wwww.risalaty.net


وما قدروه حق قدره ....


 

هو قوتُ القلوب، و أترف كلمة في قاموس الحياة، عندما تبدأ بـ : ( حُ ) تضمُّ  شفتيك وكأنك تتهيّأ لقبلة، وكأنّ الروح قد ضمّت الروح، والنفسَ ضُمَّت إلى النفس، و عندما تنتهي بـ : ( بْ ) وكأن نفسك سكنت بعد الضم، وكأن التقاء الشفتين عند النطق بالباء يوحي بسكون نفس المحبين عند اللقاء..

 و للنطق بالحب أريج، يُنبت مِن كلِّ زوج بهيج ، و الذي مرج القلبين يلتقيان، أنبت من التقائهما فراديس و جنان، لولا الحبُّ لأضحت البشرية صحراء ولأمسى الكون بظلمة عمياء ...

لولا الحبُّ لما وقع الوفاق ولما أبصرت الضمّ والعناق، لولا الحبُّ لما اهتز بالقلب وَتَر، و لما بكى مُحِبٌّ وقت السحر، به عُبِد الإله و زُهِد بالمال و الجاه، به كُتِب على العرش: ( لا إله إلا الله محمد رسول الله )..

فضم الله تعالى اسمَه إلى اسم مُحمّد صلى الله عليه و سلم؛ لأنّه أحبّ الربّ فعصم من الذنب و احتمل الخطب، عندما يرتقي الحبُّ يحصل القرب، و هل ترى في كتاب الوجود أرقى و أرق و أعذب من صفحة الحبِّ في الإسلام؟!!

 

الإسلام ما حرّم الحب، و ما جندل القلب، وما جعل على المحبين من حرج ولا سيطر على المهج، لكنه ارتقى بهم إلى القمم لتصبح الأمة خير الأمم..

ومن المحدثين والفقهاء من فاق وصفهم لمحبوبهم وصف الأدباء و الشعراء، واسألوا إن شئتم الإمامَ مالكاً عن شيخه عروة بن أذينة المحدّث الفقيه العاشق يخبركم:

و يبيتُ بين جوانحي حبٌّ لــها      لو كان تحت فراشها لأقلها

و لعمرها لو كان حبّك فوقها     يوما و قد ضحيت إذن لأظلّها

أبيات تُبحِر في الوزن الكامل صاغها من كمال حبّه، إذا هززتها تساقط عليك رطباً جنياً من الحب و الغرام و العشق و الهيام ، ما يجعلك تقتات منها و تسقيها ماء عينك ..

إن الفقهاء و أئمة الهدى جعلوا من الحب العفيف قطر الندى، ومن القصد الشريف بلّ الصدى ، و من نتاج الدمع كان مدادهم :

و كاتم الحبّ يوم البين منهتكٌ    و صاحبُ الدمع لا تخفى سرائره

ومن عيون المحبوب تفجّرت أسرارهم، يقول إمامٌ من عصرنا محمود خيرُه ومشهود برُّه :

عيناكِ منابع أسراري     قد حارت فيها أشعاري

و ترى من الأئمة المتوجين بتاج الديانة و الملتفين بعباءة الرزانة، من يُبحر بحبه في بحور الشعر ويعزف على أوزانه، و الشعر من الشعور، وما أروع أن يغترف الشاعر من خلجاته النفسية حروفاً موزونة مقفاة ، فيخطّ شعراً ترضاه الملة، ويباركه رب العالمين، و الله سبحانه ما نفى الشعر عن نبيه لقبح في الشعر، لكن لأن الشاعر يُلهَم من نفسه و شعوره، و النبي عليه الصلاة و السلام يأتيه من ربه الإلهام، فإذا رأيت شعرا لفقيه فلا تعجب، فالفقهاء أيضاً خلّدوا أسماءهم في سِفر العاشقين، و انظر إذا شئت إلى:

و مَن كان في طول الهوى ذاق لذّة      فإني من ليلي لها غير ذائق

و أكثر شيء نلته من وصالـها       أماني لم تصدق كخطفة بارق

و ارجع البصرَ كرّات وكرّات ينقلب إليك البصر ليخبرك أنه من شعر الإمام القشيري صاحب الرسالة القشيرية، تلك الرسالة التي بلغت عند الصوفيين ما بلغ كتاب سيبويه عند النحويين..

