wwww.risalaty.net


أسباب الغفلة عن الله تعالى


بقلم : الشّيخ محمد خير الطرشان "المشرف العام"

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم، على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللّهم افتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نقوله حجة لنا ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.

سأتحدث عن أسباب الوقوع في الغفلة عن الله سبحانه وتعالى، وكيف نستطيع التخلص منها، وأبيّن أن الغفلة و الهوى هما أصل الشر، ومنبع الشر كله. ورحم الله الإمام ابن عطاء الله السكندري الذي يقول: "أصل كل معصية، وشهوة، وغفلة، الرضا عن النفس". وكأن الإنسان الغافل قد رضي بحاله، وشعر باطمئنان للحالة التي يعيشها, لذلك أصبح يقع في المعاصي والشهوات، وينغمس فيها دون أن يحاسب نفسه على ذلك أبداً.

^ آيات وردت في النهي عن الغفلة عن الله تعالى:

الغفلة صفة مذمومة, وهي صفة نقصٍ نَهَى الله - تعالى - عنها عبادَه, وحذّر من الوقوع فيها, ولذلك نزّه الله - سبحانه وتعالى - نفسه العليّة عن الغفلة في كل الأحوال, فقال:[]...وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ[] سورة البقرة (74). وقال:[]...وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ[] سورة المؤمنون (17). وقال أيضاً:[]وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ...[] سورة إبراهيم (42). فنلاحظ أن هناك صيغاً للنهي عن الغفلة وردت بعدة قرائن منها: أن الله سبحانه وتعالى لا يغفل عمّا يعمل عباده, ومنها أنّ الخلق جميعاً تحت سيطرة الله سبحانه وتعالى, فلا يَغفُل الله عن خلقه أبداً, كذلك الظالمون وأهل الظلم، فالله - سبحانه وتعالى - غير غافل عنهم. كذلك النبي صلى الله عليه وسلم، جاءه النهي من الله - سبحانه وتعالى - عن الوقوع في الغفلة, وحذّره الله - سبحانه وتعالى - منها, وبالمقابل حثّه على كثرة الذكر وملازمته؛ حتى يتخلص من الغفلة بكل شؤونه وأحواله. فقال الله سبحانه وتعالى:[]وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ[] سورة الأعراف (205). لاحظوا الصيغ التي أمر بها ربنا سبحانه وتعالى: ذكر الله تعالى في النفس بأسلوب التضرع, بأسلوب الخوف, بأسلوب الالتجاء, ودون الجهر من القول. أي: بصوتٍ خافتٍ، لا يكاد الإنسان يسمع إلا نفسه, وفي كل الأوقات, في الغداة وفي الأصيل (العشي)، وختم ذلك بالنهي عن الغفلة (لا تكن من الغافلين), أي لا تغفل عن ذكر الله، وعن مراقبة نفسك، وعن محاسبتها، والسيطرة عليها في كل الأحوال. وربنا - سبحانه وتعالى - لمّا وصف العباد، وصفهم أنهم يعيشون حالة الغفلة, فقال الله سبحانه:[]اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ[] سورة الأنبياء (1). ومع أن الإنسان يعلم أن الساعة موعدها قريب، بدليل قوله تعالى:[]اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ[] سورة القمر (1). ومع أنه يعلم أن الحساب كائن لا محالة منه, لكنه مع ذلك كله مُعْرِضٌ عن الله.

