wwww.risalaty.net


حوار في (التزكيــة) مع الداعية الشيخ (محمد عدنان السقا) : القسم الثاني


 

الجزء الثاني من مقابلة الشيخ (محمد عدنان السقا) حفظه الله
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
س . كونكم تسكنون حمص وتدرِّسون فيها وفي الشام, هل يمكن أن تحدثونا عن سلبيات وإيجابيات هذا السفر ؟ 
ج . الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين. أولاً السفر ليس له سلبيات وإنما كله إيجابيات لأنه يزيد من نشاط الإنسان في الدعوة إلى الله I ويلتقي فيها .
السفر في طلب العلم تعلماً وتعليماً كله إيجابيات يكسب فيها الإنسان المزيد من الأجر ويقتدي بمن رحل في طلب العلم ويلتقي فيه بالعلماء ويطلع فيه على بعض مزايا الناس فهو أجر يسوقه الله I لشيء مما يُتَوَّهَمُ أنه مشقة, والناس يسافرون في سبيل أشياء رخيصة وبسيطة وممكنة .
فالأجدر بنا نحن كدعاة أن نسافر في سبيل الله I, والسفر تجدد وهمة جديدة واكتساب علوم ونشر للعلم واستقاء من علوم الآخرين .           
استأذن ولد الإمام أحمد t والده أن يبقى في بغداد التي كانت عاصمة للعلم في ذلك الزمن, واستشاره في أن يبقى في بغداد وفيها كل أصناف العلوم والعلماء, فأرشده والده إلى السفر للاختلاط بالعلماء والأخذ عنهم والاحتكاك بهم, فالعلم مُشامَّة ( من الاحتكاك والأخذ والاكتساب من همم الآخرين ). [يا بني ارحل وشامِ الناس وتعلم من سمتهم وآدابهم].
 
 
س . هل يتعارض منهج المعهد في تدريس التصوف مع مقولة :) هذا العلم لا يؤخذ من الكتب ( ؟
 
ج . أولاً : ) هذا العلم لا يؤخذ من الكتب (, هذه ليست على إطلاقها فالانطلاقة تكون من العلم ويوجد في الكتب, ولكن تتمة المسيرة تكون في تطبيق ما تعلمناه في الكتب, يعني يمكن أن نقول المقولة صحيحة إذا كان ) العلم لا يؤخذ من الكتب فقط ( تكون صحيحة؛ أما أنه يستغني عن الكتب فأي علم لا يستند إلى علم صحيح أو نصوص صريحة هذا بناء في الهواء, وقد قعَّد أهل التصوف في كتبهم مبادئ تربوية وضوابط, مثل كتـب : (رعاية لحقوق الله I) للحارث المحاسبي t, (الرسالة القشيرية)، (قواعد التصوف) للشيخ زروق t, و (الحكم العطائية), هذه كلها كتبٌ كتبوها.
أما : لا يؤخذ من الكتب فقط, لأنه علم وحال, أما العلم فيؤخذ من الكتب, وأما الحال فيؤخذ من التطبيق ومن قلوب الرجال, بل من تطبيق ما نقرأ ومن قلوب الصالحين, وبمجالسة أهل الأحوال الصادقة, ومن المعلوم أن الأحوال تسري إن كانت صادقة جيدة أو فاسدة, فكما أن حال الصلاح يسري, حالُ الفساد يسري .
 
 
س . كيف نحمي القلب من سريان الحال الفاسدة ؟
 
ج . أولاً بالنفرة من الفساد, بنوع من التلقيح حتى لا يصل إليه المرض, كأن يشعر القلب بالخسارة التي تصيبه إذا ركن إلى الفاسد, فكما أن الغني يحصن ماله من لص ماكر, كذلك يحصن القلب ممن سيتخطفه , والذي يعرف قيمة ما يملك يحرص أكثر .
 وإذا ارتقى القلب أكثر فإنه يشعر بأنه مسؤول عن هداية أهل القلوب الفاسدة, وحمايته تكون في الدرجة الأولى واندفاعه لإنقاذ قلوب الآخرين تكون من المهمَّات أيضاً .
النبي r حمى قلبه من أن يتأثر وأن يركن ولكنه استطاع برحمته إنقاذهم, والدعاة على هذا المنوال.
 
 
 س . قلتم حضرتكم في المقابلة السابقة : (أسرتي أسرة منفتحة جعلتني أفتح قلبي للعلماء والدعاة من كل الأطياف؛ وبدأت هذه المسيرة العلمية المباركة التي تواكب فيها ضياء الفكر مع رفرفات الروح بتوازن لا بد منه حتى لا يتطرف الإنسان إلى أحد الجانبين), سؤالين :
1.   كيف استطعت التعامل مع كل الأطياف ؟
2.   كيف نستطيع الحصول على هذا التوازن ما بين غذاء الفكر ورفرفات الروح ؟
 
ج1 . عندما يؤمن أو يعتقد الإنسان بأن هناك قواسم مشتركة كثيرة جداً قد تصل إلى أكثر من 90 % ؛ يلتقي فيها مع الكثيرين ممن يهدفون إلى هدفه, هناك مقولة جميلة تقول : ((إن وحدة الهدف تجعل التلاقي بين السائرين إليه سريعاً)).
ويمكن أن نقول بشكل آخر : وهناك لقاء وتوافق في كثير من الأفكار والمقولات بين كل المثقفين من جميع الأطياف فكيف بين أبناء الطيف الواحد, يضاف إلى ذلك بأن على الإنسان أن يثق أنه بحاجة إلى كثير مما عند الآخرين مضموناً وأسلوباً, وبأن كثيراً مما عنده يحتاج إليه الآخرون .
 هذه الأفكار وأمثالها تفتح الإنسان على كل الدعاة .
و من أمثال ذلك :]وحدة الهدف[ و]الانتماء إلى مجموع المؤمنين[. يشعر بالقوة إذا كان مع الجماعة, وفي الحديث : ] يد الله مع الجماعة [, الجماعة بمعناها الواسع لا بمعناها الضيق, بمعناها الإسلامي الشمولي لا بمعناها المنغلق الانكفائي, لا يقال : جماعتنا ... تلاميذ الشَّيخ فلان ... الخ, لا, لا, الجماعة, الجماعة المسلمة, وهذه الجماعة المسلمة تتخطى دائرة الزمان والمكان .
ولقد سهُل التواصل في هذا العصر لسرعة انتشار الأعمال الثقافية والعلمية للدعاة, فأصبح من السهل أن ينفتح الإنسان على الجميع لما أعتقد أنه بحاجة لكثير مما عندهم؛ بأسلوبهم, بمضامينهم, بتفكيرهم, ربما فكرة واحدة تثري الداعية وتنهض به, فضروري أن يكون هناك تواصل بين الدعاة لأن الناس لا ينظرون إليهم كأفراد بل كمجموعة لأن هؤلاء مشايخ الإسلام, فبالتالي تكاملهم مع بعضهم هو الذي يعطي قوة لما يقومون به, والنصوص في ذلك كثيرة : ] وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى [       [ المائدة: 2], التي تأمر دائماً بالتضامن في سبيل الخير.
 
س . تعاملت مع بعض الأطياف في أمريكا, تعاملت مع البهائية ومع آخرين ... فهل كلمة أطياف تضم هؤلاء الناس ؟
لا .كلمة أطياف نقصد بها : أطياف أهل السنة والجماعة .
البهائية كيف نتعامل معهم ؟ وهم يقولون بوجود نبي بعد الرسول محمد r, بعدم وجود الحج والجهاد, ويصلون إلى قاديان !! فكيف نتعامل معهم ؟
أقصد بالأطياف ما يصح أن يسمى طيفاً أولئك تسمى أخيلة لا أطياف .     
والأفضل ألا نفتح جبهات الصدام معهم حتى لا نتلهى بذلك عن المسيرة الإيمانية التي ينبغي أن نسير فيها لأنها ستعوق مسيرتنا ولن تنفعنا, فالتعاون شيء وعدم فتح جبهات للصدام شيء آخر .
لأن ما يفرضه المنطق الواعي أنه ليس شرطاً إن لم أتعاون مع الشخص أن أصطدم معه.
 
س . عشت التعايش بين الأديان خلال فترة دراستي في أمريكا، كنا نجد المجال رحباً في التعامل فيما بيننا بالعلاقات والأخلاق الإنسانية بعيداً عن العقائد لاختلافها. فهل هذا المنهج صحيح للتعاون مع الأديان الأخرى ؟
التقارب بين الأديان كعقائد مستحيل, كأخلاق ممكن, ونعني بالتعاون لا أن تقترب الأفكار بل أن نعيش بدون خصام, لأن مبادئ الأخلاق كأصول في كل الأديان متقاربة جداً, فكل الديانات تأمر بالعفة والفضيلة والصدق والأمانة, ونحن كما ننادي غيرنا بتطبيقها ننادي المسلمين بتطبيقها فميدان الأخلاق ميدان واسع يمكن أن نتعايش من خلاله أما محاولة التقريب بين المعتقدات أظن أنها عبث .
 
 
2.   كيف نستطيع الحصول على التوازن ما بين غذاء الفكر ورفرفات الروح ؟
ج2 . التوازن يحتاج إلى شيء من المعرفة وشيء من السلوك, فنبدأ بالقسم الأول المعرفة تستنبط وتستقي من أسس القرآن والسنة ومن حياة النبي r, وكيف استطاع أن يكون نبياً وقائداً حربياً وقائد أمة وزوج وجد وأب ومحارب في النهار بكاء في الليل .
هذه الجوانب المعرفية لا بد منها, فالتوازن هو الوسطية التي قام عليها الإسلام, قال I :          ] وَوَضَعَ الْمِيزَانَ [[الرحمن :7]. يعني العدل . يعني التوازن .
وأما الجانب الثاني وهو جانب التطبيق فهو بحاجة إلى حكمة والتي هي عبارة عن مزيج من نتائج وتجارب ومن مواهب ربانية, وإذا تم التوازن بين الفكر والروح عكس كل على الآخر من إشراقاته فيتكامل الجانبان .
وغالباً ما نرى أصحاب الروح المشرقة أصحاب إشراقات لماعة, وقد مضت فترة ساد فيها الفكر الخاطئ الذي يُبدي بأن بين الفكر والروح صراعاً فلا يتم تألق جانب إلا على حساب هضم الطرف الآخر. في السابق سادت أفكار من أمثال: (لا تدرس كثيراً فتتعلق بالكتب كثيرا فتتأثر روحانيتك بالكبر) هذا غير صحيح , فكلاهما طاقةٌ زُوِّد بها الإنسان, فإذا ازدادت واحدة انعكست على الأخرى كإناء إذا امتلأ صب في إناء آخر, لا نرى أحداً روحانياً وهو غبي, وإذا كان روحياً قوياً على حساب الفكر يكون هذا اسمه مجذوب لا روحياً, يوجد فرق .
 
س . قلت : ) إننا بحاجة إلى حكمة, والتي هي عبارة عن مزيج من تجارب ومواهب ربانية (, فما هي الحكمة ؟
ج . الحكمة هي عبارة عن مزيج من الدروس والممارسات ودراسة تجارب الدعاة ودراسة ما حصل مع الآخرين, فيستخلص الإنسان منها عبر .
أيضاً هناك جزء من الحكمة من الموهبة بدليل الآية : ] وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً  كَثِيراً [ [البقرة : 269], يؤت إذاً هي مواهب, فإذا امتزجت المواهب مع خلاصة التجارب الروحانية للدعاة, [كالسكر للزهورات], فالدعاة حياتهم في مرار, تحمل الناس واهتمام بشؤونهم, هذا فيه متاعب يذهبها حلاوة الروح في قلوبهم, وحلاوة الهدف الذي يهدفون إليه .فأرباح الدعاة هي انجذاب الناس إلى ساحات الهداية وساحات الإيمان .
 
    
س . كيف السبيل إلى التوازن بين علم التصوف وسيطرة المادة اليوم ؟
 
ج . عندما يشتد الحر فنحن بحاجة إلى مكيفات للهواء, فكلما ازدادت اللفحات المادية فإن حاجتنا إلى النغمات الروحية تزداد, يعني تناسب بين ضغط الماديات وبين الحاجة إلى الروحانيات, تناسب طردي كلما احتجنا إلى هذه احتجنا إلى الأخرى .
لذلك يلجأ الإنسان حتى في أوربا إلى نوع من الاستجمام ويظنون أنه نوع من الهروب من الواقع المادي, ولكن يهربون إلى واقع مأساوي لكثرة ما يقارفونه من المعصية فتزداد أرواحهم تشتتاً, ولو أنهم لجؤوا إلى أفياء الإيمان وإلى ظلال السكينة التي تحصل من ذكر الله I ومن اللجوء إليه ومن مناجاته ومن العكوف على بابه لشعروا بارتياح كبير جداً .
كان الرسول r : ) إذا حزبه أمرٌ واشتدت عليه وطأة الحياة فزع إلى الصلاة (, يعني إلى الروحانيات, ولكن هذا لا يتأتى لهم لأنهم لا يؤمنون بالأصل بهذه القضايا كلها, فيعتقدون بأن الاستراحة من صخب الحياة يكون بكأس مترع من الخمر ويكون بمقارفة المعاصي واكتساب الإثم وهذا ما يزيدهم ظلمة على ظلمة كمن يداوي العليل بمزيد من ألم .
 
أرجو الله تعالى أن ينقذ البشرية جمعاء ويكرمها في الدارين.
أترككم في حفظ الله ورعايته إلى ملتقى قريب مع بقية سلسة المقابلة.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته و الحمد لله رب العالمين.
 
يمكنكم قراءة الجزء الأول من المقابلة من هنا