أئمة الإسلام جعلوا من الحب فرضاً و واجباً و مباحاً وحلالاً وحراماً، سطّروا صفحات من نور خلّدت الحب على مدى العصور، ترى من مدادهم ما يفتح عينك على الحبّ فترى جمال الوجود، وما يسرّي عن قلبك بالقرب فتصل إلى الرب المعبود، فحبّ الربّ فرض، وبه قامت السماوات والأرض، وحبُّ الشهوات منبوذ، ومَن أحبّ شهوته فبمولاه لن يلوذ، و حب الوطن من الإيمان، وحب النفس من الشيطان، وحب الولد من الحنان، وحب الأب من البرّ  وحب الأم من الإحسان... و للحب ألوان و أنواع لا يحصيها ذو قلب بارد، والبشر لا يصبرون على حبٍّ واحد...

و للوصول للمحبوب طرق ووسائل، والشرع جعل الطريق هو الطريق المستقيم لا المائل، و إنّما حبّ الشهوات و اتباع الملذات جعل من الحب قضية شرقية فتعدّدت الطرق وسُلكت المطبّات و المنعطفات اللغويّة، فأصبح الحبُّ غيرَ سعيد عندما جعلوا له في السنة يوم عيد، و بهذا اليوم نفد الحب المديد، فيتخذ حسناء في كل عيد، و يقول: لعمري هذا هو العيش السعيد، ويشوّه الحب باسم عيد الحب، حتى صار الحب في يوم وحيد، وكان بهذا اليوم هو الشهيد!!

و أصبح اسم ( فالنتاين ) عنوان الفسق و العصيان، و دعاية لكلّ حب رخيص وغواية من تلبيس إبليس، وحجّموا الحبّ و جعلوه ضمن برواز، و لو تركوه على حاله لفازوا وفاز..

 أضحى الحبّ سلعة تُباع و تُشرى بوردة حمراء، يذبل الحب بذبولها، ويفقد شذاه عندما تفقد شذاها..

إنّ الحب في الإسلام أرقى و أنقى، لا يذبل بل يمتدّ و يبقى، لكن الجيل مفتون بشاعر مخمور و أديب مغرور، و عيد مبتور..

جعلوا الوصل الحرام سبيلاً واتخذوا في هذا اليوم خليلاً، وأطلقوا العنان لغرائزهم فأضاعوا دينهم باسم الحب، و باعوا عقولهم باسم الحب، واشتروا عذاب ألف سنة في جهنم الباقية، بلذة مؤقتة فانية، فالذي باع دينه لأجل العيون السود والخدود والقدود، فحبه هو الحب الفاني، ومن ويلاته وآهاته سيعاني، لكن الذي أرضى بحبّه علّام الغيوب سيصل - لا شكَّ - للمحبوب، فتسكن نفسه إلى خالقه، ويتوق الوصل من رازقه..

وبأي عيدٍ يحتفلون وعن أي حبٍّ يتبجحون؟! فللبشر في الحب شرائع ومذاهب، فمنهم من فُتِن و جنّ بليلى كالمجنون، وبعضهم أحب العلم كابن خلدون، ومنهم أحب المال والذهب كقارون، و منهم من أحب القتل و السلب كشارون، وآخر كان مذهبه حب السيادة، وثانٍ هالك في طلب السعادة، وكلكم يعرف  حبَّ ابن زيدون لولادة، وآخرون لا تعرفونهم، الله يعلمهم، هجروا طيب الرقاد ووقفوا بين يدي رب العباد، يسكبون في محرابه الدموع، ويتفانون بين يديه بالذل والخضوع، يطرقون بالحب بابه و يقفون بالذل على أعتابه، فأحبّهم وأحبوه و أعطاهم ما سألوه...

غيرهم تفانى بحبِّ السيادة و الجاه، و الذين آمنوا أشد حبّا لله...

