::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مساحة حرة

 

 

ومن رحم حجر.. صرخةُ حياة

بقلم : ملكة قطيمان  

 

 
كلّ شهر تحمل أيّامه بين طياتها أحداثاً تمرّ بذاكرتنا السّنة تلو الأخرى، لكنَّ ذاكرة فلسطين ليست كغيرها.. ذاكرة عمرها عشرات السّنين غصتْ بمئات بل آلاف الأحداث؛ فمع شمس كلّ يوم تروي لنا هذه البقعة من الأرض قصةً جديدة منكَّهة بطعم الحزن ومصبوغةً بلون الأمل..
من دخول قوّات الاحتلال البريطانيّ الذي يصادف ذكرى دخوله هذا الشّهر، وحتّى النّكبة فالنّكسة مروراً بمجازر دير ياسين والحرم الإبراهيميّ وصولاً إلى حرب غزّةَ وحصارها الظالم.. وما بين ذلك كلّه من جرائم يرتكبها الصهاينةُ كل يوم على مرأى العالم ومسمعه.. ظلم طال كل شيء في فلسطين؛ البشر والشجر والحجر.. إذن فلا غرابةَ من أن يرابط الفلسطيني على تلك الأرض الطاهرة؛ فجذوره فيها كشجرها المبارك، وحجرُها بيده دوى صداه بين السماء والأرض فكان ذا روح ودم..
قصة الحجر في فلسطين طويلة لا تشبه غيرها من القصص؛ فقد كان في يد أطفالها أقوى من العدو الإسرائيلي وآلته العسكرية العمياء، فاستطاع أن يوجه نظرَ العالم كله إلى شعب ضاق ذرعاً من همجيّة الصهاينة وحقدهم الأسود، فانتفضَ في وجه العدوّ في التّاسع من شهر كانون الأوّل عام 1987م، إثر دهس سائق شاحنة إسرائيلية عمالاً فلسطينيين في منطقة جباليا في قطاع غزة عمداً ممّا أدى إلى استشهاد أربعة منهم وإصابة الباقي إصابات خطيرة، فكانت هذه الحادثة فتيلاً أشعل في صباح اليوم التالي 9/12 نار الانتفاضة في وجه الصّهاينة، ليحمل أطفال فلسطين الحجارة بأيديهم التي اخشوشنتْ قبل أوانها؛ ليصبح "أطفال الحجارة" أبطالاً يفخر بهم كلّ حر، وعنواناً قضَّ مضاجع كيان الظلم سنوات طويلة.
لم تكن حادثة دهس العمال الفلسطينيين هي السبب الوحيد الذي فجّر بركان غضب الشعب الفلسطيني، بل هي ظروف ومعاناة عاشها الفلسطينيون على مر عشرات السّنين: تشريد وتهجير قسري ترافقه الإهانة والغطرسة، إضافةً إلى تردّي الحال الاقتصادية؛ فبعد فتح الباب أمام الفلسطينيين للعمل في كيان المحتل بدأ العمّال الفلسطينيون يتجرّعون إذلالاتٍ يومية من الإسرائيليين، أضف إلى ذلك أنّ أجر العامل الفلسطيني أقلّ بكثير من غيره، وهو مهدّد بالطّرد في أيّ لحظة ودون سابق إنذار أو حتى تقاضي أجر يومه!! وهو مطالب بتصريح للتنقل من منطقة سكنه إلى عمله، ويخضع في ذلك كلّه لعمليات تفتيش مهينة، ويخصم 20% من المرتبات على أساس أنّها ستصرف على الضفة والقطاع، ولكنّها في واقع الأمر كانت تموّل مشاريع إسرائيلية.
ناهيك عن احتلال القدس وإعلانها عاصمة أبديّة للكيان الغاصب، والتّحكّم بالمقدّسات، والاستيلاء على الأراضي بطرق ملتوية، وزيادة المهاجرين اليهود، وتكاثر المستوطنات، وعملية التّجويع المنهجيّة ضد الفلسطينيين، ونهب مصادر المياه لمصلحة المستوطنين، وحرمان الفلسطينيين من ممارسة حقّهم في التّصويت أو الانتخاب أو إبداء الرأي في أي شيء يخصهم.
هذه الظروف المعقّدة والقاسية وإمعان الصّهاينة في إجراءات النّهب والقمع والاضطهاد جعلت صبر الفلسطينيين ينفد، فكان لا بدّ من أن يقولوا لإسرائيل "كفى".
وكان ذلك حقاً في الانتفاضة الشّعبية الأولى أثناء تشييع جثامين الشّهداء الفلسطينيين، عندما بدأ وابل الحجارة يمطر قواتِ الاحتلال التي ردّت على المحتجين وأطلقت النار عليهم دون أن يؤثر ذلك على حشود المتظاهرين؛ ممّا استدعى طلب الجيش الإسرائيلي للدعم.
وتطورتِ الأحداث في الأيام التالية، على عكس ما توقعت قيادة العدو من أنّها فورة غضب وستعود الأمور إلى ما كانت عليه.
"سوف يتعبون أولاً" هذا ما قاله وزيرُ الدفاع الإسرائيلي (إسحاق رابين)، لكن حساباتهم لم تنجح، فقد تطورتِ الأحداث وعمتِ المظاهرات المدنَ الفلسطينية، وأُغلقت الأسواق والمحالّ التّجاريّة، ونادى طلبة المدارس والجامعات إلى التّظاهر والتّصدي للصهاينة، وصار سلاح المنشورات والكتابة على الجدران نوعاً جديداً من أسلحة المقاومة في مواجهة العدوّ الظّالم.
باتتْ قوات الاحتلال وقيادتها في موقف صعب جعلها تفقد توازنها وترتكب بحقّ الشّعب الأعزل جرائم يندى لها جبين الإنسانية، وهو ما نقلته وسائل الإعلام العالميّة رغم التّعتيم الإعلاميّ الذي فرضته حكومةُ الصهاينة، فاهتزّت صورة الدّولة الإسرائيليّة المزعومة، وخاصّةً بعد نشر جرائمهم الفظيعة من دفن الفلسطينيين أحياء وتكسير أيديهم وأرجلهم (تكسير العظام) والتّجويع والتّعطيش والإهانات اللفظية، ومداهمة البيوت وتخريب أثاثها، واعتقال الآلاف، والضرب المبرح للسكان بالعصي وأعقاب البنادق، واستخدام الطلقات المطاطية والرصاصّ الحيّ والغازات الخطيرة، ولا سيما غاز(c s) شديد السّمّية الذي يسبب إجهاض النساء؛ فقد سُجلت في أقلّ من سنة أكثر من 186 حالة إجهاض في المستشفيات عدا الحالات المنزلية بسبب الغازات.
طرّزتِ المرأة الفلسطينية في الانتفاضة قصصَ البطولة بخيوطٍ من ذهب، و أسهمت في نجاح الانتفاضة وتنظيمها ودعم أسباب استمرارها، فقد شاركت النّساء في المظاهرات والاحتجاجات والاعتصامات، وتعرضن للضرب والاختناق بالغازات المسيلة للدّموع المستخدمة لتفريق جموعهن، ولم تكن النساء بمنأى عن سياسة الاعتقال البغيضة، وسقط عدد كبير منهن شهيدات لتروي دماؤهن ثرى فلسطين الطّاهر.
لم تكتفِ المرأة الفلسطينية بالدّفاع عن منزلها أو أسرتها فحسب، بل انخرطت في عمل اللجان الشّعبية في كلّ ما من شأنه أن يدعم مسيرة النّضال والحرّيّة، وها هي ذي تؤمّن الطّعام لأبناء القرى والمخيمات المحاصرة رغم ظروف الإرهاب وحظر التّجول المفروض، وكذلك التّنقّل في المناطق الجبليّة الوعرة. وتولّت بعضُ النّسوة عملية رصد جنود الاحتلال ومراقبتهم؛ إذ كنّ يوجهن الشباب والأطفال، وينقلن تحركّات العدو من خلال النوافذ باستخدام إشارات متفق عليها أو رفع أعلام بطريقة معينة؛ للفت نظر الشباب إلى ضرورة التّقدم أو التراجع لتفادي خطر الاعتقال أو الضرب.
إن شاهدتَ النساء خلال أحداث الانتفاضة يحملنَ البصل بمقادير كبيرة فلا تعجب؛ فقد كنّ يوزعن البصل على المتظاهرين لتخفيف حدّة تأثير الغازات المسيلة للدموع، وكذلك كنّ يسكبنَ الماء فوق القنابل الغازية لإبطال مفعولها، ويسكبنَ الزيت على مفارق الطرق لتنزلق عليها سيارات جيش الاحتلال، ويجمعنَ الحجارة في أوعية لتقديمها للقوات المتقدّمة الضاربة، وكنَ يغلفنَ الحجارة قبل قذفها بقطعةٍ مبللة (بالبنزين أو الكاز)، ويسهمنَ في صناعة الشحنات المتفجرة، وينثرنَ المسامير في الطرقاتِ الرئيسية لتعطيل العربات العسكرية، فكن بذلك يشكلنَ قوات إسناد للشباب في الخط الأمامي.
أضف إلى ذلك مشاركتها في اللجان الشعبية الصحية؛ إذ كانت تغلي الأعشاب لتحضير الدواء للمصابين، وتبذل جهدها لإسعاف الجرحى والمصابين ميدانياً. وبعد لجوء العدوّ إلى سياسة التّسميم الجماعي التي استهدفت الأطفال من خلال أنواع الحلوى المفضلة لديهم التي ألقتها طائراتُ الاحتلال على القرى والمخيّمات الفلسطينية، كان لا بدّ من التنبّه لهذا الخطر الداهم فانطلقتِ النسوةُ لتوعية الناس ومنعهم من تناول هذه الأطعمة القاتلة.
لم تغبِ المرأة الفلسطينية خلال سنوات الانتفاضة عن قطاع التّعليم والتّربية؛ فكان من المهمّ الحفاظ على رباطة جأش التلاميذ الصغار خلال المواجهات، وكان ذلك يتمّ بسرد قصص عن بطولات شعبية ضمن يوميّات الانتفاضة، وقد حُولت أماكن كثيرة في المساجد والكنائس والبيوت والأقبية إلى مدارس ومعاهد سرية.
إذن كانت المرأة في فلسطين ركناً أساسياً في تنظيم الانتفاضة، وجعلها تُؤتي أكلها منذ انطلاقتها، فتراها صابرةً وثابتةً تستقبل أبناءها الشّهداء بزغاريد الفرح، وتدفع بالبقية إلى مواصلة درب الحرّيّة والانتصار؛ كوالدة الشّهيد (عبد السلام فتحية) من البريج: "ما دمت على قيد الحياة سأعلّم الشّبان أن يقاتلوا حتّى يكون هنالك حل، لا يهمّني ما سيحدث حتّى نسترد أرضنا". وعندما سُئلت إحدى الأمّهات عن شعورها بعد سماعها نبأ استشهاد طفلها ابن 12 عاماً قالت: "لحسين أخٌ آخر، وتسع أخوات، وفلسطين ما بترجع ببلاش".
بهذا الإيمان والعزيمة تصدّى شعب أعزل لواحد من أعتى جيوش العالم وأقواها، لتتكسّر نصال الصهاينة أمام حجرٍ بيد طفل صغير وتكبيرةِ نصر تخرج من شفاه شيخ جليل، ليعيش جنود الاحتلال حالةً من الإحباط كما يذكر رئيس شعبة العلوم النفسية في الجيش الصهيوني: "إن 70% من الجنود العاملين في الأراضي العربية المحتلّة أُصيبوا بالإحباط، بعضهم انهار نتيجة الإرهاق والتعب وصلابة رماة الحجارة، وبعضهم فقدوا إنسانيتهم تماماً فأصبحوا وحوشاً ضارية..." ويقول الجنرال الصّهيوني (بن تسيون فانير) قائد قوّة الناحال:" إنّ الانتفاضة الفلسطينيّة خلقت وضعاً مقلقاً داخل الناحال ممّا استدعى بالضّرورة البحث عن أطباء نفسيين للعمل داخل الناحال..".
إذن سببت الانتفاضة عبئاً معنوياً كبيراً على العدو، إلى جانب الضّرر المادّيّ الذي لحق بالقطاع العسكري، ناهيك عن خسائرَ مادية تجاوزت مئات الملايين من الدولارات في قطاع الصّناعة والتّجارة والزّراعة والسّياحة والبناء وأسواق البورصة.
كلّ ذلك صنعه الحجرُ، حجرٌ بات سلاحاً مدوّياً بأيدي شباب فلسطين وأطفالها الذين استطاعوا إعادة القضيّة الفلسطينيّة إلى دائرة الاهتمام العربيّ والعالميّ، وبّينوا للعالم كلّه حقيقة الكيان الإسرائيليّ البشعة. أبطال تراوحت أعمار معظمهم بين (6-16) سنة، وصفت الصّحيفة الألمانية (فرانكفورت الغماين) ثورتهم بقولها: "...يبدو بعد أكثر من عشرة أسابيع من الانتفاضة أنّ الشباب والأطفال الثّائرين هم الذين يملكون زمام المبادرة حتّى الآن...".
سبع سنوات هو عمر الانتفاضة الأولى، سبع سنوات عجافٍ عاشها جيشُ الاحتلال كبّدته خسائرَ مادية ومعنوية، فاقت توقعاتِه وهزّت كيانه؛ فهو يسمع منذ ساعات الصّباح وحتّى آخر الليل أهزوجةً واحدةً ما غابت عن حناجر الثّائرين:
"لو كسروا عظامي مش خايف.. لو هدّوا البيت مش خايف...."
فإلى أمّ أنجبت بطلاً.. وإلى طفل حمل حجراً.. وإلى حجر أشعل ثورة..
لفلسطين سلامٌ آتٍ.. آتٍ...
ــــــــــــ
المصادر:
1- الانتفاضة الشعبية مقدماتها- طبيعتها- إنجازاتها- آفاقها. إعداد: مركز الدراسات الفلسطينية- الحقيقة برس
2- الانتفاضة في الأراضي الفلسطينية المحتلة. القضية الفلسطينية في شهر. إعداد: الأمانة العامة لجامعة الدول العربية – الإدارة العامة لشؤون فلسطين.

 


 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 5115

 تاريخ النشر: 22/01/2011

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

Query Error
MySQL Error : Query Error
Error Number: 145 Table './risalnet_vcount1/vietcounter_usersonline' is marked as crashed and should be repaired
Date: Tue, April 16, 2024 08:58:06
IP: 52.15.63.145
Browser: claudebot
Script: /article1.php?tq=629&re=209&tn=227&br=632&tr=629&rt=629&try=105&rf=219&tt=627&rt=629&rf=219&tm=629&ft=105
Referer:
PHP Version : 5.5.38
OS: Linux
Server: LiteSpeed
Server Name: risalaty.net
Contact Admin: info@risalaty.net