::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> كلمة المشرف

 

 

مواعظ ورقائق...

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان (المشرف العام)  

 

 
 
مع النفحات التي تعرّض لها حجّاج بيت الله الحرام، ومع تلك الرحلة التي تذكّر الحاجّ بالرحلة الأخيرة له في حياته، الرحلة التي ستنقله من دار الفناء إلى دار البقاء، ليلقى وجه الله تعالى..
ما أحوجنا نحن الذين لم يكتب الله لهم الحج إلى بيته، ما أحوجنا أن نشاركهم هذا التّذكّر، ولكن ليس بمناسك نؤدّيها، إنما بقراءة كلمات رقيقة، ذات معانٍ عميقة، كتبها لنا المشرف العام فضيلة الشيخ "محمد خير الطرشان" (نسأل الله له ولباقي الحجاج حجاً مبروراً وعودة سالمة)..  علّنا نتّعظ بهذه التّذكرة، فتهفو أرواحنا إلى باريها، وترجع نفوسنا عن معاصيها، وتعلو هممنا لإعداد زاد في الآخرة يكفيها، لعلّ الله سبحانه وتعالى يُكْرمنا بعد ذلك بما أكرم به زوّار بيته، ويُرجعنا من ذنوبنا برضوانه كما ولدتنا أمّهاتنا...
تابعوا معنا هذه الرقائق.....
(هيئة التحرير)
 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما، وافتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين. اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علماً وفقهاً وإخلاصاً في الدين، واجعل ما نتعلمه حجة لنا، ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.
 
^ كلمات في الرقائق:
ما أحوجنا بين الحين والآخر إلى كلمات رقيقة ترق بها قلوبنا، وتدمع عيوننا ويُذهِب الله بها قسوة قلوبنا، لاسيما ونحن نعيش الآن عصراً طغت فيه الماديات والشهوات، وانحرف فيه كثير من الناس عن عبادة رب الأرض والسماوات، فقَسَتْ فيه القلوب، وتراكمت فيه الذنوب على الذنوب، وقل فيه الخوف من علام الغيوب.. ما أحوجنا في مثل هذا الزمن الذي طغت فيه فتن الشهوات والشبهات، إلى كلمات تذكّرنا بالآخرة، في زمن قل فيه من يتذكر الآخرة، وأن نُقبل على الله سبحانه وتعالى.. ما أحوجنا إلى موعظة تخشع منها قلوبنا، وتذرف منها دموعنا.. ما أحوجنا في هذه الأيام إلى أن نعيش حياة الزاهدين والصالحين والعارفين الذين ضحكوا على الدنيا ولم تضحك عليهم، وخاصةً أننا بين اليوم والآخر نرى من يودّعنا ويغادر دنيانا، ووتتمثل أمامنا آيةٌ قرآنية عظيمة يقول فيها ربنا سبحانه وتعالى:[]كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27)[] سورة الرحمن.
إنها الحقيقة التي تصبغ الحياة البشرية كلها بصبغة الذل والعبودية لقهار السماوات والأرض، إنها الحقيقة التي تعلن على مدى الزمان والمكان، في أذن كل سامع، وعقل كل مفكر، وخيال كل شاعر، أنه لا بقاء ولا خلود إلا للحي الذي لا يموت، إنها الحقيقة التي ينبغي أن نحيا وأن نموت عليها، ولو كان أحدٌ يستحق الخلود في هذه الحياة لاختار الله سبحانه وتعالى الخلود لسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أحبِّ الخلق إليه، إنها الحقيقة التي تسربل بها - طوعاً أو كرهاً - العصاة والطائعون، وشرب كأسها الأنبياء والمرسلون.
كلُّ بـاكٍ فسـيُبكى     كلُّ نـاعٍ فَسَـيُنعى
كلُّ مَدخورٍ سـيفنى     كلُّ مَذكـورٍ سينُسى
ليس غيرَ الله  يبـقى     مَنْ علا  فاللهُ أعـلى
هي كلمات في الموعظة، والموعظة كانت من شأن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، يتخوّل بها الناس بين الحين والآخر خَشيةَ السآمة، وكانت مواعظه عليه الصلاة والسلام مختصرةً مؤثرة.
 
^ مواعظ قرآنية:
من أبرز المواعظ ما نقرؤه من آيات في القرآن الكريم مما يذكّرنا بآخرتنا. قال جل وعلا:[]وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ[] سورة ق (19). ليس حديثنا عن الموت، إنما حديثنا عن المواعظ التي تذكّر القلوب بالله سبحانه وتعالى، حديثنا عن المؤثرات التي تجعل القلب يخشع، والعينَ تدمع، ويرجع بسببها العبد إلى الله سبحانه وتعالى، ومِن أَجَلِّ وأعظم ما يذكّر الإنسان بالله سكرات الموت، فالحق سبحانه وتعالى عندما يقرر أن تأتي سكرات الموت لأحد العبيد يبرهن بذلك أن جُلَّ الناس يفرّون من الموت ويهربون منه، فعندما سأل الخليفة - وتُنسَب لهشام بن عبد الملك رحمه الله تعالى - رجلاً زاهداً من الصالحين يُقال له ابن دينار سأله: "ما بالنا نكره الموتَ ونحب الحياة؟". فقال: "لأنكم عمّرتم دنياكم وخرّبتم آخرتكم". هذا السؤال يعبّر عن واقع وحقيقة كل إنسان منا؛ فَجُلُّ الناس يكرهون الموت ويخافون ويفرون منه ويحيدون عنه. والحق أنك تموت والله حي لا يموت، والحق أنك ترى عند موتك ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب، والحق أن يكون قبرك روضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النيران، نسأل الله العفو والعافية. []...ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ[] سورة ق (19). أي ذلك ما كنت منه تهرب وتفرّ، تجري إلى من يرقيك، تحيد إلى الطبيب إذا جاءك المرض خوفاً من الموت، وتحيد إلى الطعام إذا أحسست بالجوع، وتحيد إلى الشراب إذا أحسست بالظمأ.
ثم ماذا أيها القوي! أيها الذكي العبقري! يا أيها الكبير! يا أيها الأمير! يا أيها الوزير! يا أيها الغني! يا أيها الفقير! ماذا تفعل إذا جاءت سكرة الموت؟ إلى أين تحيد؟؟
ولْنقرأْ أيها الإخوة تلك الأبيات التي صاغها أحد الشعراء على لسان شابِّ يحاور نفسه:
دَعْ عنكَ ما قدْ فاتَ في زمنِ الصِّبا    واذكرْ ذُنوبَكَ وابْكِها يا مُذنـبُ
لمْ يَنْسهُ المَلَـكَانِ حـينَ نسـيتَهُ      بـلْ أثْبَتَاه  وأنتَ لاهٍ تـلعـبُ
والروحُ منـكَ وديعةٌ أُودِعـتَها     ستردُّها بالرغمِ منـكَ وتُسـلَبُ
وغرورُ دنيـاكَ التي تَسعى لهـا      دارٌ حقـيقتُها مَتـاعٌ يَـذهـبُ
اللَّيلُ فاعـلمْ  والنَّهارُ كِلاهُـما     أنفاسُـنا  فيها  تُعَـدُّ وتُحسَبُ
 
أيها الإنسان! إنما أنت أيامٌ معدودة وأنفاسٌ محدودة...
وصدق ربي إذ يقول:[]كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30)[] سورة القيامة. وقيل من راقٍ: أي أين الطبيب؟ أين المداوي؟ ويُفتح سجلّك أيها اللاهي! ويفتح كتابك أيها الغافل عن لقاء ربك! أيها المشتغل بملاذّك وشهواتك ودنياك! وإذا به:[] فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32)[] سورة القيامة. تدبّر بعد أن أعرضت عن الصلاة والصدقة وعن الله تعالى، تدبّر قول الله تعالى:[]كَلَّا إِذَا بَلَغَتْ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27)[] سورة القيامة. قال ابن عباس رضي الله عنهما أي: من يُرقى بروحه من ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب؟ قال قتادة رحمه الله تعالى في قوله سبحانه:[]...مَنْ رَاقٍ (27)[] أي: من يُبذل له الرقية، من يبذل له الطب والعلاج، انظر إليه وهو على فراش الموت، وقد التفّ الأطباء من حوله وداروا، بل وحار الأطباء في أمره، وحاروا انظر إليه وهو من هو! صاحب المنصب، صاحب الجاه، صاحب السلطان، صاحب الأموال، صاحب الوزارة، صاحب المـُلك، شحب وجهه وتجعّد جلده وبردت أطرافه، وبدأ يشعر على فراش الموت بزمهرير قارس يزحف إلى أنامل يديه وقدميه،  يحاول جاهداً أن يحرك شفتيه بكلمة التوحيد، فيشعر أن الشفتين كالجبل لا يريد أن يتزحزح إلا لمن يَسَّرَ الله له النطقَ بـ "لا إله إلا الله، محمد رسول الله"، فإذا أفاق في لحظة من لحظات الصحوات بين السكرات والكربات، ووعى ما حوله، نظر إلى الأطباء تارة، وإلى أهله تارة، وقال لهم - وهو لا يستطيع الكلام - بلسان الحال لا بلسان المقال: يا أولادي! يا أحبابي! لا تتركوني وحدي، ولا تفردوني في لحدي، لا تتركوني! أنا أبوكم، أنا أخوكم، أنا حبيبكم، أنا... أنا الذي بنيت لكم القصور، أنا الذي عمرت لكم الدور، أنا الذي نَمَّيتُ لكم التجارة، أنا صاحب الأموال، أنا صاحب الجاه والسلطان، من منكم يقرضني ساعة من عمره؟ من منكم يعطيني يوماً من حياته؟ وهنا يعلو صوتُ الحق سبحانه وتعالى:[]فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (87)[] سورة الواقعة.
من يستطيع أن يزيد في عمره ساعة أو ساعتين؟ لا أحد:[]...إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ[] سورة يونس (49). إذاً حان الأجل المحدد الذي حدده الله جل وعلا، ولا يمكننا التلاعب في هذا الموعد، لا تقديماً ولا تأخيراً...
 
^ مواعظ نبويّة:
جاء في صحيح البخاري رحمه الله تعالى أن النبي r أوصى سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما وقال له:"كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". أيها الغريب! تذكر وصية رسول الله r:"كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل". صحيح البخاري. انظروا إلى هذا التشبيه الرائع، وإلى هذا البيان الموجز، فما أشدَّ فصاحة النبي صلى الله عليه وسلم عندما شبّه الإنسان في هذه الدنيا بالغريب الذي يسكن أرضاً ليست أرضَه، أو ينزل داراً ليست داره، أو يَحُلُّ ببلد ليست بلدَه، فمهما سكن في تلك الدار وأقام في ذلك القطر فإنه سيعود إلى موطنه الأصلي، إلى داره التي وُلِدَ ونشأ فيها. كذلك أنت أيها الإنسان! أنت غريب وعابر سبيل في هذه الدنيا، وسَتُرَدُّ إلى آخرتك حيث هي دار القرار.
 
^ مواعظ أخرى:
الخليفة هارون الرشيد رحمه الله تعالى؛ ذلك الرجل العظيم الذي كان يخاطب السحابة في كبد السماء ويقول لها: "أيتها السحابة! في أي مكان شئت فأمطري، فسوف يحمل إلينا خراجك، إن شاء الله تعالى". كان يقول ذلك وهو يشعر أنه ملك الدنيا شرقاً وغرباً، ويملك أطراف الأرض، ولما نام على فراش الموت بكى وقال: "ما أغنى عني ماليه، هلك عنى سلطانيه!". ثم قال لمن حوله: "أريد أن أرى قبري الذي سأدفن فيه". فحملوه إلى القبر فنظر إليه، ثم بكى ورفع رأسه إلى السماء وقال: "يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه، يا من لا يزول ملكه! ارحم من قد زال ملكه". هاهنا أدرك هارون الرشيد رحمه الله تعالى أن الملك والمال لا يدومان، وأن العز والجاه والسلطان لا ينفع في سكرات الموت، ولا ينفع إلا عمل صالح قدّمه الإنسان المؤمن لمثل هذه اللحظات، لذلك يقول أهل الله: "لمثل هذه اللحظات فلْيعملِ العاملون".
كان سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك". وفي رواية: "وعُدَّ نفسَكَ من الموتى".
أيها اللبيب!
إنَّ للهِ عـبـاداً  فــطَنـَا     طَلَّقوا الدُّنيا، وخافوا الفِـتَنَا
نظـروا فيها ولمـّا علـموا     أنّـها ليسـتْ لِحَيٍّ  وَطَـنا
جعـلوها لُجَّـةً واتَّخـذوا     صَالحَ الأعمـالِ فيها سُـفُنَا
 
^ البعث بعد الموت حقٌّ مُثْبَتٌ في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة:
الدنيا دار صدق لمن صدق فيها، ودار نجاة لمن أعرض عنها، ودار غنى لمن تزوّد منها، فهي مصلى الأنبياء، ومتجر الأولياء، ربحوا فيها الرحمة، واكتسبوا فيها الجنة، ولقد علم أولئك الصالحون أن بعدَ الموت بعثٌ، فعملوا لما بعد البعث. يقول الله سبحانه وتعالى:[]زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن لَّن يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ[] سورة التغابن (7).
سمعتُ من شيخنا الراحل (الشيخ أديب الكلاس رحمه الله تعالى) عندما تحدّث عن هذه الآية وقوله سبحانه وتعالى:[]...قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ...[] سورة التغابن (7). قال الشيخ الكلاس: قديماً ربما يصعب على الناس فهم عملية البعث والنشور، فلما تطورت الحياة، وأصبح هناك آلات تصوير وأشرطة فيديو وأقراص ليزرية... وأصبحنا نصوّر مناسبة ما، ثم تعود فتعرض هذا التسجيل، فإنك تعود بذلك سنوات، وترى كيف صُوِّرت هذه المناسبة بدقائقها وتفاصيلها الدقيقة.. كذلك حياة الإنسان عندما تُعرض أمام الله سبحانه وتعالى هي تماماً كهذا الشريط الذي تراه أمام عينيك، فلا يخفى على الله صغيرة ولا كبيرة، وإنّ عرضها من الله سبحانه وتعالى أسهل بكثير من عرض هذا الشريط الذي يصوّره المصوّر ويستعرضه المستعرض. إذاً بعد الموت هناك حياة بزخية لا يعلم حقيقتها إلا رب البرية، ولا ينبغي أن تُعْمِلَ عقلك في تصوّر هذه الحياة أو الحكم عليها؛ لأنها حياة لن تُدرك لا بالتجربة ولا بالمشاهدة، ولم يطّلع عليها مَلَكٌ مُقَرَّب ولا نبي مُرسَل. فالحياة البرزخية هي الحياة الفاصلة بين حياتنا الآن في الدنيا وبين الآخرة حيث الخلود المطلق فيها، إما في الجنة وإما في النار نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجيرنا منها.
قال الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: "إن الله تعالى خلق الدور الثلاثة: دار الدنيا ودار البرزخ، ودار القرار: وجعل الله الحياة في دار الدنيا تسري على الأبدان، والأرواحُ تَبَعٌ لها، وجعل الله الأحكام في دار البرزخ تسري على الأرواح، والأبدانُ تبعٌ لها، وجعل الأحكام في دار القرار تسري على الأرواح والأبدان معاً".
فسِرُّ المسألة في حياة البرزخ هو نور القبر أو ناره، وسعة القبر وضيقه، وإن النور والنار والسعة والضيق ليس من جنس نور الدنيا ونارها، ولا من جنس سعة وضيق الدنيا، ولا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى. ومثال على ذلك: قد ترى الرجلين في فراش واحد في حياتنا الدنيا يستيقظ أحدهما، وتبدو عليه معالم وآثار النعيم ويقول لك: لقد كنت مع النبي r الليلة الماضية، أو يقول: قد رأيتني الليلة الماضية في الجنة ورأيت كذا وكذا، تبدو عليه آثار النعيم. ويستيقظ الآخر في الفراش ذاته وعليه آثار العذاب والآلام ويقول: إنه والعياذ بالله قد عاين جهنم وغسّاقها وحميمها وصديدها وزقّومها، أو رأى كابوساً كاد يخنق أنفاسه. الرجلان في فراش واحد، لكن لا يشعر أحدهما بالآخر، فالأول في نعيم ويحدثك عن رؤيا صالحة وسعادة روح، والآخر في ضيق وآلام وشدة وعذاب. هذا في عالم الدنيا. فما يحدث في عالم البرزخ أعجب من كل ذلك بكثير، فكل ما دار ببالك، فحياة البرزخ بخلاف ذلك، لا يعلم حقيقتها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فالذين يعيشون هذه الحياة منهم من يُنَعَّم، ومنهم من يُنَكَّد عليه إلى قيام الساعة.
ونحن - معاشرَ المؤمنين - نَدين الله جل وعلا، ونؤمن بأن حياة البرزخ إما أن يحيا أصحابها في نعيم دائم إلى يوم القيامة، وإما أن يعيشوا في عذاب لا يعلم حدوده إلا الله، نسأل الله أن يجعلنا من أهل النعيم في الدنيا والآخرة.
وبعد حياة البرزخ بَعْثٌ ونشور، لا تستكثر الأمر على الله سبحانه وتعالى، فالله جل وعلا على كل شيء قدير، أمره جل وعلا بين الكاف والنون:[]إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ[] سورة يس (82).
روى البخاري ومسلم من حديث سيدنا أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي r قال: "كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضرته الوفاة قال لبنيه: يا أولادي إذا مت فحرقوني، حتى إذا صرت فحماً فاسحقوني، فإذا كان يوم ريح عاصف فاذروني".متفق عليه. وفي لفظ في الصحيح:"فأذروا نصفي في البر ونصفي في البحر، فإن قَدِر علىّ ربي لَيُعَذِّبنّي عذاباً ما عذبه أحداً من العالمين". قال رسول الله r:"فلما مات فعل به بنوه ذلك، فأمر الله البحر فجمع ما فيه، وأمر الله البر فجمع ما فيه، ثم قال الله له: كن. فإذا هو رجل قائم بين يديه جل وعلا، فقال له ربنا: ما حملك على ذلك؟ قال: مخافتك يا رب!". وفي لفظ:"خَشِيْتُك يا رب وأنت أعلم". قال النبي r:"فغفر الله له بذلك".مع أن هذا الأمر ليس من شرعنا وديننا، فالميت في شريعتنا يُدفَن في التراب، هكذا السنة، إنما هذا من عادات ما قبل الإسلام، وهي عادات لا تمتّ إلى الإسلام بِصِلة، لكن النبي صلى الله عليه وسلم كان يحدّث أصحابه عن بني إسرائيل، وقد قال العلماء: ما نحدّثه عن بني إسرائيل هو من الروايات الصحيحة والروايات التي لها أثرٌ وعبرةٌ وموعظة للإنسان المؤمن، أما تلك الصياغات التي تمتلئ خرافاتٍ وأساطير فلا داعيَ لأنْ نذكرها، وأما ما جاء في صحيح البخاري ومسلم من كتب الصحاح والستة فلا بأس بروايته والإفادة منه، والاتّعاظ والاعتبار بما جاء عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدّثنا به عن بني إسرائيل.
الله جل وعلا قادر على أن يبعثك بعد الموت، لأنه خلقك ولم تك شيئا، هو الذي أوجدك من العدم المحض، فالإنسان أصله عدم محض، ثم كوّنه الله سبحانه وتعالى، ونفخ فيه من روحه فكان إنساناً، والمسألة في إرادة وقدرة ربنا سبحانه وتعالى لا تحتاج إلا إلى حرفين اثنين فقط: الكاف والنون، ((كُنْ)) فيكون الخلق كله ويكون الكون كله بهذا الأمر الإلهي جليلِ القَدْر.
روى البخاري وغيره من حديث سيدنا أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي r قال: "قال الله تعالى في الحديث القدسي: ((كذّبني ابن آدم ولم يكن له ذلك، وشتمني ابن آدم ولم يكن له ذلك، أما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني. وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته، أما شتمه إياي فقوله: اتخذ الله ولدا. وأنا الأحد الصمد الذي لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد))".صحيح البخاري. الله سبحانه وتعالى يحدّثنا في هذا الحديث القدسي عن جملة من إرادته وقدرته على البعث بعد الحياة البرزخية، وقدرته على النشور، وأن العبد سيقف بين يديه سبحانه وتعالى ويُسأَل عن الصغيرة والكبيرة.
وقد ضرب الله لنا بعض الأمثلة في القرآن الكريم على البعث بعد الموت، وقد ورد في السيرة أن العاصي العاص بن وائل الذي جاء بعظام بالية، يفتتها يوماً بين يديه أمام رسول الله r وهو يقول: "يا محمد! أتزعم أن ربك يحي هذه بعد ما صارت رميماً؟!". فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "نعم. يميتك، ثم يبعثك، ثم يدخلك جهنم". فنزل قول الله عز وجل:[]أَوَلَمْ يَرَ الْإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79)[] سورة يس.
فبعد البرزخ بعث، وآه من البعث ومشهده! ما أعظمَه وأَجَلَّ شأنه!! فبعد البعث حشرٌ إلى أرض ستقف عليها لتُحاسَبَ بين يدي الحق جل وعلا.
تدبّر قول الصادق سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحيٌ يوحى. وذلك في صحيح الإمام مسلم من حديث سيدنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يُبْعَثُ كلُّ عبد على ما مات عليه".صحيح مسلم. فمن مات حاجّاً يُبعَثُ ملبّياً، ومن مات ساجداً يُبْعَثُ ذاكراً لله تعالى، ومن مات على طاعة يُبعث يومَ القيامة على الطاعة ذاتها، أمّا من مات على معصية - والعياذ بالله تعالى - فإنه يُبعث يوم القيامة على المعصية التي مات عليها. كم وكم نسمع أن فلاناً غصّ وهو يشرب الخمر فمات! وكم نسمع أن فلاناً مات وهو في حالة ارتكاب الفاحشة والعياذ بالله تعالى! من يضمن نفسه إذا كان الأجل ليس معلوماً؟! إذاً يبعث كل عبد على ما مات عليه، فمنهم من يبعث والنور يشرق من وجهه، ومن يمينه ومن بين يديه، اللهم اجعلنا من أهل الأنوار، ومنهم من يبعث والظلمات تغلّفه وتحيط به من كل جانب:[]يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ[] سورة التحريم (8).
قال ابن مسعود والأثر رواه الإمام أحمد في مسنده وابن جرير وابن أبي حاتم والبيهقي وابن مردويه وغيرهم:"منهم من يكون نوره كالجبل، ومنهم من يكون نوره كالنخلة، ومنهم من يكون نوره كالرجل القائم، ومنهم من يكون نوره على إبهامه؛ يوقَدُ مرةً ويُطفَأُ مرة، ومنهم من تحيط به الظلمة من كل ناحية".
^ دعاء:
اللهم! إنا نسألك العفو والعافية. اللهم! اجعلنا من أصحاب النور ممّن تنوّر قلوبهم وعقولهم وقبورهم. اللهم! نَوِّرْ أفئدتنا وعقولنا وقبورنا بنور الإيمان والعمل الصالح، واجعلنا ممن يلقاك وأنت راضٍ عنه. اللهم! أَحْسِنْ خاتمتنا، واجعل حياتَنا حياةَ السعداء، ومِيتَتَنا مِيتةَ الشهداء، واجعل مَرَدَّنا إليك غيرَ مُخْزٍ ولا فاضح. يا أرحم الراحمين! ويا أكرم الأكرمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلّم، والحمد لله رب العالمين.
 
 
يمكنكم الاستماع إلى هذه المقالة صوتياً بالضغط هنا
 
 
 
 
 
 

 

 التعليقات: 1

 مرات القراءة: 4801

 تاريخ النشر: 19/11/2010

2010-11-22

زينا

جزاكم الله خيراً على هذه المواعظ الحكيمة.

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 381

: - عدد زوار اليوم

7399963

: - عدد الزوار الكلي
[ 54 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan