ظاهرة الهوس بأوباما : للأمريكيين منتظرهم ايضا ً ..!
بقلم : د. أحمد خيري العمري
للوهلة الأولى سيبدو للمراقب هنا في الولايات المتحدة أن المواطنين الامريكيين يكرهون بوش جداً لدرجة جعلتهم "مهووسين" بأوباما..
هكذا قد يبدو الأمر بالنسبة للكثيرين.. و الحقيقة إن إدارة بوش قد جرّت الكوارث على العالم أجمع بطريقة سيبدو فيها أي شخص آخر يبدو كما لو أنه "المنقذ"..
لكن هوس الامريكيين بأوباما، في رأيي الشخصي، يتجاوز أمر كره بوش بكثير، و لا يتعلق ببوش إلا بقدر ضئيل رغم وضوحه.. ذلك إن بوش كان راحلاً بكل الأحوال ومن الصعب جداً أن يخلفه من يماثله في السوء حتى لو كان جمهورياً.. لكن الأمر مع أوباما يتخذ أبعاداً أخرى، يقول المراقبون هنا إنها غير مسبوقة إطلاقاً مع اي رئيس آخر(حتى مع جون كنيدي الذي امتلك شعبية واسعة) : أقصد هنا ظاهرة الهوس بأوباما التي صار لها اسمها في المعاجم obama mania"" و التي تصل لحدود الظاهرة الدينية ذات الطبيعة الوثنية، حيث ينهار المتدينون عند رؤية "معبودهم" أو واحدة من تجلياته، يُعامَل باراك أوباما في هذا السياق كما لو كان أيقونة دينية، و قد تطور هذا من معاملته أولاً كما لو كان نجماً من نجوم "موسيقى الروك" حيث تتعالى صرخات الجمهور و تنهمر الدموع بمجرد ظهورالنجم-الأيقونة على المسرح.. وكما كانت الفتيات يصبن بالاغماء عند ظهور الفيس بريسلي أو جون لينون، فإن ظاهرة الإغماء صاحبت أوباما في حملته الانتخابية، و هو مالم يحدث مع أي مرشح انتخابي في تاريخ الولايات المتحدة..
لكن الأمر تجاوز حتى ذلك: فلم يعد سراً أن جزءاً كبيراً من الثقافة الشعبية الأمريكية"pop culture" يعامل أوباما على أنه "المسيّا messiah".. أو "المخلصsavior " في الثقافة اليهودية المسيحية التي تمتلك مساحات مشتركة في أمريكا..
هناك فئة واسعة من جمهور أوباما تقول عنه بصراحة أنه المسيّا، المخلص، المنقذ، بكل المعاني التوراتية للمفردة، أكثر من هذا، إنهم يقولون بصراحة أيضاً: أن أوباما هو "التجلي الأسود" للسيد المسيح.. و يؤدي هذا، بسبب الطبيعة المتداخلة لعقيدة التثليث إلى ما لا داعي للخوض فيه، لكنه يقال فعلاً، وبصراحة!..
و يمكن بسهولة البحث عن مفردتي "أوباما" و" المسيّا" باللغة الانكليزية في الشبكة، لنجد عشرات المواقع التي أُسِّست أصلاً للحديث عن أوباما بصفته "المسيّا"-"المخلص".. والملاحظ إن هذه المواقع في أغلبها شخصية، أي أنها جزء من التعبير الشعبي عن ظاهرة الهوس بأوباما.. الأمر الذي ربما تكون وسائل الاعلام الرئيسية أقل تعبيراً عنه لأسباب واضحة، و هو الأمر الذي جعل وسائل إعلامية لها مكانتها مثل التايم والواشنطن بوست ترصد الأمر من زاوية نقدية.. كما أن موقعا على الشبكة تخصص لمراقبة الظاهرة وتوثيقها..
أوباما من جهته تصرف بذكاء، بالذات بطريقة "لم آمر بها و لم تسؤني !!" ، لكنه استثمرها حقا، و دغدغ مشاعر الناس المؤمنين بها، الأكثر من هذا أنه وظف كل قدراته الخطابية (وهي كثيرة!) من أجل إسقاط غير المؤمنين (بكونه المسيا- المخلص) في سحره وجعلهم على الأقل يتصرفون كما لو أنهم مؤمنين بذلك، سواء أدركوا ذلك أو لا..
للرجل مواهبة الخطابية والزعامية التي لا مجال لإنكارها، عندما يخطب فإن ثقته بنفسه تجعل الجمهور أسيراً له بشكل حرفي، بل إن كلمة "التنويم الإيحائي" قد تبدو أقرب أحياناً إلى تأثيره على البعض.. مثال على ذلك هذا الجزء من خطاب له أثناء حملته للفوز بمنصب مرشح الحزب الديمقراطي في السباق الرئاسي: (في يوم ما، سيدخل النور من النافذة، شعاع من هذا النور سيأتي ليغمرك، و ستنزل عليك البصيرة، وستعلم فجاة أن عليك أن تذهب إلى مراكز الانتخابات و.. تصوِّت لأوباما ..)