^ معنى الغفلة عن الله تعالى:

أيها الإخوة القراء! كيف نفسّر الغفلة عن الله تعالى؟ كيف نقرأ هذه الغفلة في واقع الناس اليوم؟ الذي يتأمل أحوال الناس في هذا العصر والزمان, يرى مطابقة هذه الآية تماماً مع واقع كثيرٍ منا:[]اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ[] سورة الأنبياء (1). وذلك من خلال ما نرى من الإعراض عن منهج الله سبحانه وتعالى, ومن خلال ما نرى من الغفلة عن الآخرة والحساب, ومن خلال ما نرى من الغفلة عما خلقَنا الله من أجله, واشتغالنا بما لم نُخلق له أصلاً. هؤلاء الذين يغرقون في هذه الأشياء كأنهم لم يُخلقوا للعبادة, وكأنما خُلقوا للدنيا وشهواتها, إن فكروا فكروا في الدنيا، وإن أحبوا أحبوا للدنيا، وإن عملوا عملوا للدنيا, فيها يتخاصمون، ومن أجلها يتقاتلون، وبسببها يتهاونون ويُقصّرون، أو يتركون كثيراً من أوامر ربهم تبارك وتعالى, حتى إن بعض هؤلاء مستعدٌ أن يترك الصلاة، أو يؤخرها عن وقتها، أو يضيّع فريضةً من الفرائض، أو حقاً من الحقوق، أو واجباً من الواجبات من أجل اجتماع عمل, أو من أجل مشاهدة مسلسل في التلفزيون، أو حضور مباراة لكرة القدم، أو إدراك موعدٍ مع صديقٍ أو شخصٍ آخر. ربما يفوّت فريضة، أو واجباً، أو يترك شيئاً عظيماً مما كلفه به الله سبحانه وتعالى. كل شيء في حياة هؤلاء له نصيب واهتمام, الوظيفة لها نصيبها واهتمامها, الرياضة لها نصيبها واهتمامها, التجارة لها نصيبها واهتمامها, الرحلات، الأفلام، المسلسلات، الأغاني، النوم، الأكل، الشرب، الطعام, الموائد العامرة, الزيارات, التفاخر..... كل شيء له حظ، ونصيبٌ، واهتمام في حياة هؤلاء الناس الذين يغفلون عما أوجب الله عليهم, إلا القرآن الكريم, إلا سنة النبي صلى الله عليه وسلم، إلا إقامة الدين، إلا إقامة التشريع الإسلامي، إلا الوقوف عند حدود الله، إلا الاتّعاظ، والاعتبار بما أمر الله سبحانه وتعالى، فنجد أحد هؤلاء المضيعين والغافلين، مع ذكائه وعقله، ومع تفتّحه في كثيرٍ من أمور الدنيا، إلا أنه لا يستفيد من عقله، ولا من ذكائه، ولا من حضوره فيما ينفعه في الآخرة, إن عقله لا يقوده إلى طريق الهداية، والاستقامة على شرع الله، وعلى دين الله الذي يضمن له السعادة في الدنيا والآخرة. وهذا واللهِ هو قمة الحرمان, غاية الحرمان أن يعيش الإنسان بذكاءٍ، وعقلٍ، ومالٍ، وجاهٍ، وسلطانٍ... ثم تراه مبتعداً عن جادة الحق والصواب، بعيداً عن طريق الهداية والاستقامة. يَصلُح على هؤلاء قول الله سبحانه:[]يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ[] سورة الروم (7). ففي قضايا الدنيا يدركون كل شيء، لكنهم عن الله - سبحانه وتعالى - غافلين، ترى الغفلة قد سيطرت عليهم، وقد انغمسوا في الدنيا وشهواتها، وابتعدوا عما يوجب مرضاة الله تبارك وتعالى. إنّ من يطّلع على أحوال هؤلاء، وما هم فيه من شدةِ جرأةٍ على ارتكاب المعاصي، والوقوع بها، ومن يطلع على تهاونهم فيما أمر الله سبحانه وتعالى به، أو ما نهى عنه, لَيقولُ في نفسه: إن هؤلاء لا يؤمنون بالقيامة، ولا يؤمنون بالنار، وكأنها قد خُلقت لغيرهم، نسوا الحساب، ونسوا العقاب، تَعَامَوا عما أمامهم من أهوالٍ، وشدائدٍ، وصعاب. هؤلاء الغافلون قال الله - سبحانه وتعالى - فيهم:[]لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ[] سورة الحجر (72). فقد شبّههم بأنهم في حال سُكْرٍ وتيهٍ عنه سبحانه، وهم في هذه الغفلة كأنهم سكارى، انشغلوا براحة أبدانهم, بحثوا عن سعادتهم في الدنيا الفانية, أهملوا سعادتهم في الأخرى الباقية, والدنيا كما نعلم جميعاً دار فناء وليست دار بقاء.كما قال الشاعر:

