wwww.risalaty.net


سار القطار.. فلننطلق معه!!


بقلم : ديمة هديب

على أعتابِ أيامٍ مضت وقفت.. وبحثت.. وتهتُ بين الحروفِ والأيامِ والساعات.. وهاجرتُ بينَ الألمِ والأمل.. وبين الدمعةِ والبسمة..

واستقرت قدماي في نهاية المطاف عند محطةِ قطار الأيام..

هنا استقبلته منذ أشهر وهنا أودعه.. يا لسرعة هذه الأيام !! وكأنها الغيوم تتحلقُ مسرعةً بأشكال مختلفة نظنها أحياناً عشوائية، لكنها منظمة ومرتبة فلربما رآها غنيٌ أموال البنوك تتكدسُ فوق بعضها وتبني بناءً شاهقاً.. ورآها فقيرٌ فراشاً وثيرا.. وفتاةٌ هناك تحلمُ بالغيوم فارساً مقداماً على جواده الأبيض الأصيل.. وشابٌ يرى بها قمرَ الزمان وسيدة النساء... وربما رأيتها طَهور المصلين وماءَ الصائمين وزمزمَ المعتمرين وتحملُ براءةَ الأطفال ونقاءَ القلوبِ الصافية وإعجازَ الله في السماء..

رائعةٌ هي الغيوم تطوف بنا فوقَ الأحلام تحملُ بين طياتها الخير؛ كم تتلهفُ أنفسنا لمن يحملُ بين جنباته معانيَ العطاءِ والبذل نتشَّوف له كما نتلهفُ للأيام الحبالى بالسعادة ..

فبينَ اليومِ والليلة يصلُ قطارٌ ويغادرُ الآخر سكةَ الحياة تاركاً وراءه أفراحاً وأحزاناً وأفكاراً تنتظرُ شعاعَ شمسٍ يخرجها إلى الحياة وأخرى تُطّلُ من قبرها لعلَّ يداً حانية تنقذها من سطوةِ الألمِ والحرمان ..

منذ أشهرٍ استقبلنا القطار والآن نودِّعه باثني عشر راكباً كلهم أدَّوا ما عليهم وعاشوا معنا.. منحونا من أوقاتهم وحياتهم والآن انتهت مهمتهم وسلَّموا الرايةَ لمن يليهم وجاءَ القطارُ الجديد وسيبدأ هو المهمة كما بدأ من سبقه..

ولكن نحن ماذا قدمنا لركابِ القطار ؟! اثني عشر راكباً وكلُ واحدٍ يحمل معه ثلاثين مهمة يؤديها بكل جِدٍ ونشاط؛ ففجره قد بزغ ووُزِعَت فيه الأرزاق وشمسه قد سطعت ثم لمعت وما لبثت أن غابت وانطفأت بالسواد آخذة قسطاً من الراحة ولبّى القمرُ النداءَ مسرعاً لأداءِ عمله بإتقانٍ وتفان؛ وكانتِ النجوم نِعمَ المعين له ثم ما لبثوا أن أدوا الأمانة وعادوا أدراجهم بانتظار العمل من جديد..

اثنا عشر شهراً مضت حاملةً معها كل يوم عبقاً جديداً للحياة يبشِّرُ بالخير ويطلبُ العمل؛ احتوت الحزنَ أحياناً والفرح أخرى..

تنفَّس فيها أطفالٌ طعمَ الحياة وتجرَّعَ آخرونَ مرارة الموت..

فيها كانت أحداثُ غزةَ المريرة وفيها كان الانتصارُ المؤزر..

فيها حُرمنا العديدَ من العلماء غابت عنا الأجسادُ لكنَّ القلوب والأرواح ما زالت مخلَّدة في عقولِ محبيهم وفي أسانيد طلابهم..

فيها فقدنا أصدقاء واكتسبنا آخرين..

فيها مرضَ أصحاء وفيها صحَّ مرضى..

فيها انتشرت أمراض وحدثت كوارث وفيها منَّ الله على أقوامً بالأمنِ والأمانِ والاطمئنان..

فيها لمسنا معنى الرجوع فكانت ليالي رمضان العامرة بالحب والطاعة والقربى..

وفيها لبَّى الحجيج نداءَ ربهم وعادوا كصفاءِ السماء في عيونِ الأطفال..

وفيها عادَ العيد ولا أدري بأيِّ حالٍ عادَ على أمةٍ يئنُّ أقصاها تحت وطأة اليد الآثمة..

وفي آخر يومٍ منها وقفت.. فلربما لن أقفَ بعدَ هذا اليوم في موقفي هذا في محطتي هذه..

أيامٌ وأيامٌ مضت واثنا عشر شهراً ودعتنا وهي تحملُ معها أنفاسنا وآجالنا..  

هاهي تهاجرُ كما هاجرَ الحبيبُ المصطفى صلى الله عليه وسلم وفي كل عام تُكررُ هجرتها مع اختلاف الأشخاص والأسماء..

حقاً حارَ فكري!! فكم هو البونُ شاسع بين هجرةِ هذه الأيام وهجرةِ أيام الحبيبِ فداهُ نفسي وروحي وقلبي.. فقد كان الناس وقتها يُحصونَ الثواني ويُعِدُونَ العدَّة ترحيباً بقدومِ الحبيبِ والشفيعِ صلى الله عليه وسلم الذي سيعطي للأيامِ بريقها ومعناها الإسلامي الحقيقي، فبعدَ طولِ معاناةٍ وألم ها هم يتذوقونَ طعمَ الأمنِ والسكنِ المادي ناهيكَ عن المعنوي والروحي فيحقُ لهم هذا الفرح وهذا الأمل بالأفضل والتطلعِ لمستقبلِ هذه الأمة..

ونحنُ يحق لأنفسنا علينا أن نقفَ على أعتابِ هذه الذكرى المباركة نتأملُ عاماً مضى حملَ بين طياته الكثير؛ما أنجزنا فيه وما حققنا وكم كان رصيدنا في الدعوة إلى الله والعمل للإسلام وكم وقفنا لهذا الدين وانتصرنا له لا لأنفسنا ..

هذه هي ذكرى الهجرة فإلى أين ستكون هجرتنا الآن ؟؟ فلنعقد العزم أنها الهجرة إلى الله وإلى العمل في سبيله والوقوف على بابه والبكاء على أعتابه والعودة إلى رحابه..

ها هو القطار الثاني ينطلق .. فحريٌ بنا أن نجمعَ المتاع وأن نقفَ أمام الباب ونتفق مع كلِ راكبٍ من ركابه على عملٍ نقدمه لديننا الغالي.. فلن يسير القطارُ إلا بعملٍ جاد وطاقةٍ عظيمة ووقوده الوقاد: ( رُبَّ همة أحيت أمة )     

وعلى الله توكلت...