و الله ما نظرت عيني لغيركم      يا واهبَ  الحُبِّ و الأشواق و المُهج

كلّ الذين رووا في الحبّ ملحمةً    في آخر الصفّ أو في أسفل الدّرج

لعل الحديث في الحب و المحبين يطول، ويأخذ بالقلوب و العقول، لكنه سنّة الله على عباده منذ خلق آدم عليه السلام وجعل قلبه يتوق لحواء، و مَن شابَهَ أباه ما ظلم، لكن الظالم الذي يظلم نفسه و يبيع دينه و عرضه باسم الحب، و ليت الحب الحقيقي يدخل كل قلب إذن لعمّ الودّ و الإخاء، و الصفاء و الرخاء، ولسيطرت البهجة على النفوس، ورضي الملك القدّوس، ليت الحب سيطر على كل مهجة؛ إذن نفوز بحدائق ذات بهجة، لكن الداء العضال المتفشي بين الخلق أن الحب مغضبةٌ للرب، لأنهم ما قدروا الحب حق قدره، و ما أعطوه الحق الذي يستحقه، فسطّروا باسم الحب روايات ماجنة، و زينوه بأشعار حروفها ناقصةُ الحياء، وسطورها مبعثرة كالهباء، نعم لا ريب، هذا اللون من الحب لا يرضاه الله، لأنه يمزق الحس و الشعور تمزيقاً، و يخرّق الحياء تخريقاً، بُني على جرف هارٍ فانهار بصاحبه في النار، أمّا الحب الذي بنيانه من حب الإله فهو حب يطاول السماء بعلاه، ذلك الحب الذي يولد بالقلب فتصرخ بقوة عندما يلامس قلبك، لكنه يجعل القلبَ قلباً حين يلامسه، تماماً كما تصرخ لحظة الولادة لكنها حياة تمتزج بها فتصرخ صرخة القدوم!!

و الشريعة خير حاضن لهذا الوليد، و بكل لحظة تحتفل به بأنفس عيد، فإذا داعبك النسيم احتفلت أن محبوبك من النسيم ألطف، وإذا ساهرت القمر احتفلت أن محبوبك لا يُخسف، و إذا تدفئت بالشمس احتفلت أن محبوبك لا يُكسف، و إ ذا ذُكرت أسماء العاشقين احتفلت أنك بمحبوبك تُعرف وبه توصف!!

الإسلام هذّب هذا الوليد حتى صار ذخراً لدينه ، لوطنه ، لأهله ، ربَّاهُ بيد خبيرة بالحب بصيرة بمذاهبه ، فإذا به مخلص لمحبوبه ، متقن لواجبه ..

ربّاه بمدرسة "يحبهم ويحبونه"  فلم يرض حباً دونه.

 

 الحب في الإسلام مترف سمواً، مشبع علواً، إذا تجولت بحدائق المصطفى عليه السلام رأيت من أشجار الحب الصنوان و غير الصنوان، فحبُّه لعائشة ـ عليها من ربها الرضوان ـ مدرسةٌ مَن دخلها كان عاشقاً، وحبه لأبيها محرابٌ مَن وقف فيه ذاق حباً صادقاً، وانظر حبّه لصحبه و أحبابه ـ اللهم اجعلنا منهم ـ و حَبّبَ إليه ربُّ الأرض و السماء الطيبَ والنساءَ، لكنه جعل قرةَ عينه في الصلاة..

 

وافتح سِفْرَ الحب، صفحةَ بلال بن رباح عندما نادى تحت العذاب أحدٌ أحدٌ، ففاز بحب الواحد الأحد، وانظر صفحة علي الكرّار ابن عمّ المختار تجد من حبه للكتاب و السنّة ما استحق أن يُبشّره حبيبه بالجنة، وفي صفحات الصحابة الكرام سطور من الحب والغرام سُطرت بدم الشهادة فأصبحوا بكتاب الحبّ من أصحاب الريادة..

لقد سلكوا لمحبوبهم أوضح المسالك، ونشروا شذا الحب في فن القرب، فأوصلتهم سبل الإسلام إلى بلوغ المرام..

للحب سلطان! و أي سلطان!! هذا الذي تذل له الملوك و اسألوا أنطونيوس و كليوباترة، و تُبذل في سبيله النفوس و اسألوا حمزة، و تُراق لأجله الدماء و تسهر العيون و تُقرّح الجفون، وقد يوصِل صاحبَه إلى الجنون إذا سلك مدارج الغِوى و لم ينهَ النفسَ عن الهوى، و قد يرتقي بصاحبه حدَّ العَنان إذا طُلب به رضا الرحمن..

و الكلام في الحب ودود ولود، لا ينضب بل يسخى و يجود، والصمت في الحب مهابة، تُغرِق بأحاديثَ جذابة ..

وبين السطور التي لم تُكتب و الكلمات التي لم تُلفظ معان للحب لا يفهمها إلا الراسخون في العشق، فهل وجدتم أروع من الكلمات التي تُصاغ عندما لا نقول شيئاً؟!!