يا مُتعبَ الْجسمِ كم تسعى لراحتـهِ    أتعبتَ جسمكَ فيمـا فيه خسـرانُ

أقبِلْ على الروحِ واستكمِلْ فضائلَها     فأنـتَ بالروحِ، لا بالْجسمِ إنسـانُ

ذلك الذي يُتعب نفسه من أجل دنيا فانية، فيحصّل كل شيء من أجل الدنيا، وينسى الآخرة, ماذا جنى؟ وماذا حصّل؟ وماذا حصد؟ بكل تأكيد لا يحصد إلا الندامة، والخسران، والضياع, ونسأل الله - سبحانه وتعالى - العفو والعافية, أولئك ربما وقعوا تحت ما وصف الله - سبحانه وتعالى - به بعضَ عباده في قوله:[]وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى[] سورة طه (124). فالغافل عن ذكر الله تعالى وأوامره، حياته في شقاءٍ، فمهما حصّل من المال، ومهما جنى من الدنيا، لا تشعر منه نعمة ((الحمد لله)), تجده إذا شرب كأساً من الماء لا يقول: الحمد لله وقلبه مطمئن بالإيمان، تراه دائماً يشكو حاله ودنياه، وربما امتلك أموالاً طائلةً، لكنه يشعر بالفقر, يشعر بالفقر الحقيقي, لأن الغِنى الحقيقي إنما هو غنى النفس، وغنى القلب, وليس الغنى عن كثر الجاه والعَرَض, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "ليس الغنى عن كثرة العرض، ولكن الغنى غنى النفس". صحيح مسلم. الغنى الحقيقي مقرّه في القلب، إنه شعور بالأمان والطمأنينة، شعور بعدم الاحتياج للآخرين، شعور بأن ما كان لك سوف يأتيك على ضعفك، وما لم يكن لك لن تناله بقوتك. فهؤلاء يَصدُق عليهم قول الشاعر الذي تحدث عن الغفلة، وعن الزهد في الدنيا، فقال:

نهارُكَ يا مغـرورُ سهوٌ وغفلةٌ     وليلُكَ نومٌ، والـرَّدى لكَ لازمُ

وشُغلُكَ فيما سوف تَكرهُ غبّةٌ     كذلك في الدنيـا تعيشُ البهائمُ


شبّه حياته بأنها أقرب ما تكون إلى حياة البهائم، ليس عنده هدف في الحياة, لا يَشغَلُ نفسه فيما يرضي الله سبحانه وتعالى, لا يفكر فيما يُصلح حاله وحال الأمة، بل إنه كثيراً ما ينشغل باللهو، واللعب، والغرور، والغفلة عن الله تبارك وتعالى. أصحاب هذه الصفات مات عند الكثير منهم الشعور بالذنب إذا وقع أحدهم في معصية, مات عندهم الشعور بالتقصير, لا يرون أنفسهم مقصّرين أو مفرّطين أبداً، حتى إن البعض منهم يظن نفسه على خيرٍ عظيمٍ، فربما قدم عملاً صالحاً، ثم بقي طوال حياته يعيش في الذنوب، يتقلّب في المعاصي، وهو لا يبالي بها؛ ظناً منه أن عملاً صالحاً واحداً قدّمه في حياته يكفيه يوم القيامة، هذا الغافل ربما فاته أن يسمع، أو أن ينتبه لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إياكم ومحقرات الذنوب! فإنما مثل محقرات الذنوب كمثل قوم نزلوا بطن واد، فجاء ذا بعود، وجاء ذا بعود، حتى حملوا ما أنضجوا به خبزهم، وإن محقرات الذنوب متى يؤخذ بها صاحبها تهلكه". رواه أحمد. هذه المحقّرات من الذنوب لا يبالي بها كثير من الناس، فترى أحدَهم كلما ارتكب ذنباً من الصغائر، أو اللمم، يعطي نفسه فتوى فيقول: أستغفر الله، هذا ذنب صغير. الحقيقة: من أصرّ على الذنوب الصغائر فإنها تتحول إلى ذنوب كبائر, وذلك كما قال بعض العلماء. لذلك النبي عليه الصلاة والسلام أراد أن يحذرنا من الذنوب التي نحتقرها، ولا نقيم لها وزناً، ولا نأبه بها، فلا نبالي بغيبة، أو نميمة، لا نبالي في الخوض في أعراض الناس، أو عوراتهم. بعض الناس يفتخر بتتبع عورات الناس، فيقول: تتبعت فلاناً، ورأيت من عمله كذا وكذا, يظنّ أن هذا التتبع عملُ بطولة، وإنما هو في الحقيقة مفسدٌ لعمله الصالح, وممحقٌ لكل ما قدّم من خير. هذا كله فضلاً عن أنه ربما كان يقع في بعض الكبائر؛ كارتكابه الربا مثلاً، أو الزنا، أو الرشوة، أو عقوق الوالدين، أو إفساداً بين الناس, أو هتكاً للحُرُمات... وهذه كلها من الذنوب الكبائر، والتي أعد الله - سبحانه وتعالى - لها عقاباً عظيماً يوم القيامة. ربما يسأل البعض عن أحوال هؤلاء الناس الغافلين: أما آن لهم أن يعودوا إلى الحق والصواب؟ وأن يفارقوا هذه الشهوات واللذات؟ إن اللذات تذهب، ولا يبقى إلا التبعات، وإن الشهوات تنقضي، ولا تورث إلا الحسرات والخسران، إنه متاعٌ قليل، ثم عذابٌ أليم يوم القيامة. فليجتهدْ كلٌّ منا أن يخلّص نفسه مما يعيب به على بعض الناس من هذه الغفلة، فحينما أسمع أن بعض الناس غافلون عن ذكر الله سبحانه وتعالى، فالواجب عليّ أن أُقبل على ذكر الله، وأن أتخلّص مما وقعوا فيه من هذه الذنوب والمعاصي، سواء كانت صغيرة أو كبيرة. رحم الله من قال:

تَاللهِ لو عاشَ الفـتى في عُـمـرِهِ      ألفاً مـن الأعـوامِ مالكَ أمرِهِ

مُتلـذذاً فيـها بكـلِّ مُنَـعَّـمٍ      مُتَنَعِّماً فيـها بنُعـمى عصـرِهِ

ما كانَ ذلك كُـلُّـهُ في أن يفـي      بمَبيتِ أولِ لـيـلةٍ في قـبـرِهِ

كل هذه النعم التي يتقلب فيها الإنسان لا تعادل ثمن المبيت أولَ ليلة في قبره، عندما يكتب الله عليه الوفاة، وفراق الدنيا، فإن لم يكن له عمل صالح يكون له نوراً وضياءً في قبره؛ فقد خسر الدنيا، وخسر الآخرة. يقول الله سبحانه وتعالى:[]ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ[] سورة الحجر (3). أولئك الذين استمروا في غيّهم، ولهوهم، وعنادهم، ولم يفيقوا من غفلتهم وسُباتهم، ولم يتوبوا إلى الله تبارك وتعالى, دعهم يعيشوا كالأنعام, لا يهتمّون إلا بالطعام، والشراب، واللباس، والسهرات، والشهوات... ألم يأنِ لهم أن يعلموا أن هذه الحياة، وهذه النعم لها نهاية؟ وأن النهاية الحقيقية هي ما تؤول إليه حياة الإنسان المؤمن بالله تبارك وتعالى يوم القيامة؟ انظروا إلى هذا القول اللطيف:

