خواطر في منتصف الليل
بقلم : ليث عمر عمر
إنه الليل : إلهام الشعراء ، وأنس المحبين ، وفيه نجوى التائبين ، يرى العاشق في قمره صورة فاتنه فإذا به يخاطبه ، وآخر قد قُدِّر اللقاء بينه وبين من يهوى فها هو يسامره .
جلست ذات ليلة من ليالي الربيع الجميلة على هضبة مرتفعة في قريتي المتواضعة ، وقد سَرَتْ فيَّ نسمة هادئة ، تحمل في طياتها أريج الورود ، فأصبحت تلك النسمة بما تحمله من شذى الأزهار كأنها عروس قد تطيّبت لزوجها فغدت كأنها حانوت عطار !
ثم أخذت انظر إلى البيوت التي من أمامي ومن حولي ، أما بصري : فقد توقف عند الجدران ، وأما خلدي فاخترقها ورأى أحوال الناس فيها ، فقلت لنفسي : كم من بيت وفد إليه الناس في هذا الوقت قائلين لهم : نهنئكم بالمولود الجديد . وبيت آخر أَمَّه القوم قائلين لهم : رحم الله فقيدكم الغالي.
كم من ذكر وأنثى اجتمعا في هذا الليل تحت سقف واحد بصفتهما عروسين سعيدين ؟! وغيرهما في هذا الغسق تفرقا فأصبحا طليقين شقييّن ؟!
وكم يا ترى من أشخاص قد ناموا في هذه الليلة متأهبين للسفر ، فلما أصبحوا وإذا بكل واحد منهما ذهب ليلبي القدر ، فواحد كان قدره في سفر انتهاء الأجل ، وغيره أضحى قدره ثروةً ومالاً وعملاً !
وليت شعري : كم من رجل في هذا الوقت البهيم لا يعرف النوم وطول ليله يتسهد لأنه صار من الطبقة الوضيعة ، وقد كان بالأمس من ذوي المناصب الرفيعة ! وغيره لم يزر جفنه الكرى وقد غرق بأحلامه كيف سيأتي عليه يوم غدٍ وهو أول يوم له في وظيفته العالية الجديدة !
كم من أم ضمت الآن إلى صدرها طفلاً رضيعاً وبجانبها آخر أكبر منه لا تملك له كسرة خبز تكون عنده بمثابة وجبة شهية ، وهناك بيوت تناول كلابها وهررها طعاماً لو قدم للفقراء لقالوا : جزى الله خيراً من قدم لنا هذه المائدة الملكية ! أين من يتفقد أحوال الناس في هذا الغلس ، أما آن لأحفاد قارون أن ينقرضوا ؟ ينفق الواحد منهم على الملاذ الحرام منها والحلال المال الكثير ولا ينفق في سبيل الله ولو الشيء القليل ، ورحم الله الشاعر إذ قال :
كيّس في الضياع في الخير نحس
تشتريه ربابةٌ من رباب
ثم تابع فكري الحر في سيره فأراني الأسرة البيضاء وعليها أجساد من شدة البلاء صارت صفراء فلم يتعهدهم أحدٌ بالزيادة وإدخال السرور على قلوبهم ، وآخرين قد اضجعوا على أسرة ناعمة تناسب حياتهم الرغيدة وقد غفلوا عن نعمة الصحة والعافية .
وما زلت أجوب في خلدي هنا وهناك حتى نظرت إلى الساعة وإذا بها الثالثة والنصف ليلاً فتذكرت في هذا الوقت تلك الوجوه النضرة التي خرَّت لعظمة ربها ساجدة ، وقد سمعت أذن قلوبهم صوت الحق سبحانه : } هل من سائل { وآخرين أخلدوا الآن إلى النوم وقد تعبوا من سهرتهم التي تسودها كؤوس الخمر وأوراق القمار ، وإذا بهم الآن يمرون من جانب الكلاب فلا يسمعون لها حسيساً لأنها هي الأخرى حان موعد نومها وقد تعبت من كثرة النباح وطول السهر ، فإذا أرادت الأمة الإسلامية أن تستعيد كرامتها وأن يرجع إليها سالف عزها فلابد أن يكون كل واحد من أفرادها راهباً في الليل مكافحاً في النهار بشتى أنواع الكفاح المجيد من علم نافع وصنعة متقنة ، وإيانا أن نقضي النهار نوماً والليل سهراً دون فائدة ؛ وإلا بقينا على حالتنا هذه والتي لا نحسد عليها من خذلان وجهل .
وبعد : فهذه بعض الخواطر التي جالت في فكري فأحببت أن أقدمها للناس كي تعم الفائدة ، فما كان من صواب فمن الله وحده ، وما كان من خطأ فمني ومن الشيطان والله منه بريء .
والحمد لله رب العالمين
التعليقات:
3 |
|
|
مرات
القراءة:
2943 |
|
|
تاريخ
النشر: 12/11/2008 |
|
|
|
|
|
|