::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> دراسات وأبحاث

 

 

هل فقدنا الاهتمام بالقراءة أو انعدمت القدرة عليها ؟

بقلم : دار الخليج  

تابعت لفترة غير قصيرة ما يكتبه أساتذة الإعلام وخبراؤه عن تأثير التلفزيون في المشاهد. وأذكر أن بعضهم أثبت أن الشخص الذي “يقرأ” يعرف عن بلاده أكثر مما يعرف الشخص الذي “يشاهد”، والمقصود هنا الشخص الذي يشاهد التلفزيون. أثبت أيضا أن رؤية القارئ للعالم تختلف عن رؤية المواظب على المشاهدة، وأن الموقف من القضايا والشؤون العامة يختلف باختلاف طبيعة الشخص مشاهدا أم قارئا. ولما كانت القراءة عادة وتدريبا وليست طبيعة من طبائع البشر أو غريزة من غرائزه، تفاوتت بشكل هائل حاجة الناس إليها وتعودهم عليها، حتى أن كثيرين استطاعوا الاستغناء عنها حتى صارت القراءة هواية عدد متقلص من الناس. قليلون هؤلاء الذين يتفقون الآن مع بروست حين قال: “إنها المعجزة المثمرة للاتصال من خلال الوحدة والانفراد”، قليلون فعلا هم الذين يفضلون في وحدتهم الاتصال بالعالم والناس عن طريق القراءة.

 

يؤكد متخصصون في موضوع القراءة وفي عواقب التوقف عنها، أن التلفزيون لم يصنع كاتبا عملاقا أو عبقريا مبدعا في الآداب أو العلوم أو السياسة أو الاقتصاد. التاريخ، حتى اللحظة التي نعيشها، شاهد على أن ابن خلدون، وكارل ماركس، وطه حسين، وتوفيق الحكيم، ونجيب محفوظ، وألبرت أينشتين، وهيمنجواي، وميللر، وأحمد شوقي، ونزار قباني، وأحلام مستغانمي، وأمين معلوف، وبهاء طاهر، لم يدخلوا التاريخ لأن الناس شاهدوهم على الشاشة وهم يتحدثون، وإنما لأن الناس قرؤوا لهم ما يكتبون.

 

يعتقد خصوم التلفزيون أن لا أحد مدين لهذه الواسطة الإعلامية بهامته ومكانته العلمية أو الفكرية، بل إن التلفزيون مدين لكل مفكر أو مبدع قام التلفزيون بتصويره وعرض صوره على الشاشة الصغيرة سعيا وراء الزيادة في عدد المشاهدين وفي شعبية القناة التلفزيونية، بما يعني دخلا أوفر من الإعلانات التجارية. ويقول كثيرون من خصوم هذا الاختراع الذي بدأ صندوقا وانتهى لوحة على الحائط، إن التلفزيون لم يصنع من مفكر نجماً ولم يصنع من نجم مفكراً، وأظن أن كثيرين مازالوا غير مطمئنين إلى مستقبلهم كمفكرين كبار وشعبيتهم إن هم تحولوا إلى التلفزيون كمنصة وحيدة لهم يطلون منها على الناس بدلا من الصفحة المطبوعة.

بعض هؤلاء يقارن بالنجاح الذي تحقق لمبدعين ومفكرين كبار خصصت لهم محطة الإذاعة البريطانية (BBC) برامج يتحدثون من خلالها إلى جمهور المستمعين.. هناك في الإذاعة البريطانية والإذاعات الأخرى كان المفكر كاتبا يقرأ ما كتب، والمستمع كالقارئ لا يفعل شيئا غير الإنصات إلى ما كتبه المفكر. هنا في التلفزيون المفكر لا يقرأ ما كتبه وإنما يتحدث إلى مشاهد يشاهد أولاً ويستوعب ثانياً وفي الغالب لا يركز على ما يسمع ولا يحتفظ بفكرة أو معلومة لأنه لا يمارس بقلمه متعة التأشير والتلخيص والإبراز كما كان يفعل مع الصفحة المطبوعة.

 

وقد أعرب مفكرون ومبدعون عن خشيتهم من أن يخبو وهجهم إذا تعودوا على مخاطبة مشاهدين لا يتفاعلون معهم على عكس ما يفعل القراء. فالقارئ يقرأ ويقارن ويعود للقراءة ويناقش مع قراء آخرين ما يكتبه المفكرون، بينما المشاهد يستقبل ما يصل إليه من أفكار وغير متاح له الوقت الكافي للتفكير فيها ومقارنتها مع كتابات أخرى والتدقيق فيها ثم العودة للشاشة لمناقشة المتحدث. القارئ يستطيع أن يقارن بين نصين ولكنه بالتأكيد لن يستطيع أن يقارن بنفس الكفاءة بين مشهدين.