أما واللهِ لـو علـمَ الأنـامُ         لِما خُلقوا لَما غفلوا ونـامـوا

لقد خُـلقوا لِما لو أبصـرَتْهُ        عيـونُ قلوبِهم، تاهوا وهـاموا

مماتٌ، ثم قبـرٌ، ثـم حشرٌ         وتــوبيخٌ، وأهـوالٌ عظـامُ

إذاً.. هذه حي حال الإنسان عندما يُقبل على الله تبارك وتعالى، يموت, يفارق الدنيا, ينزل إلى قبره, يتعرّض في قبره إما إلى نعيمٍ مقيمٍ، أو إلى عذابٍ مقيمٍ, ثم الحشر, وكلنا نعلم أهوال الحشر يوم القيامة، فإن كان من أهل الجنة، فإن الله - تعالى - يُكرمه، ويُنعِّمه، وإن لم يكن كذلك، فسيتعرّض إلى عذابٍ مقيمٍ، خالداً في جهنم، مخلداً فيها، نسأل الله - تعالى - العفو والعافية. هذه هي الغفلة عن الله تبارك وتعالى, الغفلة إنما هي لهوٌ، ونسيانٌ، وانشغالٌ عن الشيء العظيم بالشيء التافه, الحقير، الذي لا يساوي شيئاً في ميزان رب العالمين سبحانه وتعالى. هؤلاء الغافلون وصفهم ربنا - سبحانه وتعالى - بقوله:[]ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108)[] سورة النحل. وقد أمرنا الله - تعالى - بألا نطيع أهل الغفلة, وذلك في قوله:[]...وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا[] سورة الكهف (28). أي لا تطع من غرق في شهوتِه، وملذّاتِه، وكلِّ الأحوال التي تصرفه عن الله سبحانه وتعالى.

^ أسباب ومظاهر الغفلة عن الله تعالى:

أيها الإخوة القراء! بعد أن تبيّن لنا معنى الغفلة، وكيف يقع الإنسان في الغفلة عن الله سبحانه وتعالى, تعالوا بنا نتبيّن الأسباب التي تُوقع الإنسان في الغفلة. لا شك أن هناك أسباباً كثيرةً يقع الإنسان بسببها في غفلةٍ عن الله تبارك وتعالى, وأهم هذه الأسباب:

أ- الافتتان بالدنيا والانشغال بشهواتها:

كثيرٌ من الناس يغرق في دنياه، ويفتتن بها وبشهواتها الزائلة، ويغرق وينسى ربه سبحانه وتعالى. الأمر المخيف هو أن أكثر الناس في غفلةٍ عن الله، ودليل ذلك قول الله - تبارك وتعالى - في القرآن الكريم:[]...وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)[] سورة الروم. هنا يقرر الله -  سبحانه وتعالى - أن جُلَّ الناس يعيشون في حالةٍ من الغفلة عن الله تبارك وتعالى؛ لأنهم انهمكوا في الدنيا، وشهواتها، وملاذّها، وكل ما يصرف العبد عن ربه سبحانه، انغمسوا في التفاخر، وفي التكاثر، وفي الذرّية، وفي جمع الأموال، وفي التفاخر في البنيان، وفي التعاظم في الدنيا، وزينتها، غابوا، وتاهوا عما ألزمهم به ربنا، توجّهت قلوبهم وإرادتهم إلى الدنيا، فغرقت في شهواتها، عملت لها، وغفلت عن الآخرة، فلا تشتاق نفوسهم إلى الجنة، ولا تخشى النار، وهذا من علامات الشقاء، وهو علامةٌ وعنوانٌ ظاهرٌ وبارزٌ على الغفلة عن الله سبحانه وتعالى. نفوس المؤمنين أيها الإخوة تشتاق إلى الله، تشتاق إلى مناجاته، تشتاق إلى جنته, يقول صلى الله عليه وسلم: "من أحبَّ لقاءَ الله أحب الله لقاءَه، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه". صحيح مسلم. والصحابة الكرام - رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم - عندما اطّلعوا على هذه المعاني من حُبِّ لقاء الله، كانوا يسارعون، ويسابقون، ويتنافسون من أجل أن يلقى أحدُهم وجه ربه - سبحانه وتعالى - على حالٍ من الرضا والنعمة التي كانوا فيها, فعندما وقعت غزوة بدر الكبرى، وقام النبي - صلى الله عليه وسلم - في أصحابه يخطب فيهم، ويذكّرهم بالجنة، ويبيّن لهم فضل الشهادة في سبيل الله تعالى، كان هناك أحد الصحابة المقاتلين - ويقال له عمير بن الحمام - بيده تمرات يأكل منهن، فلما سمع كلام النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يحثّ على الجهاد والشهادة في سبيل الله تعالى، ويبين معاني البطولة، ألقى تلك التمرات أرضاً، وامتشق سيفه، ثم نزل إلى ساحة المعركة وقال: "إنْ هيَ إلا حياةٌ طويلة إن عشت حتى آكل باقي هذه التمرات!". هكذا فهم الصحابة لقاء الله سبحانه وتعالى، ورأوا الدنيا حاجزاً بينهم وبين الله، رأوها حاجزاً بينهم وبين الجنة، لذلك زهدوا بها، وأعرضوا عنها، وطلّقوها كما فعل سيدنا علي - رضي الله عنه - عندما خاطب الدنيا مرة فقال لها: "يا دنيا! يا صفراء! يا حمراء! غرّي غيري، أعرضي عني، فقد طلقتك ثلاثاً، لا رجعة لكِ البتّة". هكذا ضحك الصحابة والسلف الصالح - رضي الله عنهم - على دنياهم، حتى في زماننا هذا، في دنيانا المعاصرة، هناك من الناس من ضحك على دنياه، ووضعها تحت قدميه، ووضع المال، والجاه، والثروة بين يديه، وليس في قلبه، يسخّر هذا المال في موضعه الذي أمر به الله سبحانه وتعالى، يعطي الفقير حقه، يتفقد المسكين، ينظر في حوائج الناس، ويتفقدهم، ولا يلومه أحد على ما رزقه الله - سبحانه وتعالى - من هذه النعم.

ب- الانصراف والإعراض عن ذكر الله سبحانه وتعالى:

أولئك الذين لا يذكرون الله، لا قياماً، ولا قعوداً، ولا على جنوبهم، أولئك الذين لا يتفكرون في خلق الله، لا يتدبرون القرآن، ولا يقرؤونه أصلاً، إنهم يعيشون الغفلة بكل أصنافها، لذلك ربنا - تبارك وتعالى - وصفهم بأنهم منسيّون، حيث قال:[]وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ[] سورة الحشر (19). كيف نسوا أنفسهم؟ وكيف أنساهم الله أنفسهم؟ ذلك بإعراضهم عن الله سبحانه وتعالى، وانشغالهم عنه بما هو ذليل، وحقير، وتافه، غرقوا في الدنيا، والشهوة، والعصيان، فنسوا ربهم تبارك وتعالى، ونتيجة الإعراض نجدها مذكورة في الآية الكريمة:[]وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى[] سورة طه (124). والمعيشة الضنك، هي المعيشة الشديدة، معيشةُ المَشَقَّة, يلقاها العبد لأنه ابتعد وأعرض عن ذكر الله سبحانه وتعالى، وليس المقصود بذكر الله أن يمسك أحدُنا السُّبحة ويقول: سبحان الله، الحمد لله، لا إله إلا الله... هذه مظاهر الذكر طبعاً، ولكن المقصود بذكر الله تعالى مخافته, وأن نعيش على ذكر دائم، وصحوة دائمة من أوامر الله، ومن نواهيه، فإذا مررنا بآية فيها أمر ائتمرنا، وإذا مررنا بآية فيها نهي انتهينا، وكذلك سائر آيات القرآن الكريم، وأحاديث سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذاً.. عندما يعصي العبدُ ربَّه سبحانه، فإنما يعصيه لجهله بالله، ولغفلته عن جلال قدرة الله سبحانه وتعالى, وعن عِظَمِ شأنه, وعظيم حقه, والعصيان دلالةً أيضاً على أن العبد يعيش في حالةٍ من ظلمة القلب وقسوته، لذلك هو في حالٍ من الإعراض عن الله تبارك وتعالى, وبقدر ما يكون العبد يقظاً، بقدر ما يُقبل على الله، وبقدر ما يكون ذاكراً، بقدر ما يكون في مراقبة الله سبحانه وتعالى، وملازماً لذكره، ومتدبراً لآياته... فالانصراف عن ذكر الله مظهرٌ من مظاهر الغفلة, وإذا أراد الإنسان أن يعرف نفسه إن كان في حالِ غفلة عن الله، أو أنه حقاً متذكّر لله، فلينظرْ إلى نفسه؛ هل يذكر الله؟ هل يقرأ القرآن؟ هل يتدبر آيات الله في الكون؟ هل ينظر في الآفاق؟ هل يخشع قلبه إذا ذكر اسمَ الله؟ هكذا يجعل الإنسان نفسه أمام الميزان الدقيق.

جـ- عدم التدبر والتفكر في آيات الله ومعجزاته الكبرى:

يقول الله سبحانه وتعالى:[]وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ[] سورة يوسف (105). آيات الله في الكون كثيرة، عظيمة، واضحة للعيان, الشمس آية, القمر آية, الليل آية, النهار آية, الجبال آية, السحاب آية, إمساك الأرض آية, ثبات الأرض آية، جاذبيتها آية, الصوت آية... الإنسان نفسه فيه آيات عظيمة كما قال الشاعر:

أتَحسبُ أنكَ جُـرْمٌ صغـير        وفيكَ انطوى العالَمُ الأكـبرُ؟!

فهذه آيات عظيمة من آيات الله سبحانه وتعالى، تحتاج وقفات من التدبر، والتأمل؛ لتزيدَ العبدَ صلةً بالله، فما أجمل التدبر والتفكر! لأنه يزيد المسلمَ قُرباً من الله، ويزيده حالاً وصلةً بالله تبارك وتعالى، فلْنعلمْ - إذا كنا ممن يُعرض عن آيات الله في الكون - أننا من الغافلين عنه تبارك وتعالى.

ء- صُحبة السوء:

الصحبة الفاسدة (صحبة أهل السوء) سبب مهم جداً من الأسباب التي تجعل الإنسان غافلاً عن الله، فقد قيل قديماً: "الصاحب ساحب". وقيل أيضاً: "قلّي من تصاحب، أقُلْ لك من أنت". وقيل: "الطبعُ يسرق من الطبعِ". فمن جالس أهل الغفلة، وأهل الجرأة على المعاصي، سرى إلى نفسه ذلك الداء, من تجرّأ على الله في مجلسٍ من المجالس، ولم يجد من يردعه، أو يعظه، أو يذكّره، انتقل هذا الداء إلى غيره, مثل كثيرٍ من القضايا, فبعض الناس مثلاً اعتاد أن يستخدم ألفاظ الطلاق في مجلسه, فدائماً يحلف بالطلاق, ويحلف بالحلال والحرام, فينتقل هذا الخًُلُق السيئ إلى بعض زملائه, وبعض الأشخاص ربما لا يعرف لعب الورق، فإذا أدام المجلس مع زملائه الذين يلعبون بالورق، تعلّم منهم وسايَرَهم, بعض الناس لا يدخن، فإذا جلس مع المدخنين، فإن هذا الداء الخطير يسري إليه منهم, وهكذا فكل خُلقٍ، وكل طبعٍ سيئٍ وفاسدٍ، إنما سببه الصحبة الفاسدة, فلْنحرِصْ على ألا نصاحب إلا مؤمناً, كما ورد في الحديث الشريف: "لا تصاحبْ إلا مؤمناً، ولا يأكلْ طعامَك إلا تقيٌّ". صحيح ابن حبان. والله سبحانه وتعالى يقول:[]لَقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَذَا[1] فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ[2][]سورة ق (22). ويقول الشاعر:

وانتـبه مـن رقـدةِ الغفـ          ـلةِ فـالعـمـرُ قـليـلُ

واطَّــرِحْ سـوفَ وحـتى        فـهُـمــا داءٌ دخـيـلُ

أي لا تسوّف، ولا تنتظر، ولا تؤجل عمل اليوم إلى الغد؛ لأن التسويف، والتأجيل والتعليل، أمرٌ دخيلٌ على هذه الأمة، ويفترض أن يتخلص الإنسان من هذا المرض.

^ علاج الغفلة عن الله تعالى:

أ- ملازمة ذكر الله تعالى في كل الأوقات:

يقول تعالى:[]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا[] سورة الأحزاب (41). أمرنا بالإكثار من الذكر، وليس ذكراً عادياً. ويقول في آية أخرى:[]...فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا...[] سورة البقرة (200). فالمفروض أن نلازم ذكر الله تعالى في الليل والنهار.

ب- ترك المعاصي والتنّزّه من الذنوب:

قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن العبد إذا أخطأ خطيئة نكتت في قلبه نكتة سوداء، فإذا هو نزع، واستغفر، وتاب صُقل قلبه، وإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه". رواه الترمذي. أي إن عاد إلى الذنوب فإنّ اسوداد القلب يتضاعف، ويكثر حتى يعم القلبَ القسوةُ والظلمة. والله - تعالى - وصف هذه الحالة وقال:[]كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ[] سورة المطففين (14). أي إن الذنوب والمعاصي كانت سبباً لكثرة الران, وهي الظلمة والقسوة في قلوبهم.

جـ- الصحبة الصالحة:

مما يُبعد الغفلة عن الإنسان أن نختار صحبةً صالحة، كما قال الله تعالى: []وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ...[] سورة الكهف (28).  صاحب من يخاف الله ويتقيه، صاحب من يريد وجه الله، ويسعى إلى رضا الله سبحانه وتعالى، ولا تصاحب الأردى, كما قال الشاعر:

إذا كنتَ في قومٍ فصاحبْ خِيـارَهم      ولا تَصْحَبِ الأردى فتَردى مع الرَّدِي

^ خاتمة:

أيها الإخوة القراء! العبد مطالَبٌ أن يأخذ الحيطة، والحذر لدينه، وإيمانه قبل القيام بأي عملٍ؛ خشية أن يكون ذلك مما يَدخُل به الزلل، أو الخلل على دينه، وتدخل به الغفلة على قلبه، وتسيطر عليه, أيّ عملٍ من الأعمال لابد أن نَزِنْهُ بالميزان الصحيح, بميزان الشرع المستقيم, حتى لا يدخل علينا من خلاله أي غفلةٍ، أو أي زللٍ، أو أي خطرٍ على ديننا.

^ دعاء:

اللهم إنا نسألك أن تهبنا قلوباً يقظةً، وأن تعيننا على اغتنام الصالحات، وأن تجنبنا شرور الفتن، ما ظهر منها وما بطن, اللهم نسألك أن تجعلنا ممن يستمعون القول، فيتبعون أحسنه، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.

 

 

 



[1] هذا: أي الآخرة وما فيها.

[2] حديد: قوي، ثاقب، واطَّلعَ على الحقيقة.