سنة التداول
بقلم : د. محمد عمارة
سنة الله في تاريخ الأمم والشعوب والحضارات هي "سنة التداول" "وتلك الأيام نداولها بين الناس" ( آل عمران: 140).. فإن سير التاريخ والحضارة والثقافة ليس خطا صاعدا للتقدم دائما وأبدا.. ولا خطا هابطا لتخلف دائما وأبدا.. وإنما هو "تداول الدورات" .. ويعبر عن هذه السنة والقانون حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- "لا يلبث الجور بعدي إلا قليلا حتى يطلع فكلما طلع من الجور شيء ذهب من العدل مثله، حتى يولد في الجور من لا يعرف غيره. ثم يأتي الله تبارك بالعدل، فكلما جاء من العدل شيء ذهب من الجور مثله، حتى يولد في العدل من لا يعرف غيره" رواه الإمام أحمد.
لأن هذه هي السنة الإلهية في مسارات الأمم والشعوب والحضارات والثقافات، فلقد جاء حين من الدهر على الحضارة الإسلامية دخلت فيه مرحلة التراجع والركاكة والتقليد والجمود، عندما طالت قرون الأخطار الخارجية التي هددت الوجود - صليبية ومغولية - فأسلمت الأمة للعسكر المماليك - وكانوا غرباء عن روح الحضارة العربية - فحرروا الأرض، وحفظوا وجود الإسلام وحضارته.. لكن عسكرة الدولة في ظل حكمهم الطويل قد أثمر عسكرة المجتمع .. فتراجع إبداع الاجتهاد الفقهي لحساب التقليد .. وتراجعت العقلانية الإسلامية لحساب الخرافة التي حسبت غير التصوف زورا وبهتانا .. وتراجعت بلاغة التعبير في النثر لحساب الركاكة ..
وتراجع الشعر عن الجمال عندما تحول إلى محسنات شكلية وصناعية - سموها بديعية - لا تؤهلها المعاني والمضامين التي تحملها كي تكون شعرا حقيقيا..
ولقد استمر هذا التراجع بدرجات متفاوتة .. ومع بعض الاستثناءات على النصف الثاني من القرن التاسع عشر الميلادي..
فمع تبلور مدرسة الإحياء والتجديد الإسلامية الحديثة.. التي كان جمال الدين الأفغاني -1254-1314هـ/1838-1897م- رائدها.. والتي كان الإمام محمد عبده -1266-1323هـ/1849-1905م- مهندسها الأكبر.. تحرر التعبير الأدبي من الركاكة والسجع والتقليد .. وعاد الاتصال بين أساليب التحرير العربية وبين سلاسة عصر الجاحظ (163-255هـ/780-869م) وبلاغته..
وأيضا كان الإحياء والتجديد في شعر العربية الذي بدأه محمود سامي البارودي (1255-1322هـ/1839-1904م) وتألق فيه أمير الشعراء احمد شوقي (1285-1351هـ/1868-1932م) وحافظ إبراهيم (1287-1351هـ/1871-1932م) وأحمد محرم (1294-1364هـ/1877-1945م) ومحمود حسن إسماعيل (1328-1398هـ/1910-1977م) وعمر بهاء الأميري (1334-1412هـ/1915-1992م)..
وفي هذه المدرسة التي ارتاد ميدانها البارودي، وكان شوقي أميرها عادت للشعر العربي مرة أخرى العروة الوثقى بين جمال الشكل التعبيري وبين المضامين الملتزمة بأخلاقيات الإسلام وقيم الحضارة التي أبدعها الإسلام..
ولأن مدرسة الإحياء والتجديد هذه في ميادينها المختلفة إنما كانت تحارب في جبهتين:
جبهة التجديد الذي يستخلص خير ما في موروثنا العربي والإسلامي.. ويفكك قيود التخلف والجمود والتقليد والخرافة التي تحول بين العقل المسلم وبين الإقلاع الحضاري..
وجبهة التصدي للغزوة الاستعمارية الغربية الحديثة التي قادها بونابرت (1769-1821م) على مصر (1213هـ-1798م) .. فإن مدرسة الإحياء والتجديد الشعري قد وجدت نفسها هي الأخرى تحارب على ذات الجبهتين تحارب الركاكة والتقليد في الأشكال والمعاني وتحارب الحداثة الغربية التي جاءتنا في ركاب جيوش الاستعمار..
________
* عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين.
التعليقات:
1 |
|
|
مرات
القراءة:
4113 |
|
|
تاريخ
النشر: 20/08/2008 |
|
|
|
|
|
|