wwww.risalaty.net


لماذا رحلتَ بصمت؟


بقلم : ملكة قطيمان

 

أيّها القلم أعني.. فلا أدري من أين أبدأ وماذا أكتب.. وكيف أختصر قصة إنسان عاش حياته من أجل غيره؟!!
يقولون عن أمثاله إنه شمعة تحترق؛ لتنير درب الآخرين..
فهل أحمّل الشمعة ما لا تطيق؟ أو أغبنك حقّك لأنك أكثر من ذلك التشبيه بكثير؟؟
لا أدري..
نعم..
رحلتَ بصمت..
في وقت نزف فيه الوطن، وبكى قلبه أحباباً غادروه، توقّف قلبك أيّها المعطاء..
في وقت كان كل شيء يبكي ويتألم.. آثرتَ الرحيل بصمت..
سمعتُ خبر رحيلك عنا فأردت البكاء.. حاولت كثيراً.. لكن دمعتي تجمدتْ مكانها رغم حرارة الطقس ولهيبَ نار الفتنة!!
رحلتَ بصمت..
وتباً لذلك الهاتف الذي توقّف أياماً وليالٍ!! وتعساً لذلك الطريق الذي قطعته قلوبُ الحقد وأيادي الشر!!
رحلتَ دون أن أراك أو أن أكلمك.. لأقول لك وداعاً..
وداعاً يا أستاذي ومعلمي.. وداعاً أبا صفوان..
يا من عبّدت درب العلم، ولوّنتَ طريق الحياة لي ولمئات من طلابك وطالباتك.
لا أنساها تلك الساعات على مقاعد العلم والدّرس.. ولن تغيب عني أيامُ العمل والجد والنشاط.
منذ السنة الجامعية الأولى عام 1998م وفي كل مراحل الدراسة والعمل، وحتى آخر اتصال كنت الدليل.. والناصح الأمين.
رحم الله روحك تلك التي ظلت تبتسم رغم الأمراض التي أرهقتْك، وأنهكتْ جسدك النحيل؛ فلا نقص التروية الدماغية منعك من اعتلاء منبر الشرف.. منبر التدريس، ولا قلبك العليل استطاع أن يجلسك في دارك التي رسمتَ مخططها وعمرتها كما حلمتَ دائماً..
هذا هو أستاذي محمد علي حمد الله.
دقيق بكل شيء، تهمُّه التفاصيل، صادق، صريح، لا يعرف اللون الرمادي.
لا أنساك –أيّها المعلم- عندما زرنا طبيب القلب قبل سنتين، وأنت تسأله وتستفسر منه عن كل شيء! رأيتك يومها مريضاً يتألم، وطبيباً يشخِّص المرض، ويكتب اسم الدواء في آن!!!
يوم آخر لا أنساه، وشرف كبير نلته يوم زرتني في مقر عملي -بمجلة فارس الغد- لدعوتي وفريق العمل لحفل تكريمك بمناسبة عيد المعلم على مدرج جامعة دمشق.. كان وجهك الشاحب لوحة من السعادة والفرح.. رأيتك متناسياً أمراضك السبعة وهموم سنوات عمرك الثمانين؛ فها هو ذا يوم الحصاد يأتي بعد سنوات الزرع والتعب؛ فهنيئاً للغة العرب بفارس ترجل ورحل بصمت...
صحيح أنك رحلت بصمت، لكن ما تركته لنا سيتكلم عنك سنين وسنين.. وستبقى رمزاً للعطاء والأمانة، وقدوة تحكي لكل من تتلمذ على يديك "أن هناك ما يستحق الحياة"؛ فرغم الألم والمرض امتطيتَ صهوة الشرف عشرات السنين تحكي عن العلم.. عن الألم.. عن الأمل.. عن هذه الحياة التي تسرق منا أحلى اللحظات وأعزّ الناس.
أستاذي الجليل.. ربما لو قرأتَ ما كتبتُه في هذه الشّذرة لصححتَ لي أخطاء وعثرات كثيرة، كما كنت تفعل بكل ما تقرأه لي ولغيري، فعذراً إن كنتُ قد أخطأت أو سهوت، لكن أعدك على الدوام أن أحفظ الأمانة التي زرعتها بنفوس طلابك وزملائك: (لغتنا العربية.. لغة القرآن.. لغة أهل الجنّة.. لغتي هويّتي.. لغتي هي أنا.. لغتي حدود وطني.. وهي حصن العز والانتصار).
علّمتني أنّ العلم أمانة، والعمل أمانة، واللغة أمانة..
علّمتني أنّ الذّكاء هو القدرة على التّكيف..
علّمتني أنّ الصّبر مفتاح النّجاح..
نصائحك رسمت مستقبلي..
دعواتك لوّنت حياتي بألوان السّعادة كما كنتَ تدعو لي دائماً..
وستبقى ابتسامتك الحزينة مصدر قوة وإلهام..
وها هي ذي تلك الدموع التي خانتني عند سماع خبر وفاتك تتدفق، وأنا أكتب هذه الكليمات أحاول جهدي أن أذكر ما لا يعرفه كثيرون عن محمد علي حمد الله.
أشياء تعلمتها منك ولم أسمعها إلا منك..
14 عاماً ونحن نتحدث ونتحاور ونتكلم.. وفي ليلة قاسية من ليالي أيلول 2012 رحلتَ بصمت..
ربما هو قدر العظماء..
يعملون بهدوء وصمت، فلا يملؤون العالم بضجيجهم ككثير من المدّعين في زماننا هذا..
يرحلون بصمت.. تاركين وراءهم إرثاً يحكي للأجيال قصة عظماء صنعوا المجد، وطرزوا صفحات تاريخنا بخيوط من ذهب..
والآن.. أيتها الياسمينة الفوّاحة في حارات دمشق العتيقة، هناك في زقاق مدحت باشا، قرب قبر العالم الجليل عبد الله بن ذكوان.. يا زهرةً ظلّلت كرّاسَ أبي صفوان أيام الطفولة والشباب في داره الدمشقية العريقة.. آن لك أن تنامي بسلام.. وارقدي على قبر معلمي وشيخي، واحكي له كل ليلة أن حروفه كانت –وستبقى- شعلة نور تضيء فكري وقلمي..
رحمك اللهُ يا أعزّ الناس..
 
نبذة مختصرة عن العالم اللغوي المربي محمد علي حمد الله :
ولد الأستاذ محمد علي حمد الله في دمشق 13/6/1928م، تخرَّج من جامعة دمشق قسم اللغة العربية عام 1957م، حصل على دبلوم التربية سنة 1958م. أبرز أساتذته: أ. سعيد الأفغاني وأ.د. عمر فروخ رحمهما الله تعالى.
درَّس في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض، وفي كليتي التربية والآداب بجامعة دمشق 15عاماً، وفي المعهد العالي للفنون المسرحية، ودار المعلِّمين، ومعهد إعداد المدرِّسين بدمشق، ودرَّس 14 عاماً في قسم التخصُّص الجامعي (فرع الأزهر)، في مجمَّع الفتح الإسلامي بدمشق.
عضو اتحاد الكتَّاب العرب في سورية، ومؤسس جمعية أدب الأطفال باتحاد الكتَّاب العرب، وعضو شرف برابطة الأدب الإسلامي العالمية.
عمل مستشاراً للنشر في دار الفكر بدمشق سنوات، وأسس سلاسل الفكر، في أدب الأطفال، وكتب لها أكثر من 45 قصة.
أسهم في دورات تربوية تابعة لمنظمتي (اليونيسيف) و(الأنروا)، واختير خبيراً تربوياً في منظَّمة (اليونسكو) مدَّة تسع سنوات.
عمل في شركة النجم، وكان كبيرَ كتَّاب فلم (الجرَّة) الحائز على عدد من الجوائز العربية والدولية في سينما الأطفال، وعمل مراقباً للبرامج ومشرفاً لغوياً في شركة الزهرة لإنتاج أفلام الرسوم المتحركة، بدءاً من تأسيسها.
شارك في كثير من المؤتمرات العلمية والندوات الأدبية والبرامج، منها مؤتمر كتَّاب أدب الأطفال العالمي بتونس سنة 1986م، وكتب الشعر والقصة والمسرحية، وشارك في (التمثيل المسرحي والتلحين الموسيقي) في شبابه.
انتقل إلى رحمة الله في 6/9/2012م، وبرحيله فقد أهل العربية في الشام أحد كبار أساتذتها وأعمدتها ومراجعها وهو أحد أفذاذ علماء العربية المعاصرين، كان لطلابه أباً ناصحاً حانياً حريصاً على مصالحهم وشؤونهم.
تغمده الله برحمته الواسعة، وجزاه عن طلابه -وهم أجيال كثيرة- خير ما يجزي معلماً عن طلابه.
مؤلفاته:
1-ابن زيدون ورسالتاه. دمشق 1956م.
2-الأسلوب التعليمي في كليلة ودمنة. دمشق ط1/ 1958م، ط2/ 1970م.
3-النحو والصرف. وزارة التربية السورية، 1960م.
4-شرح المعلقات السبع. للزَّوزني (تحقيق)، دمشق 1963م.
5-مغني اللبيب عن كتب الأعاريب، لابن هشام (بالاشتراك مع د.مازن المبارك، ومراجعة: سعيد الأفغاني). دمشق ط1/ 1964م، ط2/ بيروت 1969م، ثم تتالت طبعاته.
6-النقد الأدبي الواضح. دمشق ط1/ 1971م، ط2/ 2009م.
7-أدب الأطفال (مقرَّر في دور المعلمين). وزارة التربية السورية، ط1/ 1978م، الطبعة الأخيرة 2004م.
8-سلاسل الفكر، أكثر من أربعين قصة ومسرحية للأطفال، من 1981م في دار الفكر بدمشق، ثم في دار العربية.
9-مذكِّرة الطالب. دمشق 1994م.
10-                    البُردَة: شرحاً وإعراباً وبلاغة (مراجعة وإشراف). دمشق 1999م.
11-                    مسامرة الندمان ومؤانسة الإخوان، لعمر بن محمد الرازي (مراجعة وإشراف). مركز زايد للتراث والتاريخ، الإمارات 2003م.
12-                    على أوتار القلوب. ديوان شعريّ (مخطوط).
13-                    على أوتار الغناء. ديوان للأغاني العاميَّة والزجل (مخطوط).
14-                    نشر عدداً كبيراً من المقالات والقصص في الصحف والمجلات.