((ابن السائلة)) قصة أدبية
بقلم : ليث عمر عمر
((الهمة العالية أصل كل رئاسة)) هكذا قال أهل الحِكم قديماً, إذ تجارب الحياة و الخوض في غمارها فجّر على ألسنتهم هذه الحكمة البليغة, ولئن كان قائلها مجهولاً فإنّ مؤيدها معلوم, هو الماضي وقصة عظمائه, والواقع بكلّ أحداثه.
فإنّنا لم نجد إنساناً تربع على كرسي الرياسة العلمية أو المالية أو الدّولية إلا وكانت الهمة العالية هي قائده الأول, والسعي الحثيث آخذه بيده لما تطمح إليه نفسه, أما إن وجدت إنساناً الكسل قائده والأماني دون العمل ديدنه فاعلم أنّه في أسفل السافلين منزله, وهذا هو حال الشّاب (( راغب)) ذلك الشّخص الذي ترعرع في بيت الحاجة للآخرين, و شبع من لقمة الصّدقة, ولبس من ثياب التّفضّل من الناس واشترى بأموال الزّكاة, إنّه شاب يكره السّؤال مع أنّ لسانه لم يفتر عن ذلك!
ويرغب أن تكون يده هي العليا مع أنّها دون الدّون! ويحب ارتقاء القمم مع العلم أنّه مقيّد بكسله! ويأنف من الخمول في حين أنّه لم يجد طيلة حياته أودّ من هذا الصّديق! كان يحلم دوماً أن يحدث تغيّراً جذرياً في حياته, فيذهب ويعمل حتى يجمع المال الكثير ويصبح صاحب المعمل الضّخم والذي يشتغل فيه عمال كثيرون, وتصير بعد ذلك كلمة ((يا سيّدي)) والتي كان يقولها لكلّ النّاس لا تُقال إلا له, ومن ثمّ يتوجه نحو ذلك البيت الذي فيه حسناء فاتنة والتي قد حوّلت بيتها إلى محل جزار لكثرة قلوب قلوب العشّاق التي ارتمت في أعتابه, فلم ترض بواحد منهم, حتى جاء هو فقالت له عندئذٍ: نعم أنت الرّجل المأمول والغائب المنتظر, وحصل له ذلك ونام على فراش من ريش النّعام المغطّى بالحرير, وتضاعف عنده الدفء إلى دفأين, دفء الفراش و دفء حضن زوجته الحسناء, و لم يدرِ وقتها أينعم بنعومة فراشه أم بنعومة زوجته؟
و في ذات ليلة من ليالي الشّتاء فُتحت نافذة القصر بسبب الهواء الشّديد فشعر بالبرد القارس وخاف أن ينتاب البرد زوجته فينغص عليها نومتها الهنيئة, وتنغيص النائم مفسدة عظيمة, أو أن يصل إليها الهواء وهذا شأن الحبيب يخاف على محبوبه حتى من النسيم الندي! فقام ليسد تلك النّافذة كي يغلق الباب في وجه الشر, و لكنه آثر أن لا يفتح عينيه كي لا يطير النوم منهما, ونهض من فراشه نهوض الشّريف الذي قد شعر بالخطر ينتاب عرضه, ولكنه من شدة تلك القفزة ضُرِب رأسه بالسقف فصرخ من ألمه, وفتح عينيه و إذا به بجانب عمود الخيمة التي لم تبلغ قامة الرّجل, والهواء يدخلها من كلّ جانب دون إذنٍ ولا رادعٍ وفراشه قد تبلل بالماء نتيجة إكرام الغيث لهم, عندها علم أنّ ذلك النّعيم إنّما كان في عالم الأحلام دون اليقظة, لأنّ الحلم تحقيق لرغبات مكبوتة في النّفس, وعلم وقتها أنّ سبب هذه الرؤيا هو تفكيره الدّائم في الحياة الرّغيدة التي يتمناها, وكراهيته لحالته السّيئة التي يعيشها, ثمّ التفت إلى أمّه السّائلة المتسوّلة وناداها بصوت عالٍ والغضب قد ملك مشاعره: أمّاه, فقالت له: ما بك يا ولدي؟ مَنْ مِنِ السّادة أسدى إلينا المال؟
فازداد غضبه وقال لها: لا أحد, ولكن إلى متى سنبقى على هذه الحالة؟ ومتى ستنتهي حياة الذّل والمهانة؟ لا يمكن أن نستمر على هذا الوضع, إنّ أعطانا أحدهم المال أكلنا وإلا متنا من جوعنا في هذه الخيمة دون أنْ يشعر أحدٌ بنا كما تموت الكلاب في عرض الصحراء ولا أحد يحزن عليها, لماذا لا نصبح أغنياء وتصير نساء النّاس خدماً لنا؟ لماذا.........؟
لماذا .........؟ فأجابته الأم بكلام فيه الهدي والصّواب قائلة له: وما الذي يمنعك من العمل وأنت الكامل من كلّ صفات الرّجولة؟ انظر إلى ((نبيل)) ابن جيراننا, فإنّ حياته كانت كمثل حياتنا, ولكنه لم يرضَ عنها فذهب ليعمل في مقالع الحجارة ويقدم لنفسه ولأهله المال بكلّ شرف وعزة نفس , اذهب إليه لتعمل معه ولتشقّ طريق حياتك كما شقّ هو طريق غناه وعزّه, فاقتنع بكلامها, وعلم أنّ الذي يسعى لحياة العزّ والرّفعة لابدّ له من أنْ يعمل متحدّياً كلّ الصّعاب, فلما خرج من خيمته وأراد التّوجّه إلى العمل وإذا بباب قلبه يطرقه الطّارق, فلما فتح له و إذا به صديقه الحميم ((الكسل)) فسأله: إلى أين تذهب؟ فأجابه ذلك الشّاب: إلى العمل.
- ((الكسل)): ما لك وما للعمل؟
- ((ابن السائلة)): لكي أجمع المال الكثير وأتخلّص من هذه العيشة الضّنكة.
- ((الكسل)): يا صديق ابقَ هنا وارضَ بالقليل مع وجود الرّاحة, ولا تذهب إلى الكثير مع شدة التّعب.
فما سمع منه وواصل سيره نحو مبتغاه الذي وجّه إليه وجهه, و ما هي إلا ساعة أو ساعتان في عمله حتى أخذ البرد ينخر عظامه والتّعب قد أنهك قوامه, وهنا بدأت أول مرحلة من مراحل تقرير مصيره فإمّا أن يغلبه التّعب فيخلد للراحة الدّائمة ويبقى في عوزه, وإمّا أن يغلب التّعب ويمضي قُدُماً في تحقيق هدفه, ولعمري إنّ المشقة ما خُلِقت إلا لتصارع الأجسام, فمَنْ تغلّب عليها نادته الألسنة: أيّها الرّجل العظيم, ومَنْ تغلّبت عليه أثناء خوضه غمار الحياة نادى غيره بلسان الذّل: سيّدي أيّها الرّجل العظيم!.
وهذا ما حصل مع ابن السائلة, فقد جلس مليّاً يقارن بين المقامين, مقام العمل وما فيه من بذل المجهود والمشقّة, ومقامه في الخيمة وما فيها من الراحة, فمالت نفسه الخمولة إلى المقام الثّاني فلبّاها طائعاً, وعاد أدراجه إلى كوخ الفقر والذّل الذي انطلق منه, وهكذا يفعل كلّ كسول فإنّ الواحد منهم ما إن ينطلق إلى حياة الجد والعمل حتى يرجع إلى النقطة التي انطلق منها دون أن يحدث أيّ تغيير في حياته, مثل الدّائرة تماماً, فإنّها ما إن يُعيّن مركزها إلا وقد حُكم عليها بأنّ نهايتها لن تكون إلا عند بدايتها لتحكي قصة الانحناء والانغلاق, بخلاف الخط المستقيم فإنّ العقل قد حكم عليه بفطرته السّليمة أنّه لا نهاية له أبداً ما لم ينهه رسامه, وهذا معنى قول الحق سبحانه: ((فامشوا في مناكبها و كلوا من رزقه)).
وبعد أن دخل إلى كوخه وجد مائدة الطّعام وإذا بكلّ صحن فيه طعام مختلف عن الآخر, فلما رفع الإناء الأول قال: رضي الله عن باشا أفندي وكثر خيره, وعندما تناول الإناء الثّاني قال: جزى الله خيراً جارنا التّاجر لما قد وهبه لنا, وحين نظر إلى الصّحن الثّالث قال: رحم الله جارنا وتقبّل من أولاده هذه الصّدقة. وصحيح ما قاله لي صديقي ((الكسل)): ما لي وما للعمل وكلّ شيء بين يدي؟
ولئن كانوا أسياداً في قصورهم فأنا أيضاً سيّد هذه الخيمة, وقد قال أهل العلم قديماً: ((لا اختلاف في المصطلحات أبداً))!
فما الفرق بيني وبين السّادة الأغنياء؟
- نعم: ما الفرق بينه وبين السّادة لولا الكرامة التي لم يرضوا أن تهان؟ وما الفرق بينه وبين الأغنياء لولا العمل وعدم الوقوف عند المُنى؟ وما الفرق بينه وبين النّاس جميعاً لولا العفة وكره السّؤال.
إنّه ابن السّائلة: هذه القصة الخيالية التي نسجتها من فكري وحكتها في معمل الواقع والذي يدير مكناته معظم الشّباب اليوم الذين حالهم كحال ابن السّائلة بمختلف المتطلبات والأماني, فكثيرون هم أولئك الذين يخرجون إلى العمل ليحققوا حلمهم بالغنى وتطوير واقعهم ولكنهم بعد فترة يعودون إلى الدّعة والرّاحة مع الرضا بالفقر لأنهم وجدوا أنّ التمتع بالغنى يحتاج إلى صبر كثير ومجهود كبير وهم لم يتحلّوا بذلك. وهناك شبابٌ أيضاً يدرسون مختلف الدّراسات والعلوم وكلّهم قد وضع أبرز العلماء في هذا الفن قدوة له ويتمنى أن يصير مثله, و لكنه يُفاجأ بأن المسير في هذا الدّرب نحو ذلك الهدف المنشود يحتاج إلى عناء كبير من سهر مع الكتاب وجلوس طوال النّهار أمامه فيعود إلى حيث كان من جهل وعدم معرفة, ويترحم على ذلك العالم, أو يترضى على هذا. وكم من أشخاص دخلوا السّوق آملين أن يصبحوا تجّاراً كباراً أمناء, فلما بدؤوا بالعمل صعب عليهم شقّ الطّريق في البداية فرضوا بالمحل الصّغير في زاوية مجهولة مع وجود الغش.
أما آن لكم أيّها الشّباب أن تهجروا صديقكم الكسل وتصاحبوا الجد والاجتهاد ليأخذ بيدكم إلى ثماره التي هي المال الوفير والعلم الغزير وأعلى المناصب. ومن ثمّ إذا شئتم فسافروا إلى الدّول المتطورة لتعلموا أنها ما ازدهرت إلا بفضل أبنائها النّشطاء.
آما آن لكم أن تصحوا من غفلتكم؟؟
أسأل الله التّوفيق لي ولكم, وأن يذلل لنا الطّريق التي نسلكها لتحقيق أهدافنا, و أنْ يهون علينا الصّعاب, إنّه سميع قريب مجيب.
التعليقات:
2 |
|
|
مرات
القراءة:
3117 |
|
|
تاريخ
النشر: 17/01/2010 |
|
|
|
|
|
|