"بالحرف الواحد !، في نيوهامشير بتاريخ الثامن من كانون الثاني 2008"..
بهذه الطريقة الحاسمة الممزوجة بسحره الشخصي الكاريزمي تمكن أوباما من أسر الجماهير التي سقطت في "غرامه" بطريقة غير مسبوقة..
""كل ما أريده منكم هو أن تؤمنوا.." .. هكذا خاطب أوباما جمهوره، كما فعل أنبياء العهد القديم المتجذر بقوة في الثقافة الامريكية، لم يحدثهم عن الدين كما فعل اليمين الديني الذي تفوح من مواعظه رائحة النفاق في كل كلمة بل بدا بطريقة ما كأنه من شخصيات و أبطال العهد القديم..
و عندما سئل أوباما عن رأيه فيمن يقول أنه المسيّا وأنه التجلي الجديد للسيد المسيح، ردّ أوباما، على الملأ، بطريقة شديدة الذكاء لا تحسم الأمر بل تزيده إثارة، قال: ( خلافاً لكل الشائعات التي سمعتموها، لم أولد في الإسطبل " في إشارة إلى ولادة السيد المسيح في الإسطبل في النسخة الانجيلية من القصة " بل ولدت في كوكب كريبتون، و أرسلني أبي لإنقاذ كوكب الأرض).. وكوكب كريبتون هو الكوكب الذي ولد فيه "الرجل الخارق" : "سوبرمان" في القصة المصورة المعروفة التي هي أيضاً جزء أساسي من الثقافة الامريكية الشعبية.. وهكذا فإن أوباما يلعب بين الجد والمزاح على مشاعر الجماهير.. فيجمع بين فكرة "المخلص" التوراتي ، و بين السوبرمان "الذي ظهر أوباما مع تمثاله في واحدة من ملصقات الدعاية الانتخابية" .. أليس السوبرمان، في النهاية، نسخة متأمركة من فكرة المخلِّص ؟ ألا يجمع أوباما هكذا بين الاثنين في لقطة واحدة؟.
السؤال هو :هل كانت جاذبية أوباما وحدها كافية لصنع هذا الهوس و الافتتان به؟ شخصياً أشك بذلك، فالأمر متعدد العوامل.. فبالإضافة إلى الجاذبية الشخصية هناك العصامية و النجاح الشخصي رغم تواضع الانطلاق، و هي عوامل مهمة وموقظة للحلم الأمريكي و هناك أيضاً قدر لا يمكن الاستهانة به من النزاهة الشخصية ونظافة اليد التي جعلت منافسيه لا يجدون ما يهاجمونه عليه من هذه الناحية.. هناك أيضاً ما يتحدثون به هنا من "الوقوع في غرام الغريب القادم إلى المدينة" و كلها يمكن أن تشكل تفسيراً لهذه الظاهرة أو لجزء منها على الأقل..
لكن هناك برأيي ما هو أعمق وأهم من هذا كله، لقد عرف أوباما كيف يمتلك "كلمة سر " جعلته يدخل إلى قلوب وعقول الملايين وبعدها عرف كيف يستثمر هناك مواهبه وسحره وروحه الزعامية..
كلمة السر تلك هي شعاره الاساسي في حملته: "التغيير".. تلك الكلمة التي كانت تظهر أمامه في كل خطبه، والتي كونت القاسم المشترك الاعظم لكل خطبه و شعاراته : "التغيير الذي يمكن لنا أن نؤمن به، التغيير قادم إلى أميركا، آن أوان التغيير .." كلها شعارات سحرت قلوب وعقول الجماهير وجعلتهم بالتدريج وبمساعدة قدراته الخطابية يصابون بذلك الهوس بأوباما في هذه الظاهرة الفريدة التي ليس لها مقارب على صعيد رؤساء الولايات المتحدة الامريكية..
و يبدو ذلك "التغيير" مرتبطاً بفكرة المخلص أو المسيّا في جذرها الاساسي في كل العقائد التي تؤمن بها وتعتبرها جزء أساسي من إيمانها.. فمن هو المخلص في النهاية إلا ذلك الزعيم الذي يجسد حلم التغيير ؟.. أليس الحلم بالتغيير هو الوقود الذي يعمل عليه أي مخلِّص، سواء كان مخلِّص العقائد الدينية أو الأيدلوجيات الشعبوية؟
إذاً الأمريكيون يريدون التغيير؟.. هذا واضح. لكن تغيير ماذا بالضبط؟ شخصياً أعتقد أن الأمر أكبر بكثير من مجرد تغيير طاقم إدارة رئاسية أثبتت أنها الأسوء تاريخياً.. بل هو في جوهره رغبة فطرية عميقة بتغيير عميق يشمل كل نواحي الحياة، حتى لو يكن الجمهور المصاب بهوس بأوباما مدركاً لذلك، لكنها الرغبة العميقة بالانعتاق من نمط الحياة الامريكية الاستهلاكية الذي يسحق الانسان و يشيئه و يحوله الى مجرد كيس فارغ عليه أن يملئه بالسلع والمزيد من السلع.. إنها فطرة الإنسان تتمرد على تلك القوالب التي تقسر الانسان على أن تكون قدرته الشرائية هي أهم مقومات وجوده.. صحيح أن الامريكيين يبدون غالباً كما لو أنهم في منتهى السطحية، لكن هذا لا يعني أن فطرتهم مسخت تماماً.. وفطرتهم تثبت اليوم أنها تطالب بتغيير ما.. تغيير هو أكثر من مجرد رئيس جديد.. تغيير هو بمثابة " نمط لحياة أكثر عدالة و توازناً "..
لم يقل أحد ذلك بوضوح، ولكن كذلك لم يقل أوباما أن التغيير الذي يقصده هو تغيير الرئاسة فقط، كان يتحدث عن التغيير بإطلاقه، بعمومه، بكل السحر الكامن في الكلمة.. خصوصاً بالنسبة لأولئك الذين يشعرون أنه لم يعد ممكناً الاستمرار فيما لم يعد ممكناً الاستمرار فيه.. في نمط الحياة الذي يسحقهم ويقنعهم في الوقت نفسه أنه النمط الوحيد الذي يمكن العيش فيه..
هل سيحدث هذا التغيير؟ هل سيكون أوباما "المخلِّص المنتظر" حقاً ؟ بالتاكيد لن يحدث و لن يكون. ربما سيتمكن أوباما و طاقمه من إحداث تعديلات و تحسينات هنا و هناك، خفض معدلات البطالة مثلا، أو التخفيف من حدة الأزمة الاقتصادية و تأثيراتها.. لكن ذلك التغيير الحقيقي، التغيير الجذري الذي يحرر الانسان من قوالب الحياة الاستهلاكية لن يحدث، لأنه لا فرد، أوباما او سواه، يستطيع أن يغير المؤسسة بمفرده، حتى لو أراد ذلك.. فالمؤسسة ستكون أقوى، وستتمكن من احتواء هذا الفرد وبالذات احتواء هوس الجماهير به، و توظيفه بل وتوظيف هذا الهوس لصالح استمرار المؤسسة العتيدة ومنحها المزيد من الحماية على المدى البعيد..
سُنن التغيير الالهية تتطلب أولا أن تكف الجماهير عن هذا إنتظار هذا المخلص ( أو حتى انتخابه عبر صندوق انتخابات !) فالتغيير الذي يأتي عبر فرد على قمة السلطة لن يعدو أن يكون مرحلةً عابرة ( والمثال من تاريخنا واضح جداً، فالخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز، بلا تشبيه بأوباما طبعاً، قدم نموذجاً لخليفة راشد ضمن مؤسسة كانت قد ابتعدت عن الرشد، لذا كانت إصلاحاته مرهونة بحياته و ذهبت بعد وفاته رحمة الله عليه..)
التغيير الحقيقي يجب أولاً أن يبدأ بالبنية الثقافية، بثورة شاملة في فكر الانسان ورؤيته للحياة، برؤية جديدة متكاملة للحياة تعكس في داخلها ما خلق الانسان من أجله وتعمل على جعل العالم متطابقاً مع هذه الرؤية ( وليس مجرد شعارات فضفاضة عن التغيير لم نر سواها كما في نموذج أوباما وكتابه عن "جرأة الأمل" الذي، رغم تقريظ أوبرا وينفري له ، لم يكن أكثر من كتاب في الشعارات كما هو الامر مع نماذج شعاراتية كثيرة أخرى في عالمنا الاسلامي).
سُنن التغيير الإلهية تتطلب حتماً وجود" شخصيات زعامية" تسحر الجماهير وتكهربها وتبث فيها روح الأمل والعمل، لكن هذه الشخصيات لن تكون كل مشروع التغيير، بل ستكون فقط جزءاً مهماً منه، و قبل هذا سيكون هناك "مفكرون" ينظّرون لتلك الفكرة الرؤية الجديدة، و"مخططون" يضعون تلك الرؤية على أرض الواقع، و"مروجون" يسوقون للفكرة والرؤية، و الأهم من ذلك كله "منفذون" قد يكونون طليعة ذلك الجيل القادم لا محالة..
في اللحظة التي نربط فيها التغيير بفرد ما، سواء كنا ننتظره، (أو ننتخبه!)، فإننا نكون ندق مسماراً ما في نعش مشروع التغيير.. والحل الوحيد لذلك هو أن نجد لأنفسنا مكاناً في أجزاء هذا المشروع.. رغم صعوبة الأمر، فإن التغيير من هذا المنطلق سيكون أسهل جداً، على الأقل من وجهة نظر "المنتظر"!..
المصدر : http://www.quran4nahda.com/?p=359
التعليقات:
0 |
|
|
مرات
القراءة:
50675 |
|
|
تاريخ
النشر: 29/01/2009 |
|
|
|
|
|
|