 

يشكو بعض الناس من أن مشاهدة التلفزيون بدلت في سلوكياته ومستوى ذكائه. وقد أيدت هذا الرأي الدراسات التي أجريت في الولايات المتحدة وخارجها على مليون طفل. تبين أن الأطفال الذين يدمنون مشاهدة التلفزيون هم الأقل اهتماما بالقراءة والأقل تحصيلا في المدرسة والأدنى في مستوى الذكاء. أما الكبار فأكثر المدمنين منهم لمشاهدة التلفزيون توقف عن ممارسة القراءة. وتثبت دراسات معروفة أن مدمن التلفزيون المتوقف عن القراءة أشد ميلا بين أقرانه لرفض تعددية الأفكار والمذاهب والدفاع بحماسة عن الفكرة الواحدة والرأي الواحد والمذهب الواحد. بمعنى آخر يصبح المتوقف عن القراءة، كالأمي، أكثر استعدادا للتعصب والتطرف من الشخص الذي ظل يمارس القراءة بانتظام والمطلع على كتابات وأفكار متنوعة. ولا يبالغ المشاهد “العابر” حين يشكو من شعوره بالاضطهاد والقمع، فهو مجبر على الجلوس في مكان معين ولوقت يطول أو يقصر أمام شاشة، وخلال هذا الوقت لا يستطيع مغادرة مقعده لأداء حاجة أو التأمل بحرية وفي سكون فيما استمع إليه أو شاهده. هذا الإكراه في استقبال المعلومات والأفكار والآراء لا يعرفه أو يعاني منه القارئ. القراءة تمنح القارئ فرصة للاستمتاع بالحرية وممارستها والتعود عليها أكثر كثيرًا من الفرص التي تمنحها المشاهدة.

 

وفي غياب القراءة وهيمنة التلفزيون على عملية صنع الرأي العام تغلب العاطفة والانفعال على ممارسات الأفراد السياسية وينحسر دور العقل والمعلومات والخبرة التاريخية. وحين يسود الانفعال علاقات الطبقة أو النخبة الحاكمة بالمواطنين يزداد لجوء الحكومة إلى استخدام وسائل العنف ويخف استخدام وسائل الإقناع لحفظ الاستقرار السياسي ومنع انتشار الفوضى. وعلى الناحية الأخرى تسلك الاحتجاجات الشعبية سلوكيات عنف وتمرد. ويعرف خبراء الأمن أكثر من غيرهم أن المواطن الذي لا يقرأ ولا يكتب قليل البدائل والخيارات عندما يتعلق الأمر بمحاولات استخلاص حقوقه. والعنف هو أحد هذه البدائل القليلة. بينما تتعدد الخيارات أمام المواطن المتعلم، وبوجه خاص المواطن القارئ. وربما يكمن هنا تفسير ظاهرة انتشار الاحتجاجات السلمية التي سادت أوروبا الشرقية فيما سمي وقتها برياح التغيير وعدم انتقالها إلى جنوب البحر المتوسط وبقية أنحاء المنطقة العربية، وهي المنطقة التي شهدت في الفترة نفسها وبعدها درجات عالية من العنف والاغتيالات والأعمال الانتحارية.

 

ولا شك في أننا في العالم العربي والإسلامي عامة ومصر خاصة نقف في مسألة القراءة عند مفترق الطرق. إما أننا وصلنا إلى نهاية مرحلة انحسرت خلالها القراءة لأسباب وظروف متعددة أهمها تدهور الكفاءة الإدارية للدولة وانحسار مكانة العلم والتعليم لدى معظم قيادات الطبقة الحاكمة في العالم العربي وقد ندخل الآن مرحلة سياسية جديدة بعقلية إدارية مختلفة فيعود إلى القراءة احترامها، وإما أننا ندخل مرحلة أشد خطورة من جميع مراحل الجهالة والأمية. ندخل مرحلة فقدان القدرة على القراءة فنعود إلى عهود كانت تقوم فيها فئة قارئة باختيار ما تقرؤه للناس وتفسره وتبلغه لهم رأياً ثابتاً لا يقبل الرد أو الرفض وموقفا لا يتحمل النقاش أو السجال.

 

والفارق لا شك كبير بين إنسان يتوقف عن القراءة أو يتردد في ممارستها ويتكاسل، وبين إنسان يفقد القدرة على القراءة. ففي الحالة الأولى يبقى الأمل في أن تتغير الظروف التي تشجع على عدم القراءة وبالتالي تتوفر احتمالات إعادة تمكين المواطن على القراءة. بينما في الحالة الثانية حيث تكون القدرة على القراءة قد انعدمت أو ذبلت سوف يكون صعباً ومكلفاً استعادتها سواء بالعلاج الرخو المتدرج أو بعمليات ثورية.

المرجع : دار الخليج 

 

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 3059

 تاريخ النشر: 25/05/2008

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 1162

: - عدد زوار اليوم

7397383

: - عدد الزوار الكلي
[ 59 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan