::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> كلمة المشرف

 

 

من سير العظماء ( صلاح الدين الأيوبي )

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان  

 

كان صلاح الدين الأيوبي - رحمه الله تعالى - وزيراً في الدولة الفاطمية في مصر، ولما أن مات الخليفة الفاطمي في مصر، تولى الخلافة مكانه، ولما أن جاء إلى الشام، ومات نور الدين زنكي - رحمه الله تعالى - تولى الخلافة مكانه، فأصبح ملكاً على كلٍّ من مصر والشام، وقاد جيوشاً عظيمة بما أوتي من علم، وحلم، وتقوى، وعدل، وصلاح، واستقامة، ومن حال صدق مع الله سبحانه وتعالى.
أهم الأسباب التي جعلت صلاح الدين قائداً ناجحاً :
        أ- زهده، وتعبّده لله تعالى، وشدة القرب منه:
1- تصوّفه:
صلاح الدين قاد مجموعة من الإصلاحات على مستوى العقيدة، فقد كان شافعيَّ المذهب، أشعريَّ العقيدة، وكان رجلاً متصوفاً، وزاهداً في الدنيا. على مستوى الإصلاح العسكري: وضع خططاً لجيوشه، وكان أساس هذه الخطط الثبات في المعركة، والتسامح أيضاً، فلم يكن صلاح الدين من القساة، ولا من الغلاظ، وكان يقاتل في سبيل الله تعالى، ويحمل أخلاق الإسلام، ويؤكد ذلك أنه لما بلغه مرض عدوه؛ الملك الإنكليزي ريتشارد (قلب الأسد)، أرسل إليه صلاح الدين الثلج المبرّد؛ حتى يستشفي به. هذا العمل لا يفعله إلا من كان قلبه عامراً بالإيمان، وواثقاً بالله سبحانه وتعالى، بأن النصر يتحقق لا محالة، طالما أنه يتقي الله سبحانه وتعالى في كل أعماله، وفي كل أحواله. صلاح الدين، ترجم له كثيرٌ من أهل العلم، فقالوا فيه: "هو الزاهد، الورِع، التقي، النقي، بركة أهل زمانه". كان رجلاً مباركاً، كان رجلاً صالحاً. وهذا ما أثبته الإمام "السُدّي" في كتابه "الطبقات". كذلك نشأ صلاح الدين، وترعرع في بيئة يغلب عليها طابع التصوف، وكلمة التصوف كلمة أُسيء فهمها في زماننا، لعل الذي ساهم في إساءة فهمها بعض المتطفلين على التصوف، بعض أدعياء التصوف الذين تكون أقوالهم في وادٍ، وأحوالهم وأعمالهم في وادٍ آخر، أولئك الذين لم يستطيعوا الجمع بين النظرية والتطبيق، التصوف الحقيقي أيها الإخوة إنما هو تصفية القلب لله، إنما هو السلوك الحسن، إنما هو مقام الإحسان، مقام المراقبة، المقام الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم: "أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك" صحيح مسلم.من وصل إلى هذا الحال فهو الصوفي الصادق. والتصوف الحقيقي وصفه الإمام "الجنيد" - رحمه الله تعالى - بأنّ طريقَنا هذا قائم على الكتاب والسنة، على الجمع بين الكتاب والسنة. فلا يمكن أن يكون بينهما تعارض، أو تضادّ، أو اختلاف أبداً. وحينما نرى أحوالاً تخالف القرآن، وتخالف السنة، فهذا دليل على أن من يفعل هذه الأفعال بعيد كل البعد عن منهج الشريعة، الذي هو منهج التصوف حقيقةً، والتصوف السليم الذي نجده عند الإمام "ابن القيم"- رحمه الله تعالى - في كتابه "مدارج السالكين"، التصوف الحقيقي الذي نجده عند الإمام "الغزالي"- رحمه الله تعالى - في كتابه "الأربعين في أصول الدين"، وفي كتابه "إحياء علوم الدين"، التصوف الحقيقي نجده عند الإمام "ابن عطاء الله السكندري"، في "حكمه" الرائعة، التي تجعل القلب يزداد إيماناً، ويتنور بكلام أهل الله والصالحين، التصوف الحقيقي نجده عند الإمام "القشيري"- رحمه الله تعالى - في "الرسالة القشيرة".هذه الكتب أيها الإخوة هي الذات الذي ينبغي أن يُنشّأ عليه الجيل في منهج التغيير، والمناهج التي ينبغي أن تُبدل، وأن يُلقى بها عرض الحائط ينبغي أن يحُلّ محلها هذه المناهج، التي سادت في القرن السادس الهجري، وبذلك استطاع صلاح الدين أن يفتح بيت المقدس، وأن يؤسس لجيل الإصلاح؛ الجيل الذي عُرف بجيل صلاح الدين، رحم الله صلاح الدين الذي كان شجاعاً، خيراً، حسنَ السيرة، كثيرَ الإحسان إلى الفقراءِ، والمجالسةِ لهم.
2- صلاته:
كان كثير الصلاة، كان شديد المواظبة عليها، حتى إنه ذُكر يوماً أنه من سنين ما صلّى إلا جماعة، ذُكر في زمانه أنه لم يترك صلاة الجماعة أبداً، وكان يواظب على السنن، والرواتب، وكان له صلوات يصليها إذا استيقظ من الليل، فإن لم يستطع أتى بها قُبيل قيامه للفجر. فصلاة ما قبل الفجر، صلاة السَّحر، والتهجد، وهذا الوقت المبارك في الثلث الأخير من الليل، كان يستثمره صلاح الدين بأن يصلي فيه ما فاته من قيام الليل. رحم الله صلاح الدين، حتى في أيام مرضه - وكان رجلاً كثير المرض - ما ترك الصلاة أبداً، إلا في الأيام الثلاثة الأخيرة من حياته قبل أن يُتَوفى. إذاً.. صلاح الدين كان صاحب أحوال، أحوالٍ صادقة، وكان - رحمه الله تعالى - صاحب صلة قلب بالله سبحانه وتعالى، كثيرَ التواصل مع ربه ذكراً، وعبادة، واستغفاراً، ودعاءً.
3- زكاته:
أما الزكاة بالنسبة لصلاح الدين، فإنه مات، ولم يحفظ ما تجب عليه به الزكاة. لاحظوا هذه المسألة صلاح الدين طلب العلم، نشأ في "بعلبك" في لبنان، وطلب العلم على علمائها هناك لما كان صغيراً، وقرأ كتباً في الفقه، وكان شافعيَّ المذهب، ومع ذلك لم يحفظ ما تجب به عليه الزكاة، لماذا؟ لأنه لم يملك نصاب الزكاة طوال حياته، وماله كله استغرقته الصدقة، جميع ما ملكه من الأموال كان ينفقه، ويوزعه في سبيل الله، وتجهيز الجيوش، وتجهيز المقاتلين، ولما مات - رحمه الله تعالى - وُجد في صندوقه سبعة وأربعون درهماً ناصرية، أي من الفضة، وجُرماً واحداً من الذهب (غرام واحد). الجرم في المصطلحات القديمة يعادل وزن نواة التمر ، أي بحدود غرام واحد تقريباً من الذهب فقط. هذا ما تركه صلاح الدين - رحمه الله تعالى - لأولاده. لم يُخلّف أملاكاً، ولا دُوراً، ولا عقارات، ولا بساتين، ولا قرى، ولا مزارع، ولا أي نوع من هذه الأملاك.
4- صيامه:
 وأما صيام صلاح الدين، فكان صلاح الدين كثير المرض، لذلك كان يُفطر كثيراً في شهر رمضان بأمر الطبيب، وكان إذا رأى أن الطبيب لا يراقبه، يصوم قضاءً، فكان الطبيب يلومه على القضاء، ويقول له:"لمَ لا تسمع قولي، وتترك ما عليك من الصوم، وتقدم له الفدية؟ فأنت مريض، لا تقوى على الصيام". فكان - رحمه الله تعالى - يرد عليه ويقول:"لا أعلم ما يكون". وكأنه كان بذلك يتهيأ لأجله، وللقاء الله سبحانه وتعالى.
5- حجّه:
 وأما في الحج، فإنه كان يعزم على الحج إلى بيت الله الحرام في كل عام، لكنه كلما نوى الحج، جاءته غزوة في سبيل الله تعالى، فيغزو بها، ويكون على رأس الجيش، وليس يعطي الأوامر، ويبقى هو في الخيمة، لا.. بل إنما كان يقوم على رأس الجيش مُقاتلاً، ومبارزاً، ومخططاً لتلك الغزوة التي يدافع فيها عن بلاد الإسلام والمسلمين. وهناك سبب ثانٍ منعَه من الحج: وهو خلو يده من المال، ما كان يستطيع أن يجمع مالاً، كان رجلاً منفقاً، ينفق ماله في سبيل الله، كان زاهداً بنفسه، لكنه كان خيّراً على غيره، كان يُكرِم الناس، يعطي الفقراء، يقدّم للقضاة والعلماء الإكرامات الكثيرة؛ لأنهم كانوا دائماً يحثون على الجهاد في سبيل الله تعالى، وهذا ما أسس صلاح الدين منهجه عليه. كل عام كان يؤخر الحج إلى العام المقبل، وقضى الله سبحانه وتعالى له ما قضى، وفارق الحياة، ولم يُيَسَّر له الحج إلى بيت الله الحرام.
6- تعظيمه لشعائر الله تعالى:
 مما يحسُن ذكره عن حياة صلاح الدين - رحمه الله تعالى - أنه كان يحب سماع القرآن الكريم، وكان يستجيد إمامه؛ أي يبحث عن إمام جيد القراءة، حسن الصوت، يُطرِب السامع، فيدعو إلى التفكر في القرآن الكريم، وآياته العظيمة. وكان - رحمه الله تعالى - خاشعَ القلب، غزير الدمعة، لا يلبث إذا سمع القرآن الكريم أن يخشع قلبه، وتدمع عينه في جُلِّ أوقاته، وهذا ما رواه عنه القاضي ابن شدّاد الذي كان يرافقه على الدوام. وكان - رحمه الله تعالى - شديد الرغبة في سماع حديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإذا سمع عن شيخ له سندٌ عالٍ في رواية الحديث إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، كان يذهب إليه، ويبحث عنه، ويطلب منه أن يروي له الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم. إذاً.. صلاح الدين كان كثير التعظيم لشعائر الله، وشعائر الدين، وكان يحرِص كثيراً على التضرع، والالتجاء إلى الله، والدعاء، لذلك كان عندما يذهب إلى غزوة من الغزوات، كان يحب أن يشرع القتال وقت صلاة الجمعة، ويقول للجيش من حوله:"الآن خطباء المساجد على المنابر، يتوجهون إلى الله بالدعاء". فهذا الوقت وقت بركة، لذلك.. رحم الله صلاح الدين، أدرك بركة الوقت، فكان يغتنمه، وكان الله - سبحانه وتعالى - دائماً يُكرمه بالانتصارات تلو الانتصارات.
7- دعاؤه:
 أما دعاؤه - رحمه الله تعالى - فكان عندما يخوض غزوة، يبيت ساهراً، مهتمّاً، مغتمّاً، ساجداً لله سبحانه وتعالى، داعياً في سجوده، وكان له دعاء خاص؛ لمّا يرسل الجيش إلى المعركة، أو يبدأ الجيش المعركة، ليلةَ المعركة، كما فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - في غزوة بدر؛ كان يفعل صلاح الدين رحمه الله تعالى. فله دعاء خاص في السجود، كان يقول فيه:"إلهي! قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك، ولم يبقَ إلا الإخلاد إليك، والاعتصام بحبلك، والاعتماد على فضلك، أنت حسبي ونعم الوكيل". لاحظوا أيها الإخوة هذا التضرع، وهذا الدعاء الذي يعكس حالة تصفية النفس لله سبحانه وتعالى، وإخلاص القلب والعمل والعبادة، "إلهي! قد انقطعت أسبابي الأرضية في نصرة دينك...". يعني أنا جهزت الجيش، وأعطيتهم السلاح، ودربتهم، ووضعت لهم الخطة، هذه هي الأسباب الأرضية اتخذتها، لكن.. الآن أنا لم أعد أملك أي وسيلة أخرى. وهذا نوع من تفويض الأمر إلى الله سبحانه وتعالى، والاعتماد عليه. يقول القاضي"بهاء الدين بن شداد":"ورأيت صلاح الدين ساجداً، ودموعه تتقاطر على لحيته، ثم على سجادته، وكان أحياناً يجهر بدعائه، وأحياناً يكون صامتاً. وهو في تلك الحال، لم ينقضِ ذلك اليوم، إلا ويأتيه خبر النصر على الأعداء". يعني عندما يرسل سرية معينة في غزوة، في لقاء مع العدو، يبيت ساجداً بين يدي الله، لا يرفع رأسه إلا أن يأتيه خبر النصر، وخبر التفوق على أعدائه، وعلى أولئك المغتصبين من الفرنجة الذين كانوا يحرصون على السيطرة على بيت المقدس، وفلسطين، والبلاد العربية والإسلامية.
ب- مَناقِبُه الحسنة:
1- تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم:
بلغ من تعظيمه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، واهتمامه بمولده الشريف، أنه كان يدفع للكتّاب الذين يؤلفون في قصة المولد النبوي الشريف العطايا الواسعة؛ لأنهم يكتبون قصة المولد النبوي الشريف، ويكتبون القصائد، والمدائح في مدح سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم. المعروف تاريخياً - كما يثبت كثير من الباحثين - أن المدائح النبوية، والقصائد التي مُدِح فيها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، انتشرت، وازدهرت في فترة الحروب الصليبية، أو حروب الفرنجة. نعم.. السبب أنها كانت تحرك الناس نحو سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم والدين، والانتماء إليه، فقد مدح الشعراء سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوسلوا به إلى الله تعالى؛ لكشف الغمة عن أمته عليه الصلاة والسلام. من ذلك مثلاً: هناك شاعر يُقال له "ابن رواحة الحموي". زار قبر النبي - صلى الله عليه وسلم - مُستشفعاً به إلى الله تعالى؛ ليحقق أمنينته بالشهادة في سبيل الله. قال قصيدة، من جملة ما قال في هذه القصيدة:
يا خاتمَ الرسل سلِ الله لي      خاتمةً محـمودة العافـيـة
ولا تردّنَّ يديّ بـعدمـا      مددتهُا مسـتشفعاً خائبـة
يُقال في كتب التاريخ والتراجم: إن ابن رواحة هذا، عندما نام، رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - في الرؤيا وهو يقول له:قُبِلتَ يا ابن رواحة! قُبِلتَ يا ابن رواحة!. وبعدما عاد ابن رواحة، رافق السلطان صلاح الدين الأيوبي في حصاره لمدينة "عكا"، فكان من جملة الجند الذين قاتلوا معه، واستشهد هناك سنة (585) للهجرة. إذاً.. السلطان صلاح الدين - رحمه الله تعالى - كان يعظّم نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم.
2- أول من اتخذ قيام المؤذنين للتسبيح في أواخر الليل:
ومن مناقبه أنه أول من اتخذ قيام المؤذنين في أواخر الليل، وطلوعهم، وصعودهم إلى المآذن للتسبيح، حتى يطلع الفجر. هذه الخَصلة التي لا تزال إلى يومنا هذا - ما يسمى بالتسابيح قبل صلاة الفجر - أول من حث عليها، وطلب من المؤذنين أن يفعلوها، هو السلطان صلاح الدين رحمه الله تعالى.
3- إكرام الفقراء:
ومن مناقبه أيضاً: ما نقله الإمام"ابن الأثير" في كتابه"الكامل"، أنه كان يحضر عنده الفقراء، والمتصوفة، وكان يقدّم لهم الطعام بيديه، وكان يقدم لهم العطاء، ويكرمهم.
 رحم الله صلاح الدين الأيوبي، فقد كان رجلَ صلاح، ورجل تقوى، ورجل إخلاصٍ في العمل، ورجل إخلاص في النيّة أيضاً، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يهيئ أمثال صلاح الدين لهذه الأمة؛ كي يعود لها عزها، ومجدها، وسؤددها. وما ذلك على الله بعزيز، وإن الله سبحانه وتعالى لَيبعث على رأس كل مئة عام من يجدد لهذه الأمة أمر دينها، ومن يقوم بخدمتها، ومن يقودها نحو النصر، ونحو الخير، ونحو الفضيلة.
 
 اللهم وفّقنا لاتباع سنة نبيك، والعمل بمضمون كتابك.
 

 

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 5023

 تاريخ النشر: 17/04/2013

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 921

: - عدد زوار اليوم

7447619

: - عدد الزوار الكلي
[ 39 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan