت على الأرض مطروحة يهان ما فيها من ذكر الله تعالى.

 

 

 

اقرأ أيضاً

الغضب .. أسبابه وعلاجه (1)  اضغط هنا

الغضب .. أسبابه وعلاجه (2)  اضغط هنا

الغضب .. أسبابه وعلاجه (4)  اضغط هنا

 

 

 

 

 

 

 التعليقات: 1

 مرات القراءة: 5440

 تاريخ النشر: 12/10/2010

2010-10-13

غسان

شكرا سيدي ...معلومات قيمة و مهمة.......... الله أعنا على تطبيقها آمين.

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 879

: - عدد زوار اليوم

7396251

: - عدد الزوار الكلي
[ 34 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan