نعمة الله الباطنة
بقلم : دعاء الأصفياء
بسم الله الرّحمن الرّحيم
والصّلاة والسّلام على رسوله الكريم
سِفرٌ لا كغيره من الأسفار، حوى كثيراً من الفصول والأبواب، وكلّ فصل فيها يتحدّث عن جانبٍ من جوانبها الحافلة بالأحداث. وفي أحد فصولها الّذي يحمل عنوان "النّعم" أحببت أن أخوض رحلة، وعندما بحثت في أبواب هذا الفصل استوقفني باب ذو عنوان غريب، ما توقّعت أن أجده ضمن هذا الفصل، هذا العنوان "المصيبة"، أغرب ما في هذا العنوان أنّه مصنّفٌ في النّعم! وكيف للمصيبة أن تكون نعمة؟!
بدأت أسبح بتفكيري في بحر هذا العنوان، علّي أفهم سبب وجوده في هذا القسم من الكتاب. جعلت أقلّب الصفحات، وأجيل النّظر فيما يتعرّض له الخلق من مصائب وابتلاءات، وإذ بي أجد أناساً قد خلّفت المصيبة في قلوبهم ما لا يحصى من الأحزان والهموم، وبيوتاً قد تلبّدت في سمائها مُعكِّرةً صفاءها سودُ الغيوم. فهذا قد أعياه المرض، وما ترك نوعاً من أنواع العلاج إلا واستخدمه، ولكن دون جدوى. وهذا ثريّ قد حاز على قسم من زينة الحياة الدّنيا، وفُتحت له أبواب السّماء بالأرزاق، لكنّه حُرِم القسمَ الآخر، فلا أولاد يضمّهم إلى حضنه، ويُسكنهم في أعماق قلبه. وعلى العكس تماماً وجدت آخرَ يمتلئٌ قلبه سروراً كلّما رنا إلى أولاده وهم يقفزون كالفراشات، مالئين البيت مرحاً وبهجة، إلا أنّ هذا البيت متواضعٌ جدّاً، ولا يكاد يتّسع له ولأهله وأولاده، وبالكاد يجد ما يسدّ به رمقه ورمق عائلته. وفي صفحة أخرى وجدت الظّلمَ مخيّماً على رأس هذه المسكينة الّتي سلبها أخوها حقَّها من الميراث، واليأسَ جاثماً على قلب تلك الفتاة الّتي ما دقّ بابها خاطبٌ إلى اليوم. أمّا ذاك الأب الّذي ما قصّر في تربية ابنه، وما أنقص عليه حاجة من الحاجات؛ فقد اكتوى بنار الألم من هذا الابن الّذي قابله بالإساءة والعقوق والنّكران، بعدما أغرقه بالبرّ والعطف والإحسان...
يا لها من دنيا عجيبة! يبدو أنّها مليئة بالأكدار، لكنّني لم أفهم بعد، بحثت أكثر لأتعرّف على هذه النّعمة الغريبة من نوعها، وأطّلع على أنواع العقبات، وكلّما انتقلت إلى صفحة أجد فيها مصيبة أكبر من أختها في الصّفحة السّابقة.. امرؤٌ مفارق لأحبته.. مظلوم لا يعرف كيف يأخذ حقّه.. أخٌ يظلم أخاه.. ابنٌ يعقّ أمّه وأباه.. مُقعدٌ يمكنه أن يرى الأقدام تخطو على الأرض، لكنّه لا يحلم يوماً بأن يري قدميه كسائر الأقدام.. شخصٌ ينعم بقدمين سليمتين، ويمشي عليهما بكلّ حرّيّة، لكنّه فقد البصر، فلا نورٌ يراه، ولا منظرٌ يمتّع به مرآه.. زوجةٌ خدمت زوجها أعواماً عديدة، ولو طلب منها عينيها لجادت بهما، لكنّه في النّهاية ما رعى حقّها وطلّقها.. شخصٌ قد أكرمه الله، وأغدق عليه من نعمه، فما طاب لكثير من النّاس دوام هذه النّعم، بل أرادوه ضعيفاً مُلقىً على هامش الحياة، فمضوا إليه بنار حسدهم مُحاولين إحراق ما لديه من نعم وميّزات.. بلدٌ يئنّ تحت وطأة الاحتلال ولا يجد من يعينه، وقد طُحِن أهله برحى الظّلم والتّجويع، والأسر والتّشريد، والحصّار والدّمار، لا طعام ولا كهرباء، لا خبز ولا ماء، ولو تمكّن أعداؤه لقطعوا عن متنفّسه الهواء...
يا إلهي!! أمرٌ مُتعبٌ حقّاً! قد قرأت الآن عدداً كبيراً من الصّفحات، ولم أجد بعد ما يبيّن أن المصيبة نعمة! بل إنّني لا أجد إلا بيوتاً تغزوها المشكلات لتنشر في أرجائها جيوشاً من الأحزان، ومصائب تملأ العيون بالعَبَرات، لتُذهِب لَذَّة النّوم عن الأجفان، وزفرات وآهات وأنّات تنطلق من قلوب كثيرٍ من بني الإنسان، ولو استحال البحر لكلٍّ منهم مِداداً ما كفى عبارات بعبّر بها عمّا لديه من أشجان.
تابعت القراءة في هذا الفصل العجيب من فصول الدّنيا، وأكثرت من البحث بين ثنايا صفحاته عمّا يثبت أنّ هذا العنوان يصلح لهذا الفصل، وأخيراً وقفت على محطّة تفسّر الغموض في عنوان هذا الباب، وتزيل عن قارئه الدّهشة والاستغراب، ألا وهي مقتطفات من كتاب الله وسنّة رسوله صلّى الله عليه وسلّم، فعندما نعلم أنّ المصيبة يمكن أن تكون رسالة للمذنب من الله جلّ وعلا ليرجع عن ذنوبه ندرك أنّ المصيبة نعمة، وحينما نعلم أنّ المصيبة يمكن أن تكون سبباً في نجاة المرء من مصيبة أكبر منها ندرك أنّ المصيبة نعمة، وحينما نعلم أنّ المصيبة رفعٌ لدرجات المؤمن عند ربّه ندرك أنّ المصيبة نعمة، وحينما نعلم أنّ وراء المصيبة حكمة إلهيّة جليلة ندرك أنّ المصيبة نعمة، فهذا الفقير الّذي يشقّ عليه اكتساب المال ربّما كان فقره امتحاناً من الله له ليجزيه به الجنّة إن صبر، وذاك المريض الّذي لازمه المرض ربّما كان مرضه تكفيراً له عن أكوام من الذّنوب المتكدّسة بين أعماله، وذاك الّذي لا يمكنه السّير على أقدامه ربّما مشى بهما إلى الحرام إن كانتا سليمتين، فأنجاه الله سبحانه وتعالى من هذه المعصية، والّذي لا ينعم بنعمة البصر ربّما كان البصر عليه نقمةً فنظر إلى محارم الله، وربّما كان فقدُه بصرَه اختباراً من الله ليثيبه على صبره الثّواب العظيم، فرسولنا عليه الصّلاة والسّلام يقول: «إنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ قَالَ: إِذَا ابْتَلَيْتُ عَبدِي بحبيبتَيْهِ فَصبَرَ عَوَّضْتُهُ مِنْهُمَا الْجنَّةَ». (رواه البخاري). وتلك الّتي تُمضي سني حياتها منتظرةً تحقيق أملها بالزّواج ربّما ابتليت بزوج عاصٍ لله، فأدّى ذلك إلى فقدانها دينها، وربّما أخّر الله زواجها ليكرمها بعد صبرها بزوج يسعدها ويأخذ بيدها إلى الجنّة، ورّبما كان عدم زواجها هو مادّة امتحانها الّتي إن نجحت فيها عوّضها الله بخير زوج في الآخرة. وإن قرأنا قول رسول الله صلى الله عليه وسلّم عندما سُئل عن أشدّ النّاس ابتلاء: «يا رسول الله! من أشد الناس بلاء؟ قال: الأنبياء، ثم الأمثل، فالأمثل، ويبتلى العبد على حسب دينه، فما يبرح البلاء بالعبد حتى يدعه يمشي على الأرض وما عليه خطيئة» (صحيح ابن حبّان). عندما نقرأ هذا القول ندرك أنّ المصيبة نعمة، بل هي من خير النّعم.
هذه هي المصيبة، قدرٌ محتوم لا بدّ أن يتعرّض له كلّ منّا، فتأتي لبعضنا كي تغسله من ذنوبه؛ ليلقى الله نقيّاً طاهراً من كلّ معصية، وتأتي لبعضنا ممّن يكون غافلاً مبتعداً عن الطّريق الّتي رسمها له الله جلّ وعلا، وبسببها يصحو من غفلته، ويعود للسّير على طريق الهدى والسّعادة، وتأتي لبعضنا لترفع من مكانته عند الرّحمن، وتزيد درجته في الجنان. ومن يقرأ قوله صلّى الله عليه وسلّم: «الدنيا ليست دار قرار، ولكنها دار ابتلاء واختبار». يدرك أنّنا ضيوفٌ فيها، وبالطّبع لا يمكننا دخول دارٍ دون أن نلتقي بساكنها. ومن أراد أن يكون في الأعالي لا بدّ له أن يطير حتّى يصل إليها، ومن أراد الطّيران لا بدّ أن يملك جناحين، وهذا الجناحان لا يتشكّلان إلا بالصّبر على المصائب. ومن يقرأ قوله تعالى:]وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا[ (سورة الإنسان/12). يدرك أنّ الجنّة غالية، وما علا قدْره غلا ثمنه. ومن ينظر إلى حياة سيّدنا محمّد صلّى الله عليه وسلّم، ويرى ما لازمه من بلاء وامتحان ومصائب؛ يجعله خير أسوة له، وإذا ما دقّق في تفاصيل ما تعرّض له هذا النّبيّ الكريم من عذاب وآلام في الطّائف، ثمّ نظر إلى المكافأة الّتي لقيها في الإسراء والمعراج فُتحتْ له أبواب الأمل، واطمأنّ بالله الّذي ما أنزل به المصيبة إلا ليقرّبه منه، ويعلي مقامه، فما بعد العسر والضّيق إلا اليسر الانفراج، وما بعد الحزن والكرب إلا السّرور والابتهاج، وما بعد الطّائف إلا الإسراء والمعراج.
نعم.. تمرّ على الإنسان أحوالٌ يضيق فيها صدره، ويحزن قلبه، ولسنا أفضل من أحبّ الخلق إلى ربّه، وقد تعرّض لكثير من الأحزان، منها وفاة فلذة كبده إبراهيم، حيث قال: « إنّ العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضي ربّنا». (صحيح البخاري). فالحمد لله على البلاء، لولاه ما ارتقينا، ولولاه ما هجرنا ذنوبنا، ولولا مرارته ما عرفنا حلاوة الصّبر والرّضا. وما أحلى أن نتذكّر في هذا المقال قولاً من أروع الأقوال لسيّدنا عمر بن الخطّاب رضي الله عنه: "ما ابتُليتُ ببليّة إلا كان لله عليّ فيها أربع نعم: إذ لم تكن في ديني، وإذ لم أحرم الرّضا، وإذ لم تكن أعظم، وإذ رجوت الثّواب عليها".
الآن زالت دهشتي، وأدركت أنّ خير فصل لتصنيف المصيبة ضمنه هو فصل النّعم، فهي نعمة عظيمة، ولكن ما يميّزها عن غيرها من النّعم أنّ المرء لا يدركها إلا إذا أدرك أنّ وراءها فوائدَ جمّة، وحِكَماً عظيمة، فهي ما أشار إليه ربّنا سبحانه وتعالى في قوله:]وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً[ (سورة لقمان/20).
فيا له من عنوان
المصيبة
*** نعمة الله الباطنة ***
وهذه هي الحياة
(أقدار)
التعليقات:
1 |
|
|
مرات
القراءة:
3369 |
|
|
تاريخ
النشر: 22/09/2009 |
|
|
|
|
|
|