::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مقالات متنوعة

 

 

تصريح بلفور.. شؤم إلى زوال!!!

بقلم : ملكة قطيمان  

 

 93 سنة مرّت على صفحة حملت في طيّاتها سطوراً قليلة كانت بداية مأساة إنسانيّة وجريمة تاريخيّة دنيئة عانى منها البشر والحجر، ولا تزال مستمرّة...
بدأ كلماته بألفاظ الودّ والحبّ، وتتالت جُملُه والسّعادة تغمره، والعطف يفيض من بين جنبيه في سبيل تحقيق أماني من يحبّ، حتّى من يكرههم لم ينسَ أن ينوّه لحقوقهم! وما ذلك إلا لأنّه في لحظات سعادة مصطنعة وعطفٍ زائف!!
في نهاية خطابه يجد نفسه مديناً بالعرفان لمجرّد الإبلاغ بتصريحه، فلا نعجب في ختام كلامه أنّه قال ذلك كلّه لأنّه... مخلص!!!
ولنقرأ معاً مفردات تصريحه؛ لنرسم صورة متخيّلة لهذا الرّجل.. المخلص:
"عزيزي اللورد روتشيلد..
يسعدني كثيراً أن أنهي إليكم نيابةً عن حكومة جلالة الملك التّصريح التّالي؛ تعاطفاً مع أماني اليهود الصّهيونيين التي قدّموها، ووافق عليها مجلس الوزراء:
إنّ حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قوميٍّ للشّعب اليهوديّ في فلسطين، وسوف تبذل ما في وسعها لتيسّر تحقيق هذا الهدف.
وليكن مفهوماً بجلاء أنّه لن يتمَّ شيء من شأنه الإخلال بالحقوق المدنيّة والدّينيّة للجماعات غير اليهوديّة المقيمة في فلسطين، أو بالحقوق والأوضاع القانونيّة التي يتمتّع بها اليهود في أيّة دولةٍ أخرى.
إنّي أكون مديناً لكم بالعرفان لو قمتم بإبلاغ هذا التّصريح إلى الاتّحاد الصّهيونيّ.
                                            المخلص
                                           آرثر بلفور"
شهد تاريخ الإنسانيّة عهوداً واتفاقيّاتٍ ووثائقَ، منها ما حمل الخير لأصحابها، وأخرى أدمتِ القلوب والعيون؛ كتصريح بلفور بوعده لليهود بإقامة وطن قوميٍّ لهم على أرض فلسطين، فغدت هذه الكلمات القليلة نقطةً سوداءَ بشعة في تاريخ من يدّعي الحضارة والرّقي الإنسانيّ وستبقى كذلك..
أرادوها قطعة حلوى تُقسم كما يرغبون، وتُوزّع كما يحبّون؛ خدمةً لمصالحهم وأهدافهم الاستعماريّة، فكانت فلسطين هبة لفئة جُمعت من الشّتات بدعوى باطلة، بعد انتقال الحركة الصّهيونيّة من المرحلة النّظريّة إلى العمليّة، تمثّل ذلك بسعيّ الصّهاينة الحثيث للحصول على تعهّد من إحدى الدّول الكبرى بإقامة وطن قوميٍّ لليهود. وهذا ما سعى إليه قادة الفكر الصّهيونيّ منذ سنوات، تدلّ على ذلك تحرّكاتُهم في المدّة التي سبقت صدور الوعد المؤكّدةُ على تبنّي إحدى الدّول الكبرى لمطامع الصّهاينة؛ ليكون اللبنة الأولى والأهمّ في تأسيس الكيان الصّهيونيّ.
لنرجع قليلاً إلى سنوات خلتْ، تحديداً إلى عام 1897م في المؤتمر الصّهيونيّ الأوّل المنعقد في (سويسرا) الذي شهد وضع البرنامج الصّهيونيّ المؤلّف من ثلاث نقاط رئيسيّة:
1- تشجيع الهجرة المنظّمة الواسعة إلى فلسطين.
2- نيل اعتراف دوليٍّ بشرعيّة هذا التّوطّن في فلسطين.
3- إنشاء منظّمة دائمة لضمّ صفوف يهود العالم أجمع وراء الحركة الصّهيونيّة.
أُسسٌ مهمّة لتحقيق الهدف، لكنّ أكثرها أهميّة وإلحاحاً في تلك الفترة كانتِ النّقطة الثّانية؛ لذلك لجأ (تيودور هرتزل) أوّل رئيس للمنظّمة الصّهيونيّة عام 1898 إلى (غليوم) الثّاني إمبراطور ألمانيا، وعرض عليه المشروع الذي رفضه (غليوم) رفضاً تامّاً؛ لأنّه تدخّلٌ في شؤون الدّولة العثمانيّة من جهة، وإثارةٌ للدّول الكبرى "فرنسا وروسيا وإنكلترا" المتربّصة بالدّولة العثمانيّة من جهة أخرى.
بعد خيبة (هرتزل) في ألمانيا قصد عام 1901 الباب العالي لعرض مشروع استثمار الأراضي في فلسطين من قِبَل اليهود، وبذلك يسهمون في تنظيم خزينة المال العثمانيّة المربكة والضّعيفة، لكنّ مشروعه رُفض أيضاً.
وجهة (هرتزل) الثّالثة كانت إنكلترا عام 1902، حيث وجد تربة خصبة لإنبات زرعه الفاسد. يقول (وايزمن) في مذكّراته: "وفي المؤتمر الصّهيونيّ السّادس الذي عُقد في بال في سويسرا وقف (هرتزل) يعلن لممثّلي يهود العالم أنّ بريطانيا ـ وبريطانيا وحدَها بين دول الأرض ـ كانت هي الوحيدة التي اعترفت باليهود أمّة قائمة بنفسها، وأنّ اليهود جديرون بأن يكون لهم وطن ومملكة".
ثمّ قرأ (هرتزل) رسالة (اللورد لاندسون) باسم حكومة جلالته، وفي تلك الرّسالة قدّمت حكومة جلالته أراضي أوغندا لتحقيق المشروع... وبالرّغم من فوز مشروع أوغندا بأكثرية الأصوات في المؤتمر، إلّا أنّنا نحن يهود روسيا قضينا عليه في المهد، وألغيناه دون ضجّة).
لم يهنأ عيش بريطانيا إلا بإسعاد اليهود وتحقيق رغباتهم؛ لذلك عرضت عليهم أراضي سيناء، إلّا أنّ البعثة اليهوديّة التي سافرت إلى هناك لم تلقَ في سيناءَ ما يفي بحاجات الوطن اليهوديّ المزعوم، فرُفض العرض.
 
إذن.. فلسطين ولا مكان سوى فلسطين؛ هدف قديم لدى الحكومة البريطانيّة، فكّرت في طريقة لتنفيذه، وخطّطت له حتّى قبل ميلاد (هرتزل وبلفور) بسنين، لذلك كانت بريطانيا أوّل من التفتَ إلى فكرة تهجير اليهود إلى هذه البقعة من الأرض؛ فإذا كانتِ المنطقة العربيّة هي الممرّ الطبيعيّ والجسر الواصل بين القارّات الثّلاث: أوربّة وآسيا وإفريقيّة، فإنّ فلسطينَ هي مفتاح منطقة الشّرق العربيّ كلّه؛ لذلك سُمّيت في التّاريخ القديم (بوّابة العالم)؛ لذا كان لا بدّ من التّمركز في هذه النّقطة؛ للتّحكم بمصائر المنطقة كلّها.
كانت بريطانيا تخشى أن يؤدّي الوعي العربيّ إلى ضرورة توحيد الأقاليم العربيّة إلى إقفال الممرّين الكبيرين في وجهها؛ وهما برزخ السّويس ووادي الفرات اللذان يربطانها بالهند؛ لذلك خطّطت لاحتلال مصر وإنشاء دولة يهوديّة في فلسطين تأتمر بأمر صانعيها.
كانت فرنسا وروسيا سبقتا بريطانيا إلى ترسيخ نفوذهما الدّينيّ والثّقافيّ في المنطقة العربيّة عن طريق المعاهد الدّينيّة والثّقافيّة وبسط الحماية على الطّوائف المسيحيّة، فلمّا أرادت بريطانيا زرع نقطة ارتكاز لها في المنطقة لم تجد إلّا اليهود الذين بسطت حمايتها عليهم؛ فافتتحت عام 1838 قنصليّة لها في القدس، وأصدر (بلمرستون) وزير الخارجيّة آنذاك أمره إلى هذه القنصليّة بوضع اليهود تحت حمايتها ورايتها. إضافةً إلى القنصليّة أنشأت أيضاً أوّل أسقفية لها في القدس عام 1841، وعيّنت (ميكل سلومون ألكسندر) اليهوديّ المتنصّر أوّل أسقف لها، ومنذ ذلك الوقت اشتدّت الدّعاية في بريطانيا بضرورة إقامة دولة يهوديّة في فلسطينَ تكون معقلاً لبريطانيا، تحمي بها مواصلاتها مع الهند وسائر الأقطار الشّرقيّة.
وتتلاحق الأحداث والتّطوّرات؛ ففي عام 1907 اتّجهت بريطانيا إلى فكرة تشكيل حلف ودّيٍّ يضمّها وفرنسا وبلجيكا وهولندا والبرتغال وإسبانيا؛ لصياغة نوع من التّعاون بين دول أوربّة الاستعماريّة بقطع الطّريق على أيّة حركة وطنيّة تفكّر في الاستفادة من التّنافس القائم يومئذ بين دول الاستعمار، واقتنعت الدّول المذكورة بضرورة تشكيل هذا الحلف، وعكفت لجنة من خبرائها في جميع الاختصاصات العلميّة والفكريّة على دراسة الأخطار الّتي تهدّد دول أوربّة الاستعمارية، ووضعت تقريراً عُرف بتقرير (كامبل بنرمان) رئيس الوزراء البريطانيّ آنذاك، جاء في بعض فقراته: "إنّ الخطر الذي يهدّد كيان الاستعمار يكمن في حوض البحر الأبيض المتوسّط بين الشّرق والغرب وشريان حياة أوربّة، حيث الطّريق إلى الهند والإمبراطوريات الاستعماريّة.. في هذه البقعة الشّاسعة الحسّاسة (المنطقة العربيّة) يعيش شعب واحد تتوفّر له كلّ مقوّمات التّجمّع والتّرابط والاتّحاد.. فكيف يكون وضع هذه المنطقة إذا توحّدت فعلاً آمال شعبها وأهدافه؟!.. وإذا اتّجهت القوّة كلّها في اتّجاه واحد؟؟ ماذا لو دخلتِ الوسائل الفنّيّة الحديثة ومكتسبات الثّورة الصّناعيّة إلى هذه المنطقة؟؟ ماذا سيكون إذا تحرّرت المنطقة واستُغلّت ثرواتُها الطّبيعيّة من قبل أهلها؟!... عند ذلك ستحلّ الضّربة القاضية حتماً بالإمبراطوريات الاستعماريّة...".
وللتعجيل بتنفيذ المقترحات أوصى التّقرير: "بالعمل على فصل الجزء الإفريقيّ من هذه المنطقة عن جزئها الآسيويّ؛ بإقامة حاجز بشريٍّ قوّيٍّ وغريب على الجسر البرّيّ الذي يربط آسيا بإفريقية؛ ليشكّل في هذه المنطقة وعلى مقربة من قناة السّويس قوّةً صديقةً للاستعمار غريبة عن المنطقة وعدوّة لسكّانها".
إذن لم يكن تصريح (بلفور) أوّل ما خطّته يدُ الاستعمار ولن يكون الأخير؛ بل هي سلسلة تقارير واجتماعات في مراحلَ وخطوات متتابعة كان لا بدّ منها للوصول إلى تصريح (بلفور) الذي حرصت وزارة الخارجيّة البريطانيّة على اقتضاب فقراته وتحاشي التّفاصيل والاعتماد على العبارات المطّاطة، واستدعى ذلك تنقيح الوثيقة واختصارها عدّة مرّات، استغرقت هذه المرحلة أربعة أشهر للوصول إلى الصّيغة النّهائيّة. وممّا يذكر أنّ المسودة الصّهيونيّة (تمّوز 1917م) كانت تنصّ على: "إعادة تكوين فلسطين لتصبحَ الوطن القوميّ للشّعب اليهوديّ"، على أن تبحث الحكومة البريطانيّة مع المنظّمة الصّهيونيّة سبل تحقيق ذلك، ولكنّ أحد المتحمّسين للوعد عدّل النّصّ في (آب 1917)، وأعطاه صيغة: "إقامة وطن للشّعب اليهوديّ في فلسطين". وفي تشرين الأوّل كُتبت مسودة ثالثة تضمّنتِ الإشارة إلى الفئات غير اليهوديّة وحقوق اليهود ومكانتهم السّياسيّة في الدّول الأخرى، ممّن يشعرون كليّاً بالرّضا بجنسيّتهم ومواطنتهم الحالية. وكُتبتِ الصّيغة النّهائيّة في 31/10، وأُعلن التّصريح في ساعة شؤم في الثّاني من تشرين الثّاني، ودخلت بريطانيا فلسطين في 9 كانون الأوّل من العام نفسه!
 
وبذلك أعلنت بريطانيا للعالم ولادة كيان استشرى شرّه في البلاد واستطار، لكنّها لا تدرك أنَّ مولودها ميت أصلاً؛ فمن يهب ما لا يملك لمن لا يملك فهبتُه باطلةٌ، وسيركبُ أحباب (بلفور) المخلص وأعزّاؤه السّفينة ذاتَها التي أتتْ بهم من الشّتات، وستعود فلسطين لأهلها لأنّهم أصحاب الأرض.
اليوم سنكتب بأقلام الحقّ شهادة وفاة لتصريح (بلفور)، وسنخطّ ببنادق العزِّ شهادة ميلاد يوم التّحرير.
لكن سؤالي لمن قرأ مقالي: اعتذرت ألمانيا من اليهود عن محرقة (الهولوكوست) المزعومة وعوّضتهم بأموال طائلة، فهل ستعتذر بريطانيا وحلفاؤها من الشّعب الفلسطينيّ عن محارقَ يندى لها جبين الإنسانيّة؟!!
سؤال ستبقى إجابته في ذمّة التّاريخ..
 
 

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 4932

 تاريخ النشر: 08/12/2010

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 809

: - عدد زوار اليوم

7447395

: - عدد الزوار الكلي
[ 51 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan