فن التربية وتربية الفن
بقلم : الدكتور غانم رسلان
أصبحت عملية التربية في مجتمعاتنا اليوم عملية معقدة تتأثر بعوامل كثيرة الاختلاف والتشابك تجعل من عمل المربين أمرا صعبا عند قيامهم بالعمل لتحقيق نتائج إيجابية في بناء شخصيات اجتماعية متوازنة فاعلة مؤثرة في مجتمعاتها. إن تعدد مصادر التربية والهوية الضائعة في مجتمعاتنا العربية تعدان أكبر مشكلة معيقة للتربية الصحيحة لأن عدم وجود فكرة منهجية واحدة يتم على أساسها صياغة المجتمع وتربية أفراده يشكل معضلة ستظهر آثارها بعد مدة ليست ببعيدة إن لم تكن قد ظهرت فعلا. قد يقول قائل أن وجود التنوع والثقافات المختلفة في المجتمع أمر مفيد وسمة حضارية متقدمة وهذا صحيح شرط أن يتم صهر هذا التنوع في بوتقة فكرية واحدة والاستفادة من الثقافات المتعددة لصياغة وحدة ثقافية وأخلاقية وتربوية واحدة فالمجتمع يجب أن تكون له قيمه ومثله العليا المتجانسة والتي تبنى على التنوع والتجاذب بين الثقافات المتعددة ولكن في إطار من الوحدة الفكرية التي تسير بالمجتمع نحو هدف واحد عبر طريق واحد بأساليب متعددة ، أما أن ينخر الاختلاف والتنوع قواعد المجتمع وقيمه فهذا أمر خطير مخيف
إننا لو تعمقنا في فكر العولمة الذي يهيمن على العالم اليوم وبالرغم من خطره الماحق على الانسانية برمتها لوجدناه فكرا واحدا يبني قيما واحدة بالرغم من احتواءه على تنوع ثقافي واضح يعود في حقيقته وجذوره إلى القيم العليا والفكر الأساسي الذي يسيّر هذه العولمة ويقولبها بقالب واحد وهو الفكر العلماني الرأسمالي
لن أدخل في كلام الايديولوجيات والنظريات ولكن أؤكد أن التربية يجب أن تكون مبنية على قيم عليا راسخة وأفكار أساسية مبدأية واضحة وتحت هذا الإطار يمكن أن تكون هناك وسائل متنوعة وأساليب مختلفة متجددة تعمل على إيجاد هذا النسيج الواحد من التربية في المجتمع ، هذه الأساليب والوسائل هي ما نطلق عليه فن التربية . فالتربية التي أخذت تصبح علما وثقافة أساسية في المجتمعات الإنسانية يجب أن تنزع نحو تشكيل وحدة روحية وثقافية واجتماعية معتمدة على وسائل وطرق متنوعة حتى تستطيع النفاذ إلى كل أطياف المجتمع ومخاطبة كل شرائحه ، ففن تربية الأطفال يختلف عن فن تربية المراهقين والشباب وهذا يختلف عن فن التعامل مع الكبار والمسنين وغيرهم وفن التربية للواعين المثقفين يختلف عن فن التربية للأميين أو محدودي الثقافة وهكذا .........
ومن وسائل التربية وفنونها أن نستعمل الفنون والآداب والإعلام والعلوم الانسانية وكل أسلوب يمكن أن يؤدي دوره الفعال في هذه العملية الهامة ولكن للأسف نجد اليوم أن الأمر قد أصبح مقلوبا على رأسه فقد أصبحنا نعيش عصر تربية الفن بدلا من اتقاننا لفن التربية إذ أصبح الفن بألوانه المختلفة الخبز اليومي الذي يستهلكه كل الناس وأصبح يطغى على كل ألوان الثقافات والاهتمامات الأخرى
أطفالنا ومنذ أن تدب أرجلهم على الأرض نبدأ بتعليمهم فنون الرقص من شرقي وغربي وباليه وغيره ونصفق لهم إذا أخذوا يتقنون هذا الفن ونجازيهم عليه خير الجزاء
الرقص والدبك أصبح لهما معايير اجتماعية مستقرة في السهرات والاحتفالات وفي شتى المناسبات الاجتماعية والوطنية فلا تكاد تخلو سهرة أو مناسبة أو سيران أو رحلة سياحية من دبك وغناء ورقص تعبيرا عن الفرح والسرور.
أسرنا اليوم كلها تجلس مسمرة أمام الفضائيات وهي تتابع المسلسلات والتمثيليات والكليبات، لغة الكلام انقطعت والتواصل الاجتماعي تفكك ولم يعد هناك مجال للحوار والنقاش والتفكير المشترك فألكل يجلس أمام التلفاز وأمامه كم هائل من الثقافات الجاهزة الموجهة والمصنوعة بقالب من الفن الدرامي المبهر بأضوائه وألوانه والذي يدفعك إلى قبول كل ما يعرض عليك وان كان يخالف قناعاتك ومفاهيمك
اليوم في مدارسنا ومناهجنا الرسمية مادة التربية الفنية مادة رئيسة نقلت الفن من مفهوم الهواية والإمكانات الخاصة التي يجب الاهتمام بها ورعايتها وتطويرها إلى مفهوم الإلزام، وبغض النظر عن مستوى الاهتمام بمادتي الرسم والموسيقا فإن السؤال الأهم هل يستدعي الأمرأن نفرد لهما حصة أسبوعية مستقرة على مدى سنوات من حياة الطالب وما هو مستوى الثقافة الموسيقية التي نحتاج إليها في حياتنا لتكون هذه التربية الفنية ثقافة متواصلة إلى هذا الحد والمستوى
الأغاني اليوم ( بعجرها وبجرها) أصبحت مادة رئيسة من مواد حياتنا كطعامنا وشرابنا وأصبح لها وجود ثابت في أي مجال من مجالات الحياة، في البيت والعمل والسيارة والنزهة والرياضة، الجوالات أصبحت رناتها أغنيات ورسائلها كليبات و فيديوهات ، لم تعد هناك حاجة إلى أن تؤلف كلمة تخرج من قلبك إلى قلب من تحبه بل عليك أن تستعير إحدى جمل الأغنيات مدعومة بأجواء موسيقية شبابية أو كلاسيكية تيسر لك قبول كلماتك حسب الموقف والمناسبة
الإعلام اليوم يسلط الأضواء على الفنانين والمشاهير منهم أكثر من تسليطه الضوء على الأوضاع والظروف والقضايا السياسية والاجتماعية ، فالفنان هو المايسترو الذي يقود الاعلام في ساحات الرأي العالمي و المشاهير هم الذين يجعلون الكاميرات تلهث وراءهم ترصد كل حركاتهم و سكناتهم ، هذا تزوج وهذا عشق وهذا طلق ، أخبار سخيفة تجعل العالم كله متوثب لمعرفة أسرار ذلك الفنان أو الفنانة بدلا من أن يحاول فك الأسرار الغامضة التي تحيط بحياته وتخنق كل طموحاته و إمكاناته ، ماذا يضاف إلى ثقافتي إن كان الممثل أو الممثلة الفلانية تزوجت أم طلقت ماذا يضيف إلى علمي إن كان قد لبست العقد الفلاني والثوب الأحمر أم الأصفر ، لماذا تسلط الأضواء على ولادة طفل لممثلة شهيرة سوف يستهلك هذا الطفل من الطعام والثياب والألعاب ما يكفي قرية افريقية فقيرة معدمة لينقلها إلى مستوى الكفاف أو الغنى.
من يظن أنني ضد الفنون والفنانين فهو مخطئ ، فأنا أعشق الفن الراقي من شعر أو أدب أو لحن أو موقف درامي معبر يهدف إلى زرع فكرة وقيمة إنسانية عليا وثقافة راقية و لكن أتحدث اليوم عن هذه التربية الطاغية للفن في حياتنا و حياة أجيالنا الواعدة ، أتحدث عن فن الصرعات والتقليعات و الكليبات الهابطة الماجنة ، أتكلم عن تجارة الفن والمتعة في حياتنا و تجارة فن الأضواء و الشهرة، أتكلم عن ضرورة نبذ هذه التربية الفنية من حياتنا بكل صورها القاتمة والمخادعة والبحث عن سبل أفضل ووسائل صحيحة لغرس التربية الحقيقية في أمتنا المنوط بها أن تخلق أجيالا تعشق وطنها وأمتها وتترنم بحب القيم الفاضلة والأخلاق الأصيلة و تتغنى بقيم الخير و مفاهيم الحب الحقيقي والانتماء الصحيح للأمة العالمة العاملة الفاضلة وتعتز بكل فكر بناء يزدهر به الوطن و تنهض به العقول و تتألق فيه الأرواح و تبتعد عن كل تربية تحدد للناس عقولهم ووعيهم وتفكيرهم في أفق ضيق فاسد أوتجعل منهم شعوبا راقصة هزازة لا استقرار لهم ولا قرار ..
.....................................................................
ملاحظة : هذه الرؤية وردت إلينا عبر البريد الإلكتروني ، ونظراً لما تحمله من معان قيمة وملامح نقدية هادفة ، حرصنا على نشرها ضمن موقعنا ، لنستعرض آراءكم حول ماورد فيها من مواقف تصلح لأن تكون منهجاً دقيقاً في تربية الفن وفن التربية في واقعنا .
إدارة التحرير
التعليقات:
3 |
 |
|
مرات
القراءة:
3918 |
 |
|
تاريخ
النشر: 31/07/2008 |
 |
|
|
|
|
|