::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> محاضرات وندوات

 

 

لا تيأس فالله معك ...

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان  

 

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
 
الحمد لله رب العالمين، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين. اللهم افتح علينا فتوح العارفين، ووفقنا توفيق الصالحين، واشرح صدورنا، ويسّر أمورنا، ونوّر قلوبنا بنور العلم والفهم والمعرفة واليقين، واجعل ما نقوله حجة لنا، ولا تجعله حجة علينا برحمتك يا أرحم الراحمين.
        حديثنا عن الأمل ومحاربة اليأس، الأمل بالله سبحانه وتعالى أولاً، والأمل بصلاح الحال، والأمل بالمستقبل المبشر، هو ما ينبغي أن يحرص عليه كل إنسان مسلم؛ لأن حقيقة الأمل إنما هي انشراح النفس عندما يقع الإنسان في الضيق والأزمات، فينتظر المرء الفرج واليُسر مما أصابه من ضيق أو عسر، لذلك فإن الأمل يدفع الإنسان إلى إنجاز ما يفشل فيه من قبل، ولا يملّ حتى يحقق النجاح فيما يفكر فيه أو يعمل من أجله.
        يُحكى أن قائداً هُزِمَ في إحدى المعارك، فسيطر اليأس عليه، وذهب عنه الأمل، فترك جنوده في أرض المعركة، وذهب إلى مكان خال في الصحراء، وجلس إلى جوار صخرة كبيرة يتأمل ويراجع ما حدث معه في هذه المعركة.
        وبينما هو على تلك الحال، رأى نملة صغيرة تَجُرُّ حبة قمح، وتحاول أن تصعد بها إلى منزلها في أعلى الصخرة، ولما سارت بالحبة سقطت منها، فعادت النملة إلى حَمل الحبة مرة أخرى. وفي كل مرة، كانت تقع الحبة فتعود النملة لتلتقطها، وتحاول أن تصعد بها... وهكذا.
        فأخذ القائد يراقب النملة باهتمام شديد، ويتابع محاولاتها في حمل الحبة مرات ومرات، حتى نجحت أخيراً في الصعود بالحبة إلى مسكنها، فتعجب القائد المهزوم من هذا المنظر الغريب، ثم نهض القائد من مكانه وقد ملأ الأملُ قلبَه، وعادت العزيمة إلى روحه، فجمع رجاله، وأعاد إليهم روحَ التفاؤل والإقدام، وأخذ يجهزهم لخوض معركة جديدة.. وبالفعل انتصر القائد على أعدائه، وكان سلاحه الأول هو الأمل وعدم اليأس، الذي استمده وتعلمه من تلك النملة الصغيرة، المخلوق الضعيف الذي ضرب له مثلاً عظيماً في الإصرار والتحدي والمثابرة حتى تحقق لها ما تريد.
        هذا المثل يعطينا مؤشراً على أن يأس الإنسان من المحاولات التي يجريها، سواء كانت في الدراسة، أو التجارة، أو الحياة الزوجية الأسرية، أو الحياة العامة الاجتماعية، فعليه أن يصبر ويزرع قلبه بالأمل؛ حتى يتحقق له ما يريد، وأن تكون ثقته بالله سبحانه وتعالى ثقة عظيمة وكبيرة، فالله سبحانه لا يمكن أن يقتل الأمل في قلوبنا، بل إنه سبحانه وتعالى يحيينا على الأمل، ويزرعه في قلوبنا في هذه الحياة بأن نحقق ما نصبو إليه ونتطلع إليه بتوفيق منه سبحانه وتعالى.
        حكى الرسول صلى الله عليه وسلم لصحابته قصة رجل قتل تسعة وتسعين نَفْساً، وأراد أن يتوب إلى الله تعالى فسأل أحدَ العباد الزهاد: هل تجوز لي التوبة؟ فأجابه ذلك العابد: لا. فاغتاظ الرجل وقتله وأكمل به المائة، وبعد أن قتله زادت حيرته وندمه، فوجد رجلاً عالماً من أهل الصلاح والتقوى فقال له: هل لي من توبة؟ فقال له: نعم تجوز لك التوبة (والله سبحانه وتعالى فتح باب التوبة للعبد المذنب ما لم يصل إلى مرحلة الغرغرة عند نزع الروح) ولكن عليك أن تترك القرية التي تقيم فيها لسوء أهلها وتذهب إلى قرية أخرى أهلها صالحون؛ لكي تعبد الله معهم.
        فخرج الرجل مهاجراً من قريته إلى القرية الصالحة، عسى أن يتقبل الله توبته، لكنه مات في الطريق، ولم يصل إلى القرية الصالحة. فنزلت ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، واختلفوا فيما بينهم أيُّهُم يأخذه، فأوحى الله إليهم أن يقيسوا المسافة التي مات عندها الرجل، فإن كان قريباً إلى القرية الصالحة كُتب في سجلات ملائكة الرحمة، وإلا فهو من نصيب ملائكة العذاب.
        ثم أمر الله سبحانه وتعالى الأرض التي بينه وبين القرية الصالحة أن تَقَارَبِي، وإلى الأخرى أن تَبَاعَدِي، فكان الرجل من نصيب ملائكة الرحمة، وقَبِل الله توبته؛ لأنه هاجر في سبيل الله، راجياً رضاه سبحانه، وطامعاً في مغفرته ورحمته. [القصة مأخوذة من حديث متفق عليه].
        في القصة دلالة واضحة على أن الإنسان ينبغي ألا ييأس من رحمة الله، فلا يقنط من رحمة الله تعالى والإقبال عليه والتوبة إليه إلا القوم الكافرون والمنافقون. أما الإنسان المؤمن فإنه دائماً صاحب أملٍ، وقلبه عامر بالأمل؛ لأن الله تعالى يوفّقه ويتوب عليه ويفر له ويجعله عنده من المقبولين.
^ ما هو الأمل؟
        الأمل هو انشراح النفس في وقت الضيق والأزمات؛ بحيث ينتظر المرء الفرج واليسر لما أصابه، والأمل يدفع الإنسان إلى إنجاز ما فشل فـيه من قبل، ولا يمل حتى ينجح في تحقيقه.
        وليس شيءٌ يُعَبِّس الوجهَ، ويُيَئِّسُ النفسَ كاليأس، فاعتقاد الإنسان أن لا مستقبل له، ولا أمل له في الحياة، ولا خير ينتظره، ولا حلَّ لمشكلاته، كأنما يتجرّع السّم القاتل، أو كأنما يعيش في سجنٍ مظلم. لا شك أن هذا الاعتقاد يصدّ النفس ويقمعها، ولا يزال بالإنسان يحيط به حتى يهلكه، وعلى العكس من ذلك فإن توقُّع الخير، وإحياء الأمل في الحياة يحمل الإنسانَ على أن يوسّعَ مَداركَه، ويحمله على الجد والاجتهاد فيما اختاره من صنوف الحياة، وعلى أن يستعمل ما وهبه الله تعالى من العقل والفكر والقلب خيرَ استعمال. فإذا أراد الإنسان أن يعيش مسروراً فعليه أن يحارِب اليأس، وأن يقطع أسبابه، وأن يعوّدَ نفسَه الأمل، وأن يتوقّع الخير في المستقبل. فالاستسلام للحزن، والإغراق في التشاؤم، والاسترسال مع الهموم، والخوف من وقوع المكروه، والإفراط في توقّع الشر هو مما يُنَغِّص الحياة، ويقلّل الإنتاج، ويزيد الآلام، ويُضاعِف البؤس والشّقاء. فعلينا أن نحارب الكآبة واليأس والقنوط من أنفسنا، وأن نُبعِد الهم والغم ما استطعنا إلى ذلك من سبيل، وعلينا أن نبتسم للحياة ونبتهج فيها بغير إسراف؛ حتى تزداد حياتنا إشراقاً وقوة، ونعيش السعادة والسرور في هذه الدنيا.
قال الإمام الشافعي رحمه الله:
سَـهِرَتْ أعيـنٌ ونامتْ عيـونُ     فـي أمـورٍ تكـونُ أو لا تكونُ
فادْرَأِ الهَمَّ ما استطعتَ عن النَّفـ      ـسِ فَحُـمْلانُكَ الهمومَ جُـنونُ
إنَّ ربَّاً كفـاكَ بالأمـسِ مـا كا    ن سـيكفيكَ في غدٍ مـا يكـونُ
        إن الله سبحانه وتعالى قدّر ما كان، وما يكون، وما سيكون، وما هو كائن إلى يوم القيامة، فلماذا نُتعِب أنفسَنا بهذه الأمور ونعيش حالة اليأس؟! بل علينا أن نتوقّع الأمل كما عاشه الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
^ الأمل عند الأنبياء:
الأمل والرجاء خلق من أخلاق الأنبياء عليهم السلام، وهو الذي جعلهم يواصلون دعوة أقوامهم إلى الله تعالى دون يأس أو ضيق، رغم ما كانوا يلاقونه من إعراض ونفور وأذى، وتحمّلوا في سبيل ذلك المشقة الكبيرة؛ أملا في هداية أقوامهم في المستقبل، وفي صلاح أحوالهم.
        أ- الأمل عند الرسول صلى الله عليه وسلم:
        كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصاً على هداية قومه، ولم ييأس يوماً من تحقيق ذلك، وكان دائماً يدعو ربه سبحانه أن يهديهم، ويشرح صدورهم للإسلام.
        وحتى في أحلك الظروف وأشدها صعوبة (في غزوة أحُد) لمّا قيل له عليه الصلاة والسلام: ألا تدعو اللهَ عليهم؟ فقال: "اللهم اهدِ قومي فإنهم لا يعلمون". شرح سنن ابن ماجة.
        وبعد رحلة الطائف التي تعرّض فيها عليه الصلاة والسلام لمشقّة شديدة، نزل سيدنا جبريل عليه السلام وقال له: لقد بعثني ربي إليك لتأمرني بأمرك، إن شئتَ أطبقتُ عليهم الأخشبَيْن (اسم جبلين)، فقال صلى الله عليه وسلم: "بل أرجو أن يُخْرِجَ الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً". متفق عليه.
        لقد كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعيش حالة الأمل، ويتوقّع حدوث الفرج بعد الشدة والضيق، ولم ييأس من رحمة الله سبحانه وتعالى، وكان صلى الله عليه وسلم في كل المعارك التي خاضها رغم الجموع التي جمع المشركون ضده عليه الصلاة والسلام، كان واثقاً في نصر الله له، وبدا ذلك واضحاً في مواضع كثيرة، منها في رده على سيدنا أبي بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، الذي خاف عليه واضطرب قلبه أثناء وجودهما في الغار ومطاردة المشركين لهما، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم بكل ثقة وإيمان وتَطَلُّعٍ إلى المستقبل:[]...لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا...[] سورة التوبة (40).
        وهكذا كان سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سائر أحواله مع قومه، فرغم كل الشدائد التي تعرّض لها وكل المحن التي قاساها، لم يشعر يوماً باليأس أو القنوط، ولم يفكّر يوماً بالهجرة (أي في هَجْر ما هو عليه من الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى)، لم يفكر في ترك ما هو عليه من الدعوة إلى الوحدانية، لم يفكر في العزلة، إنما قاوم وانتظر الفرج من الله تعالى، فجاءه الإذن بالهجرة إلى المدينة المنورة، وهناك ستتّسع له الرقعة المكانية لكي يَعُمَّ نورُ الإسلام إلى بقاع الأرض كلها، فالنبي عليه الصلاة والسلام كان من أكثر الناس أملاً بربه سبحانه، وضرب لنا أمثلة عظيمة في حياته السلوكية والواقعية.
        ب- أمل سيدنا نوح عليه السلام:
        كان نبي الله نوح عليه السلام من الأنبياء الذين يؤْثرون التّأمّل والأمل، وكان يعيش وهو يحارب اليأس والقنوط؛ فقد ظل يدعو قومه إلى الإيمان بالله تعالى ألف سنة إلا خمسين عاماً، دون أن يَمَلَّ أو يضجر أو يسأم أو ييأس، بل كان يدعوهم بالليل والنهار.. في السر والعلن.. فُرَادَى وجماعات.. لم يترك طريقاً من طرق الدعوة إلا سلكه معهم أملاً في إيمانهم بالله سبحانه وتعالى.[] قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَاراً (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَاراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً (9)[] سورة نوح. استخدم سيدنا نوح عليه السلام كل الوسائل في دعوة قومه، لكنهم لم يتّبعوه ولم يؤمنوا به، فأوحى الله تعالى إليـه أنه لن يؤمن معك أحدٌ إلا من اتبعك، فاصنع السفينة، وانجُ بنفسك ومن اتّبعك من المؤمنين، وهكذا أنجى الله سيدنا نوحاً عليه السلام وأغرق قومه الذين لم يتّبعوه.
        الشاهد هنا هو إصرار سيدنا نوح عليه السلام، وأمله وعدم يأسه، وهو في ذلك يضرب للناس مثلاً في الأمل بالله سبحانه وتعالى بأن يتحقق لهم ما يَصْبون إليه، وما يتطلّعون إلى تحقيقه، وألا يشعروا باليأس أبداً.
        جـ- أمل سيدنا يعقوب عليه السلام:
        ابتلى الله سبحانه نبيه يعقوب عليه السلام بفقد ولديْه: يوسف وبنيامين، فحزن عليهما حزناً شديداً حتى فقد بصره، لكن سيدنا يعقوب عليه السلام ظل صابراً، راضياً بقضاء الله، ولم ييأس من رجوع ولديه، وازداد أمله ورجاؤه في الله سبحانه أن يُعِيدَهما إليه سالمَين، وطلب يعقوب عليه السلام من أبنائه الآخرين من باب العمل بالأسباب أن يبحثوا عنهما دون يأس أو قنوط، لأن الأمل بيد الله، والأمور كلها بيد الله تعالى يقلّبها كيف يشاء. فقال لهم:[]يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ[] سورة يوسف (87). هكذا كان يعيش سيدنا يعقوب عليه السلام، يبعث الأمل في نفسه وفي نفوس أولاده بأن الله قادرٌ على أن يعيد له ولديه بعد أن مضى زمنٌ على فقدهما. وحقق الله أمل سيدنا يعقوب ورجاءه، وَرَدَّ عليه بصره وولديه، وبذلك ضرب للناس مثلاً في الأمل ومحاربة اليأس، وأن يظل الإنسان المؤمن الواثق بالله سبحانه وتعالى متطلعاً لتحقيق ما يريد، ولو إلى آخر لحظة من حياته.
        ء- أمل سيدنا موسى عليه السلام:
        ظهر الأمل والثقة في نصر الله بصورة جليَّة في موقف نبي الله موسى عليه السلام مع قومه ممن آمن معه، حين طاردهم فرعون وجنوده، فظنوا أن فرعون سيدركهم، وشعروا باليأس حينما وجدوا فرعون على مقربة منهم، وليس أمامهم سوى البحر، فقالوا لموسى:[]...إِنَّا لَمُدْرَكُونَ[] سورة الشعراء (61). فما كان من سيدنا موسى عليه السلام إلا أن زرع الأمل في قلوبهم، وأحيا الرجاء في نفوسهم، وقال لهم في ثقة ويقين:[]قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ[] سورة الشعراء (62). (من كان يعيش في معيّة الله سبحانه وتعالى يُكفى كلَّ شيء، ومن كان يشعر أن الله معه فهو منتصر على كل شيء بإذن الله تعالى). فأمره الله سبحانه أن يضرب بعصاه البحر، فانشقّ نصفين، ومشى موسى وقومه، وعبروا البحر في أمان واطمئنان، ثم عاد البحر مرة أخرى كما كان، فغرق فرعون وجنوده، ونجا موسى ومن آمن معه.
        أيقن سيدنا موسى عليه السلام بتحقُّق أمله ورجائه في الله تعالى، وأيقن من آمن معه أنه لا يأس مع الأمل، ولا ينبغي أن يسري القنوط إلى حياة الإنسان الواثق بالله سبحانه وتعالى.
        هـ- أمل سيدنا أيوب عليه السلام:
        ابتلى الله سبحانه وتعالى نبيه أيوب عليه السلام في نفسه وماله وولده، إلا أنه لم يفقد أمله في أن يكشف الله الضر عنه، ويرفع عنه البأس الذي أصابه. وكان دائم الدعاء والتضرع إلى الله سبحانه وتعالى، يقول تعالى:[]وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ[] سورة الأنبياء (83).
        أيها الإخوة القراء! نقف قليلاً عند هذه الآية، وأخاطب من خلالها أصحاب الأمراض المزمنة، وأصحاب الأمراض المستعصية الذين ربما يئسوا ويئس أهلهم من شفائهم، أخاطبهم أن يلجؤوا إلى الله سبحانه وتعالى بصدقٍ وأمل، ومحاربةٍ لليأس والقنوط، وأن يُكثِروا من التضرع إلى الله تعالى كما تضرّع إليه سيدنا أيوب عليه السلام، فإن القلوب بين أصبعي الله يحركها كيف يشاء، وإن أمور الدنيا كلها بيدَيْ رب العالمين سبحانه وتعالى، فإنه قادرٌ على كل شيء، ويستطيع سبحانه أن يحوِّلَ المرضَ المزمن إلى شفاءٍ عاجل بإذنه، وبأمره، وبقضائه وبقَدَره، فلا يجوز اليأس، ولا يصحّ القنوط من مثل هذه الحالات ولا الاستسلام، بل علينا أن نكثر من التضرع إلى الله تعالى كما تضرّع إليه سيدنا أيوب عليه السلام. لذلك نلاحظ أن الله تعالى لم يُخَيِّب أمل سيدنا أيوب، بل حقق رجاءه، وشفاه الله وعافاه، وعوَّضه عما فقده، وعاد إليه كل ما كان يتطلع إليه من الصحة والعافية والولد، وكل ما حلم به أثناء ابتلائه من الله سبحانه وتعالى.
        والمؤمن عندما يرى أن الأمل هو خلق الأنبياء جميعاً وحالتهم ينبغي أن يعيش الأمل في قلبه كما عاش في قلوب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وينبغي أن يحارب اليأس والقنوط كما حاربه الأنبياء، وكان الفرج من الله تعالى قريباً لهم، وتحقّقَ لهم ما أرادوا. ونحن كذلك بصبرنا وأملنا بالله سبحانه وتعالى، مع دعائنا وتضرّعنا، فإن الله تعالى يحقق لنا الأمل في هذه الحياة وما نصبو إليه وما نتطلع إليه في المستقبل القريب إن شاء الله تعالى.
^ الأمل والعمل:
        من أعظم أنواع الأمل التي ينبغي أن يعيشها المؤمن الأمل في الله ورجاء مغفرته، وهذا الأمل ينبغي أن يقترن دائماً بالعمل، لا بالتمنّي والكسل. قال تعالى:[]...فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً[] سورة الكهف (110). فالأمل الذي يقترن بالعمل يحقّقه الله سبحانه وتعالى. وقال عز وجل:[]إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ [] سورة البقرة (218).
        فلا يقلْ الإنسان: أنا عندي أمل في الله سبحانه وتعالى، وأُحسن الظن به، ثم بعد ذلك نراه لا يؤدي ما عليه تجاه الله من فروض وأوامر، ولا ينتهي عما نهى الله عنه، والذي يفعل ذلك إنما هو مخادع يضحك على نفسه. كيف ينتظر الإنسان من الله تعالى أن يغفر له وهو مصر على المعصية، غارقٌ فيها؟! الواجب على الإنسان الذي يريد أن يحوّل حاله إلى حال أحسن من التي هو عليها أن يخرج من الحال التي هو فيها، ويتّجه إلى حالة من الاستقامة والصلاح وترك المعصية؛ حتى ينال بذلك مغفرة الله سبحانه وتعالى.
        جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "حسنُ الظَّنِّ من حسنِ العبادة". أبو داود وأحمد. إن المؤمن الذي يُحسِن الظن بالله سبحانه وتعالى هو مَنْ أحسَنَ عبادته لله، واستقام على شرعه سبحانه، ومن أحسَنَ عبادته لله يَحْسُنُ ظنه فيه، ومن حَسُنَ ظنه بالله سبحانه وتعالى وجد عنده ما يصبو إليه، وما يرنو أن يعيشه في حياته الدنيا، وفي الحياة الآخرة إن شاء الله تعالى.
        إذاً.. أفضل أنواع الأمل هو الأمل بمغفرة الله تعالى، وهذا الخطاب نوجّهه لمن يشعر دائماً باليأس والقنوط بأنه غرق في المعاصي وليس له توبة، فهذا الكلام لا يجوز ولا يصحّ أبداً. لكن الأمل بمغفرة الله سبحانه وتعالى يُشْتَرَطُ له حُسْنُ العمل حتى يبلغ الإنسان الدرجة التي يرجوها من الله سبحانه.
^ فضل الأمل:
        الأمل يدفع الإنسان دائماً إلى العمل، ولولا الأمل لامْتَنَعَ الإنسانُ عن مواصلة الحياة ومجابهة مصائبها وشدائدها، ولولاه لسيطر اليأس على قلبه، وأصبح يحرص على الموت أكثر من حرصه على الحياة. لذلك قيل:"اليأسُ سلّمُ القبر، والأملُ نورُ الحياة". وقيل: "لا يأس مع الحياة، ولا حياة مع اليأس". طالما أنك تعيش حياتك تأكل وتشرب، ولك بُنية قوية وصحيحة فلماذا يأتي اليأس إليك؟ عليك أن تسدّ كل أبوابه، فالإنسان الذي تكثر عليه الهموم ويشعر باليأس في حياته، وبالفشل في كل ما يُقْدِمُ عليه، فهذا الإنسان كأنما يحفر قبره بيديه ويقذف بنفسه في تلك الحفرة المظلمة.
وقال الشاعر:
لا خير في اليأس، كُلُّ الخيرِ في الأمل   أَصْلُ الشجاعةِ والإقدام ِفي الرَّجُـلِ
والمسلم لا ييأس من رحمة الله تعالى أبداً، ولا ييأس أن يحوّل الله الحال إلى أحسن حال. يقول الشاعر:
ما بين طَرْفَةِ عـينٍ وانتباهَتِها       يُحَوِّلُ اللهُ من حالٍ إلى حالِ
        فلماذا اليأس طالما أنَّ رحمةَ الله موجودة؟! ولماذا القنوط طالما أن الأمل في عفو الله تعالى يدعو الإنسان ويدفعه نحو التوبة، ونحو اتباع صراط الله المستقيم، ونحو الأمل بحياة مستقرة وآمنة ومطمئنة.
^ الحثّ على الأمل في القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة:
        حث الله عز وجل على الأمل، ونهى عن اليأس والقنوط، وخاصة من رحمته ومغفرته سبحانه، فقال تعالى:[]قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ[] سورة الزمر (53). هذا الخطاب موجَّه لمن أسرف على نفسه في المعاصي وارتكاب الذنوب والموبقات، ولمن غرق في الشهوات. طالما أن الله تعالى فتح باب التوبة ولم يغلقه أبداً، وجعل التوبةَ تُقْبَلُ من العبد ما لم يصل إلى مرحلة الغرغرة، وهي حين تصل الروح إلى الحُلقوم.
        وإذا فعل المسلم ذنباً فهو يسارع بالتوبة الصادقة إلى ربه سبحانه وتعالى، وكله أمل في عفو الله عنه وقَبُول توبته. والأمل طاقة يُوْدِعُها الله في قلوب البشر؛ لتحثَّهم على تعمير الكون، وعلى أن يعيشوا حياتهم بأمل وطمأنينة واستبشار، وهذا ما نفهمه من خلال حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة[1]، فإن استطاع أن لا يقوم حتى يغرسَها فليْغرسْها". مسند أحمد. يعلّمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمل في الحياة، وألا نقنط ونيأس، حتى ولو كان بيدنا نخلة صغيرة خضراء أن نغرسها في الأرض ولو كانت القيامة قائمة، فكن على ثقة بالله، وأمل به سبحانه وتعالى؛ لأنه قادر أن يغيّر حالك، وأن يغير حالي، وأن يغير حال الناس، فلا يصح اليأس من أي حالة كانت، سواء كان اليأس من الشفاء من الأمراض، أو من النجاح في المستويات العلمية التي يتقدم إليها طلابنا، أو من الحياة التجارية، أو من قضاء الديون، فربما كان إنسان غارقاً في الديون فيشعر باليأس، بل ليكن عنده أمل أن الله سبحانه وتعالى سيوفّي له ديونه كلها، وسيبدأ حياته من جديد، ويعود إلى تجارته بقوة وعزّة ومنعة، طالما أن أمله بالله كبير فالله تعالى سيحقق له ذلك الأمل، وطالما أن حسن ظنه بالله عظيم وهو يعمل، فإن الله تعالى لن يخيّبه إن شاء الله.
^ لولا الأمل...
        قال أحد الحكماء: "لولا الأمل ما بنى بانٍ بنياناً، ولا غرس غارس شجراً". لولا الأمل لما تحققت كل الإنجازات التي وصلت إليها البشرية اليوم، نضرب على ذلك مثالاً: المخترع: سواء اخترع آلة بسيطة أو معقدة، لم يتمكن من تحقيق إنجازه من أول مرة في أغلب الأحيان، وإنما حاول تحقيقه مرة بعد مرة دون يأس أو ملل، لذلك استطاع أن يصل في النتيجة إلى النجاح، فصنع الطيارة، وصنع السيارة، وصنع الصاروخ، وصنع الأدوات الإلكترونية المعقدة، كل ذلك نتيجة التجارب المتكررة، مع الصبر والأمل، ومحاربة اليأس والملل، وطرد الكسل، والصبر على العمل الذي قيل فيه: الأمل يُنَمِّي الطموح والإرادة، واليأس يقتلهما.
        فليحرص المسلم على الأمل في كل جوانب حياته، ولْيتمسك به تمسكه بالحياة، فكما أننا نتمسك بالحياة حتى آخر نَفَسٍ فيها، كذلك ينبغي أن نتمسك بالأمل؛ حتى ندركَ النجاح، ولا يجوز أن نستسلم لليأس والقنوط أبداً.
وقد قال الشاعر:
أُعَلِّلُ النَّفْسَ بـالآمـال أَرْقُبُـها     ما أَضْيَقَ الْعَيْشَ لولا فُسْحَة الأمل
فالإنسان المؤمن يصبر على ضيق العيش في هذه الدنيا على أمل أن يفرج الله همومه، ويوسّع عليه، ولولا ذلك لضاق الإنسان بمعيشته، ولْنعملْ جميعاً بقول الله سبحانه وتعالى:[]...وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ[] سورة يوسف (87).
        أيها الإخوة! علينا أن نحسن الظن بربّنا سبحانه وتعالى؛ لأن الله قادر أن يغير أحوالنا، وأن يغير من أنفسنا، وأن يغير من تقصيرنا نحو الأفضل، فتقوى هممنا، ونقوى على العمل، ونطرد اليأس والكسل، ونسعى ونعمل بجدٍّ حتى نحقق ما أراده الله سبحانه وتعالى منا، وما كلّفنا به، وما خَلَقَنَا من أجله.
^ دعاء:
        نسأل الله سبحانه وتعالى على الدوام أن نكون ممن يحسن الظن به، وأن نكون ممن يعيش الأمل في حياته. عسى الله تعالى أن يغفرَ لنا، ويقبلَنا، ويرحمَنا، ويتوبَ علينا، ويُحَسِّنَ أحوالنا، إنه على كل شيء قدير، وبالإجابة جدير، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم، والحمد لله ب العالمين.


[1]أي نخلة صغيرة.

 التعليقات: 1

 مرات القراءة: 14198

 تاريخ النشر: 18/07/2011

2011-09-29

غسان المحب

شكرا سيدي كلام في غاية الفائدة

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 136

: - عدد زوار اليوم

7748099

: - عدد الزوار الكلي
[ 21 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan