من أيّ جماعات النّمل تحبّ أن تكون؟؟؟
بقلم : دعاء الأصفياء
بسم الله الرّحمن الرّحيم
والصّلاة والسّلام على رسوله الكريم
أنّ ملِكاً في يده من الأملاك ما لا يعدّ ولا يُحصى، من بينها عددٌ هائلٌ من النّمل. أراد ذات يوم أن يجري اختباراً لتلك النّملات، فجمعهنّ وقال لهنّ: "سأبني قرية كبيرة على ضفّة النّهر، وسأجعلها لكنّ سكناً أضع فيه كلَّ ما تحتجْنَ إليه من حاجات تمدكنّ بالحياة، وسأملؤها بأشياء تجعل عيشكنّ ناعماً رغيداً، وأشياء تتطلّب الصّبر والعمل الجادّ الدّؤوب. وبعد مكوثكنّ في هذه القرية مدّة من الزّمن سأقوم بهدمها، ولكن لا تقلقن؛ فقد بنيت لكنّ على الضّفة الأخرى من النّهر مدينة عظيمة جدّاً، فيها من وسائل الرّاحة والسّعادة ما تنعمن به أبد الدّهر، وستكون هذه المدينة الجميلة مسكنكنّ الدّائم. ولكي تَعبُرْن النّهر بعد هدمي قريتكنّ سأمدّ لكنّ جسراً لتمشي كلّ واحدة منكنّ عليه وتصل بسلام إلى الضّفّة المقابلة، حيث المسكن المُريح والعيش المرفّه، ولكنّ الجسر الّذي سأضعه لكنّ لا يمكن عبوره إلا بشرط، فاستمعن له جيّداً: خلال وجودكنّ في هذه القرية المؤقتّة سأنتقي أفضل نملة منكنّ وأعطيها عدداً من التّعليمات الّتي ستكون سبباً في تمكّنكنّ من عبور النّهر، وبفضلها ستنجون من الغرق، وسأكون راضياً عن صنعكنّ، وأغمركنّ بالمكافآت والجوائز فضلاً عن انتقالكنّ إلى تلك المدينة الرّائعة، وبعد أن أعطي هذه النّملة التّعليمات ستقوم هي بدورها بتوزيعها عليكنّ من أجل تطبيقها، فاحرصن جيّداً على ذلك، وإيّاكنّ أن تنشغلن عن تنفيذها بما تحتويه قريتكنّ من مباهج وطيّبات! تلك التّعليمات هي وسيلة النّجاة بالنّسبة لكنّ، ومن لم تعمل بها فلن تتمكّن أبداً من الوصول إلى المدينة الأبديّة المريحة، بل إنّها ستسقط عن الجسر، وستلقى مصيرها غرقاً في النّهر. فهل تقبلنَ بما أعرضه عليكن؟". عندها أجابت النّملات جميعاً دون استثناء: "نعم. نقبل". فقال الملك: "إذاً فلتدخلن القرية، ولتبدأن العمل". وبالفعل دخلت النّملات قريتهنّ واستقرَرْن فيها...
بدأت النّملات ببناء المساكن، وجمع الطّعام وتخزينه، وعشن في هذه القرية مطمئنّات. والآن قد حان دور النّملة المطيعة للملك لتنشر ما أعطاها من تعليمات على باقي النّمل ليعملن بموجبها؛ طلباً لرضا الملك، واتّقاءً للغرق في النّهر. ولكنّ أمراً عجيباً قد حدث بعدما استمعت النّملات لما ألقته فُضلاهنّ من تعليمات؛ فقد تقسّمن إلى جماعات عديدة، وكان لكلّ جماعةٍ منهنّ موقف يختلف عن مواقف الجماعات الأخرى: فإحدى الجماعات أعرضت عن التّعليمات الّتي تلقّتها ولم تنفّذ أيّاً منها، بل إنّها انشغلت بالعمل على تحسين معيشتها لتكون سعيدة أكثر في هذه القرية الجميلة، ونسيت أنّ هذه القرية ستُهدم من قِبل الملك وتزول. جماعة أخرى أنكرت صحّة التّعليمات وقالت للنّملة الحكيمة: أنتِ كاذبة، وهذه التّعليمات خاطئة ومفتعلة من عندك، ولا يوجد ملك أصلاً، ولن تُهدم هذه القرية، ولن تكون هناك مدينة أخرى. جماعة ثالثة قامت بتغيير التّعليمات كلّيّاً، وأوجدت تعليمات جديدة تناسبها وتريحها، وادّعت بأنّ التّعليمات الّتي أوجدتها هي الصّحيحة. جماعة رابعة أخذت التّعليمات وعملت على تنفيذ ما أعجبها منها، أمّا التّعليمات الّتي لم ترق لها ووجدت فيها بعض المشقّة فقد قامت بتحريفها أيضاً. وجماعات أخرى عديدة قد أخذت بالتزام الأوامر وتطبيق التّعليمات، ولكنّها اختلفت على بعض منها، وفسّرتها كلّ جماعة على الشّكل الّذي تراه صحيحاً، وازداد النّقاش والخلاف بين تلك الجماعات، وتمسّكت كلّ واحدة منهنّ برأيها، بل أصبحت تتقاتل ليثبت كلّ منها صحّة آرائه. بينما جماعة وحيدة من جماعات النّمل تلقّت التّعليمات بثقة وصدّقتها جميعها، وشكرت النّملة الّتي حرصت وجهدت على إيصال هذه التّعليمات بصدق وأمانة، وعمدت هذه الجماعة بعد ذلك إلى تنفيذ التّعليمات بحرفيّتها دون تردّد، وأعرضت عمّا يمكن أن يشغلها عن تطبيقها من مباهج القرية؛ لتفوز بالمدينة الموعودة، وحتّى ما كان متعباً وشاقّاً من هذه التّعليمات فقد طبّقته وهي راضية، خاضعة لما كان قد أمرها به الملك قبل دخول القرية. وهكذا انقسمت النّملات إلى جماعات وفرق عديدة، استقام منها من استقام، وضلّ منها من ضلّ...
حاولت النّملة الوقورة إقناع الجماعات الّتي انحرفت بالعودة إلى السّير على نهج التّعليمات الّتي سيسعدن إن طبّقنها، وأرادت إنقاذهنّ من الغرق، وأخذت تذكّرهنّ بأنّ هذه القرية زائلة، وسيسقطن في النّهر ما لم ينفّذن التّعليمات، وظلّت تحاول وتحاول... لكنّ الغالبيّة العُظمى من جماعات النّمل أصرّت على تكذيبها ولم تعبأ بنصائحها، بل عملت على إيذائها، وحاولت قتلها والتّخلّص منها لتفعل ما يحلو لها دونما رقيب.
سادت القريةَ فوضى كبيرة، وعاشت كلّ نملة على النّمط الّذي يريحها، والْتفتت كلّ جماعة إلى ما يشغلها ويهمّها؛ فمن تلك الجماعات من ادّعت أنها أقوى وأرقى جماعة، وأنّ نمط حياتها ومعيشتها هو الصّحيح، وعلى باقي الجماعات تقليدها والسّير على خطاها، فعملت على نشر ما لديها من فساد، وأظهرته بصورة جميلة لتُغوِيَ به جميع النّمل في القرية، ولتشغله عن أدّاء واجباته ومسؤوليّاته. أمّا جماعات النّمل الّتي طبّقت التّعليمات مع اختلافها على بعضها فقد عملت كلّ واحدة منهنّ على تسمية نفسها باسم يميّزها عن غيرها، وأصرّت على أنّ التّعليمات بالشّكل الّذي تنفّذه هو الصّحيح، ولم يقتصر الأمر على ذلك، بل نشب نزاع رهيب بين هذه الجماعات الّتي اتّخذ كلّ منها اسماً خاصّاً به. والمؤلم أنّ تلك الجماعات اختلفت على أمور بسيطة جدّاً. وبينما كانت تتقاتل وتتناحر وغاية كلّ منها الفوز والانتصار كانت هناك نملات تسكن في أماكن متفرّقة من القرية (وهي ممّن أنكرن التّعليمات وأبين تنفيذها)، تلك النّملات عملن على تجميع أنفسهنّ وتشكيل جماعة جديدة كثيرة العدد، واتّفقن على العمل بجدّ للسّيطرة على القرية كلّها، وفعلاً بدأن بتنفيذ خطّتهنّ، فحملن معهنّ أدوات تساعدهنّ في قتال النّمل لاحتلال مساكنه، واتّجهن إلى أحد المساكن في هذه القرية، وادّعين أنّ هذا المسكن ملكهنّ، وأنّ النّملات القاطنات فيه قد احتللنه وأخرجنهنّ منه وها هنّ قادمات لاسترداده، وادّعين أيضاً أنّهنّ خير جماعة في هذه القرية، وأنّ الملك اختارهنّ وفضّلهنّ على النّمل بأسره، لذلك استحققن الحصول على القرية بأكملها. وبعد أن تمكّنّ من دخول ذلك المسكن بدأْن يعِثْن فيه الفساد، ويهاجمن النّملات المسكينات بعد أن اتّفقن مع جماعات أخرى خائنة كان من المفترض أن تكون من الجماعات المتّبعة للتّعليمات، فقد نهبن كلّ ما جمعت صاحبات المسكن من طعام، وأخرجنهنّ من بيوتهنّ الّتي تعبن كثيراً حتّى بَنَيْنَها، وحرصن على الإزعاج الدّائم للنّملات لإجبارهنّ على الخروج من مسكنهنّ، وسبّبن لهنّ الأذى، وأوجعنهنّ ضرباً إلى أن مات عددٌ كبير منهنّ، وسقط غيرهنّ يئنّ نتيجة الضّرب والإيلام، ولم تسمح لهنّ تلك الجماعة المستبدّة بتلقّي العلاج، بينما انشغلت تلك الجماعات العديدة الّتي فرحت كلّ منها باسمها عن مساعدة النّملات المستضعفات اللّواتي استغثنهنّ، واسمرّين في القتال والنّزاع الّذي لا طائل منه ولا نتيجة إلا زيادة الأحقاد والضّغائن والتّفرّق بينهنّ...
وهكذا قامت الحياة في هذه القرية بين مُتّبعٍ للتّعليمات ومُعرِضٍ عنها إلى أن حان هدمها. مدّ الملك الجسر، وأمر النّملات بالعبور، فتراكضن على الجسر أملاً في النّجاة، وفزعاً وخوفاً من الغرق، وأثناء العبور قد تحقّق ما وعد به الملك، فقد سقطت كلّ النّملات اللّواتي أعرضن عن التّعليمات، وأخذن يتحسّرن ويتمنّين العودة إلى القرية الّتي كنّ فيها ليلتزمن أوامر الملك، ولكن.. لقد فات الأوان، فقد غرقن جميعهنّ في النّهر، ولم ينفعهنّ انشغالهنّ وتنازعهنّ في تلك القرية شيئاً، سوى تلك الجماعة الّتي رضيت بالتزام جميع ما ورد في التّعليمات، وعلى رأسهنّ النّملة الّتي كان على عاتقها مسؤوليّة إلقاء وإيصال هذه التّعاليم. فقد نجت هذه الجماعة وعبرت الجسر بأمان، ووصلت بسلام إلى الضّفّة الأخرى من النّهر. وأخيراً دخلن المدينة الّتي وُعدن بها، والّتي طالما عملن من أجل الوصول إليها والتّنعّم فيها، وهنّ اللّواتي صبرن على المشاقّ الّتي واجهنها أثناء العيش في تلك القرية. فقد حان الآن أن تنتهي كلّ متاعبهنّ، حيث لا تعاليم تُطَبَّق ولا أعمال تُنَفَّذ، بل عِشنَ في سعادة أبديّة، ولقين من الملك ترحيباً عظيماً، ونلن منه كلّ ما يسعدهنّ من وسائل الرّاحة والرّخاء والطّمأنينة...
وأنت...
من أيّ جماعات النّمل تحبّ أن تكون؟؟؟
الجماعة الّتي سارعت لتنفيذ الأوامر والتّعليمات؟
أم الجماعات الّتي أعرضت وانشغلت باللّهو والنّزاعات؟
وأيّهما تفضّل؟
عبور الجسر؟
أم السّقوط والغرق في النّهر؟؟؟
التعليقات:
2 |
|
|
مرات
القراءة:
3068 |
|
|
تاريخ
النشر: 16/10/2009 |
|
|
|
|
|
|