::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> محاضرات وندوات

 

 

على طريق الهجرة...

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان (المشرف العام)  

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين، وأصحابه الغرّ الميامين، وسلّم تسليماً كثيرا. اللهم افتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نقوله حجة لنا، ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

^ معجزات أيّد الله تعالى بها نبيه عليه الصلاة والسلام في طريق الهجرة:

        في طريق الهجرة إلى المدينة المنورة حدث مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم معجزات وخوارق للعادة كانت من جملة ما أيّد به ربنا سبحانه وتعالى النبي الكريم عليه الصلاة والسلام حتى تزداد همته، وتظل عزيمته في مضاء ونجاح.

أ- قصة شاة أم مَعْبَد:

        أول هذه المعجزات والخوارق للعادات التي حصلت مع النبي صلى الله عليه وسلم بعد أن غادر غار ثور واتجه باتجاه المدينة المنورة، وقد أصابه وصاحبَه (سيدَنا أبا بكر رضي الله تعالى عنه)، ومولى سيدنا أبي بكر (عامر بن فهيرة)، والدليل الخبير بالطرق (عبد الله بن أُريقط)، أصابهم من الجوع والعطش ما أصابهم.

        ففي طريق الهجرة وجدوا خيمة وفيها امرأة كبيرة بالسن، كهلة، عجوزاً، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم عندها. هذه القصة تعكس لنا جانباً من جوانب التأييد الربّاني لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث طلب منها عليه الصلاة والسلام وأصحابه ماء أو لحماً أو تمراً ليشتروه منها بثمنه، فلم يجدوا عندها شيئاً، وكان القوم في حالة من الجَهد والتعب والجوع ما يدعوهم إلى طلب الزاد، وعندما لم يجدوا شيئاً نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى جانب الخيمة فوجد شاة يبدو عليها الهزال، فقال النبي صلى الله عليه وسلم للمرأة: "ما هذه الشاة يا أم معبد؟". فقالت: لقد خلّفها الجهد عن الغنم. فقال لها عليه الصلاة والسلام: "فهل بها من لبن؟". فقالت: هي أجهد من ذلك!! فقال صلى الله عليه وسلم: "أتأذنين أن أحلبها؟". فقالت: بلى بأبي أنت وأمي احلبها إن شئت.. فدعا بها النبي صلى الله عليه وسلم وأمُّ معبد توقن أنه ليس بها قطرة حليب واحدة؛ لأنها لا تأكل، ولا ترعى الكلأ، ولا تشرب إلا القليل..

        فدعا بها النبي صلى الله عليه وسلم، ومسح بيديه الشريفتين ضرعها، وسمى باسم الله ودعا لها بالبركة، فتفاجَّتْ عليه (هيأت نفسها للحلب)، ودرَّت باللبن واجترت (أي أرسلت اللبن وأخرجته من ضرعها)، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بإناء يكفي الرهط (قوم لا يقلون عن 9 أشخاص)، فحلب فيها النبي صلى الله عليه وسلم لبناً ثجّاً (سائلاً) حتى ملأ الإناء، ثم سقى أم معبد حتى رويت، ثم سقى أصحابه حتى رووا، وشرب النبي صلى الله عليه وسلم آخرهم وقال: "ساقي القوم آخرهم شرباً". (يعلّمنا عليه الصلاة والسلام أنك إذا أردت أن تسقي ضيوفك فابدأ بهم ثم اشرب أنت وكن آخر القوم). ثم حلب صلى الله عليه وسلم في الإناء ثانياً بعد أن سقى الجميع حتى ملأه وأعطاه لأم معبد، ثم تركها ومشى، ومشى معه قومه..

        في هذه الأثناء لم يكن أبو معبد موجوداً في الخيمة، كان قد ذهب يسوق عَنْزاً له عجافاً يرعاها ويطعمها؛ لأن ذلك الوقت كان عامَ مجاعة، وغالبُ البهائم والدواب والماشية كانت تعاني من الهزال. فعاد أبو معبد ليدخل على خيمته وامرأته ويجد عندها أمراً عجباً، إناءً ممتلئاً باللبن. فقال لها: يا أم معبد! من أين لكَ هذا اللبن والشاة لا تحلب، وليس عندنا حَلوبٌ في البيت؟! فقالت: يا أبا معبد! والله لقد مر بنا رجل مبارك، من حاله كذا وكذا وكذا. وقصّت عليه القصة... فقال لها: صفيه لي يا أم معبد! فبدأت أم معبد تصف النبي صلى الله عليه وسلم، تلك المرأة الأعرابية البدوية التي شبعت من الفصاحة وحسن البيان كما شبعت من لبن تلك الشاة، لقد وصفتْه عليه الصلاة والسلام وصفاً دقيقاً يعجز عنه أدباء هذا العصر. قالت: ((رأيت رجلاً ظاهرَ الوضاءة، أبلج الوجه، حسن الخَلْق، لم تَعِبْه نُحلة (أي لا يبدو عليه أثر الهزال)، ولم تُزْرِ به صُلعة (الصلعة صغر الرأس). وسيم، قَسيم، في عينيه دَعج (شدة سواد العين في شدة البياض)، وفي أشفاره وَطَفٌ (شعر الجفنين فيه طول)، وفي صوته صَهَل (بحّة يسيرة تزيد صوته جمالاً)، وفي عنقه سطع (طول)، وفي لحيته كثافة، أَزَج (شعر حاجبيه دقيق وطويل) أقرن (متّصل ما بين الحاجبين)، إن صمت فعليه الوقار، وإن تكلم سما وعلاه البهاء، أجمل الناس، وأبهاهم من بعيد، وأحلاهم وأحسنهم من قريب، حلو المنطق، فصل (كلامه قَطع لا تردّدَ فيه)، لا هذر (الهذر من الكلام هو الكثير الذي لا فائدة منه. وكلامه عليه الصلاة والسلام كان من جوامع الكلم، وجوامع الكلم هي الكلام القليل ذو المعنى الكثير، كقوله عليه الصلاة والسلام: لا ضرر ولا ضرار، وقد قال بعض العلماء: إن كلام النبي صلى الله عليه وسلم المختصر هو ثلث الإسلام. حيث تندرج تحته معانٍ كثيرة بيّنها المحلّلون والمفسرون) ولا نزر (النزر من الكلام هو القليل الذي لا فائدة منه)، كأن منطقه خرزات نظم ينحدرن، رَبْع لا بأس من طول، ولا تقتحمه عين من قصر (أي لا تزدريه)، غُصْنٌ بين غصنين فهو أنظر الثلاثة منظراً وأحسنهم قَدْرا. له رفقاء يحفّون به (أي يحيطون به)، إن قال أنصتوا لقوله، وإن أمر تبادروا إلى أمره محفود (أي مخدوم) محشود (أي يجتمع الناس حوله في حشد عظيم في مجالسه) لا عابس (أي لا يقطّب بوجهه) ولا مُفَنَّد (أي لا يُنسَب كلامه إلى الكذب أو الجهل في القول، بل كان كلامه صلى الله عليه وسلم عن علم ودقّة ومعرفة))).

        ثم قال أبو معبد: هو والله صاحب قريش الذي ذُكر لنا من أمره ما ذُكر بمكة، ولقد هممتُ أن أصحبَه، ولأفعلنَّ إن وجدت إلى ذلك سبيلا.

        لم يستطع أن يصف النبيَّ صلى الله عليه وسلم وصفاً دقيقاً إلا قلّة قليلة من أصحابه، بل من صغار الصحابة، منهم سيدنا علي رضي الله تعالى عنه لأنه أدرك النبي صلى الله عليه وسلم من فتوّته، ومنهم هالة بن أبي هالة، كان طفلاً صغيراً وكان يُجيل (يديم) النظر في وجه النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك أجاد الوصف. ومنهم أم معبد؛ لأنها لم تكن تعرف أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما كبار الصحابة رضي الله عنهم ما كان أحدٌ منهم يستطيع النظر في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أدباً معه عليه الصلاة والسلام، وما ورد من سلوكهم أنهم كانوا كأنما على رؤوسهم الطير.

        وإذا تأملتم في كلام أم معبد تأملاً دقيقاً، وقرأتم شرّاح السيرة النبوية لهذا الوصف فستجدون أن كلام أم معبد كأنما هو كلام واحد من الفصحاء أو الشعراء، لا يقلّ مكانةً عنهم أبداً، وهذا يدل على فصاحة أهل البادية، لذلك كان العرب حينما يأتيهم مولود يرسلون به إلى البادية يُسْتَرْضَعُ عند أهلها؛ لأنهم أصفى ذهناً وأفصح لساناً، وهذا ما حصل مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحينما ولدته أمه أرسل جدُّه عبد المطلب يأتي بالمرضعات من البادية حتى ينالَه صلى الله عليه وسلم من صفاء الطبع وقوة الذاكرة وحدّة الذهن ما ينال أبناءَ البادية الذين يتمتعون بهذه الصفات.

ب- قصة سُرَاقة بن مالك:

        كان سراقة يطارد النبي صلى الله عليه وسلم، ذلك أن قريش أعلنت عن جائزة قدرها 100 ناقة من كرائم نوق العرب لمن يأتي بمحمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه أحياء أو أمواتاً..

        سمع سُراقة هذا الأمر، وكان قد جاء أحد المسافرين من طريق الساحل فقال له: "والله لقد رأيت آنفاً أسودةً (جمع سواد، أي كأنه رأى إنساناً) بالساحل أراها محمداً وأصحابه". فقال سراقة: "فعرفت أنهم هم، فقلت لمن حولي: إنهم ليسوا بهم.. إنهم فلان وفلان وفلان.. فلبثت في المجلس ساعة ثم انطلقت إلى بيتي، وأخذت رمحي، وهيّأت فرسي وخرجت من وراء البيت حتى لحقت محمداً وصاحبه".

        قبل أن يمشي سراقة استقسم بالأزلام. (والأزلام هي أقداح على شكل رماح، مكتوب على أحد طرفيها: افعل وعلى الطرف الآخر: لا تفعل) فضربها أول مرة فجاءت بما يكره، فاستقسم بها ثانية فجاءت بما يكره، قال: "فخالفت القسم والأزلام، وتبعت محمداً وصاحبه، وما أنا إلا على مسافة قريبة منهما حتى سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق، وأبو بكر يكثر الالتفات على الوراء، في هذه الأثناء ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغت الركبتين، فخررت عنها، ثم زجرتها فنهضت، فلم تكد تخرج يديها حتى استوت قائمة وإذا بي أرى دخاناً في السماء ساطعاً من أقدامها، فتيقنت أن الاستقسام بالأزلام في محله، لكنني خالفته من جديد، فتتبعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه إلى أن غاصت قدماها من جديد، فناديت رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه: الأمانَ يا محمد! الأمانَ يا محمد!!".

        لاحظوا أيها الإخوة! المطارِد (سراقة بن مالك) يستغيث بالمطارَد (سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم) ويطلب منه الأمان. فالتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال له: "كيف بك يا سراقة إذا لبست سواري كسرى؟". كانت هذه بشارة بإسلام سراقة وإكرام الله تعالى له بأن يلبس سواري كسرى لأنه أخفى الخبر عن أهل مكة وقريش. ثم قال سراقة: أتأمرني بشيء؟ قال: "خَذّلْ عنا". فعاد سراقة إلى مكة ولم يخبر أهلها بشيء.

        مضت الأيام، وجاء فتح مكة، وأسلم سراقة، وتوفّي النبي صلى الله عليه وسلم. وفي عهد سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه في إحدى الفتوحات جيءَ له بسواري كسرى ومنطقته وتاجه، فنادى سيدنا عمر رضي الله تعالى عنه: أين سراقة بن مالك؟ فجاء سراقة فألبسه السوارين، ثم قال له: ارفع يديك، فرفع سراقة يديه، فقال سيدنا عمر: "الله أكبر! الحمد لله الذي سلبهما كسرى بن هرمز الذي كان يقول أنا رب الناس، وألبسهما سراقة بن مالك بن جعشم أعرابياً من بني مدلج". ثم أركب سيدنا عمرُ سراقةَ على ناقة وطوَّفَ به المدينة والناس من حوله، وسراقة يردّد قول الفاروق رضي الله تعالى عنه. انظروا إلى اعتزاز المسلم بدينه وحسن انتمائه إليه، فبعد أن كان سراقة أعرابياً فقيراً لا قيمةَ له، لبس سواري كسرى بعد دخوله الإسلام ببشارة من النبي صلى الله عليه وسلم. هذا هو الإسلام الحقيقي!

وقد قال أحدهم:

أبي الإسلامُ لا أبَ لي سواه   إذا افتخروا بقيسٍ أو تَميمِ

فإذا أردت أن ننتسب فعليك أن تنتسب إلى الإسلام، فتقول: أنا ابن الإسلام، أنا ابن القرآن، أنا ابن شريعة محمد صلى الله عليه وسلم، ومن ينتسب إلى القرآن والإيمان فإنه يُعلي شأنه ومكانه.

        فسبحان مقلب القلوب! كيف تحوّل سراقة من مطاردة رسول الله صلى الله عليه وسلم للقبض عليه وتسليمه لزعماء مكة إلى تخذيل الطلب عنه عليه الصلاة والسلام، حيث صار يقول عن جهة رسول الله صلى الله عليه وسلم: كُفيتم هذه الجهة، ويبعدهم عنها، حتى وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وأيقن سراقة بذلك، فجعل يقص ما كان من قصته وقصة فرسه على الناس، حتى اشتُهِر ذلك عنه وتناقلته الألسنة حتى امتلأت به نوادي مكة. فخاف رؤساء مكة أن يسلم الناس إن علموا بهذه القصة. فقال أبو جهل بيتين من الشعر يحذر فيهما قوم سراقة (بني مدلج) منه:

بني مدلجٍ إني أخافُ سَفِيهَكُمْ          سراقةَ مُستغوٍ لنصرِ محمدِ

عليكم به ألا يفرِّق جَمْعَكم         فيصبحَ شتَّى بعد عزٍّ وسُؤددِ

فرد عليه سراقة بهذه الأبيات:

أبا حَكَمِ اللاتِ لو كنتَ شاهداً           لأمرِ جوادي إذ تَسيخُ قوائمُهْ

عَجِبْتَ ولم تَشْكُكْ بأنَّ محمداً            رسولٌ ببرهانٍ فمَن ذا يقاومهْ؟!

عليك فَكُفَّ القومَ عنه فإنني            أرى أمرَه يومـاً ستبدوْ مَعالِمُهْ

بأمرٍ تَوَدُّ الناسُ فيه بأَسْرِهِمْ              بأنَّ جميعَ النـاسِ طُرَّاً مُسَالِمُهْ

أي إن الناس يرجون ذلك اليوم الذي يدخلون فيه جميعاً في هذا الدين العظيم الذي من دخله كان آمناً ورضي عنه الله سبحانه وتعالى.

        أيها الإخوة القراء! إن تأييد الله تعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيه دروس عظيمة ومهمة؛ وهي أن كل مسلم يتّبع شرع الله فلا بد أن الله تعالى سيؤيّده ويناصره، ولو وجد شيئاً من الشدّة والمشقّة في البداية، فإن الفرج مع الصبر إن شاء الله، وإن مع العسر يسراً، ولن يغلبَ عُسْرٌ يُسرَين.

^ دعاء:

        اللهم! فرّج عنا وعن أمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ما أهمّنا وما أغمّنا، وما هو أعلم به منا. يا رب! أنت المقدّم، وأنت المؤخّر، وأنت على كل شيء قدير. وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله رب العالمين.

 

 

 

 

 

 التعليقات: 1

 مرات القراءة: 12200

 تاريخ النشر: 06/02/2011

2013-07-24

سليم زيتوني

بارك الله فيكم على هذه المعلومات الرائعة والقيمة جدا

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1533

: - عدد زوار اليوم

7404583

: - عدد الزوار الكلي
[ 66 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan