::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> خطب الجمعة

 

 

دروسٌ من الهجرة ((فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ))..

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان (المشرف العام)  

خطبة الجمعة بتاريخ 2 / 12 / 2011

في جامع العثمان بدمشق
 

الحمد لله ثم الحمد لله.. الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله. ياربنا لك الحمد كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك.. سبحانك لا نحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك.. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيء قدير.. وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله وصفيه وخليله.. اللهم صلِّ وسلم وبارك على هذا النبي الكريم وعلى آل بيته الطيبين الطاهرين وأصحابه الغرِّ الميامين وسلِّم تسليما كثيراً..

أما بعد فيا عباد الله: أوصي نفسي وإياكم بتقوى الله تعالى وأحثكم على طاعته والتمسك بكتابه والالتزام بسنة نبيه ومنهاجه إلى يوم الدين..

أيها الإخوة المؤمنون: نحن مع دروس هجرة سيدنا رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم ، ودرسنا اليوم عنوانه "فَفِرُّوا إِلَى اللَّه".. الفرار إلى الله إنما هو حقيقة الهجرة، فمن أراد أن يهاجر هجرةً حقيقيةً فينبغي أن تكون إلى الله، وينبغي أن يعتمد في هجرته على الله.. لكنّ الفرار إلى الله لا بدَّ له من وسائل، والفرار إلى الله سبحانه وتعالى إنما هو سفرٌ حقيقيٌّ بالروح والمادة، بالجوهر والأعضاء. فالفرار إلى الله يعني إخلاص العبودية لله سبحانه وتعالى، أن يُخْلِص المؤمن قلبه لله سبحانه وتعالى.. هذا حقيقة الفرار إلى الله..  والفرار إلى الله سبحانه وتعالى إنما يعني تخليص القلب في حبّ الله لله وحده، فلا ينصرف القلب إلى الدنيا وشهواتها إنما يتعلق القلب بالله سبحانه وتعالى ، ولا يمنع ذلك من الأخذ بالأسباب، فالأخذ بالأسباب سنةٌ إلهية.. الأخذ بالأسباب حقيقةٌ شرعية لا بدّ منها، فالسيدة مريم عليها السلام أم سيدنا عيسى عليه السلام عندما حملت بعيسى واقترب وقت وضعها أمرها الله سبحانه وتعالى أن تلتزم الأسباب لكي يتحرك المخاض وتلد عيسى فقال الله تعالى لها:  ((وهُزّي إِليكِ بِجِذْعِ النَخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رَطْباً جَنِيا))[مريم : 25] فبدأت تهز النخلة فتحرك المخاض فولدت عيسى فأكلت بعد الولادة رُطباً وأجرى الله الحليب في ثديها من خلال تلك الحلاوة، ومن خلال هذا العمل بالسبب الذي جعله الله سبحانه وتعالى سبباً في تحقق حياة هذا الطفل المولود الذي سيكون نبياً ورسولاً.

فالأخذ بالأسباب في حياتنا اليومية إذاً جزءٌ من حياتنا اليومية، لا يمكن أن يعيش الإنسان عزيزاً حراً منيعاً إن لم يعمل بالأسباب، إن لم يتّخذ الأسباب. الغِنى لا يأتي للغنيّ وهو نائمٌ في فراشه، والعلم لا يأتي للعالِم وهو متكِىءٌ على وسادته، إنما يحتاج العلم إلى رحلةٍ في طلب العلم، يحتاج العلم إلى سهرٍ في طلب العلم، يحتاج العلم إلى جلوسٍ على الركب بين أيدي العلماء، ويحتاج الغنى إلى بذلٍ وجهدٍ وتفريغ وقتٍ ونحو ذلك من الأسباب..

وكذلك فعل سيدُنا رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم  يوم هجرته من مكة إلى المدينة، عَمِلَ بالأسباب. اتخذ الأسباب لتكون مسبباً لنجاحات مستقبلية، ولتكن مهيئةً لمجال الدعوة الإسلامية، ولعل من أول الأسباب التي اتخذها النبي وتصلح للهجرة "اختيار الصُحْبة الصالحة". فالنبي عليه الصلاة والسلام أذِن لكثير من أصحابه بالهجرة فهاجر من هاجر وسبق الصحابةُ رسولَ الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم  إلى المدينة وأقاموا فيها، وأُقيمت الصلاة في المدينة، وعمَّ الإسلام كل بيتٍ حتى لم يبقِ بيتٌ إلا وفيه مسلم. لكنّ النبيّ عليه الصلاة والسلام اصطفى لنفسه أبا بكرٍ رضي الله عنه. فلمّا جاء أبو بكر يستأذن رسول الله بالهجرة قال له النبي عليه الصلاة والسلام : "على رِسْلِكَ يا أبا بكر فإني أرجو أن يؤذن لي بها" ولما جاء الإذن للنبي عليه الصلاة والسلام بالهجرة خرج صلى الله عليه و سلم من بيته قاصداً بيت أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه في وقت لم يكن يأتيهم في عادةً. فكان عليه الصلاة والسلام يأتي بيت أبي بكر ضحىً وكان يأتيه عند العصر، لكنه هذه المرة جاء بيت أبي بكر ليلاً كما تقول السيدة عائشة رضي الله عنها: "أتانا رسول الله صلى الله عليه و سلم في وقتٍ لم يكن يأتينا فيه فقال يا أبا بكرٍ إنه قد أذن لي بالهجرة فبكى أبو بكر رضي الله عنه بكاءً من شدة الفرح" كما تقول السيدة عائشة "ما رأيت أحداً يبكي فرحاً كما رأيت أبا بكرٍ يبكي فرحاً عندما أذن لرسول الله بالهجرة" فقال يارسول الله "الصحبة الصحبة.. الصحبة الصحبة" هذه هي الصحبة أيها الإخوة التي أثمرت رحلة الإسلام من مكة إلى المدينة. هذه هي الصحبة التي كانت قائمةً على المودة والمحبة والإخلاص والتضحية في سبيل الله.

® فمن هو أبو بكر أيها الإخوة؟ من هو أبو بكر حتى صحبه رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم؟

إن أبا بكر رضي الله عنه كان قد فرَّغ نفسه وأوقف نفسه وماله وأولاده لخدمة الإسلام.. أبو بكر ليس شخصاً بل هو مؤسسة ٌكاملة كانت في خدمة الإسلام.. كان مال أبي بكر رضي الله عنه مسخراً لرسول الله. جهز به الجيوش، فتح به الفتوحات، أعان به الفقراء، قدمه للمحتاجين خدمةً لرسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم.

عندما استصرخ رسول الله يوماً المسلمين وكان الزمن زمن عسرة، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "اليوم أسبق أبا بكر" فجاء بنصف ماله ووضعه في حجر رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم . فقال له رسول الله : "ياعمر، ماذا أبقيت لعيالك؟" قال "أبقيت لهم النصف يارسول الله". وإذا بأبي بكرٍ يأتي فيضع ماله في حجر رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم ، فيقول له "يا أبا بكر ماذا أبقيت لعيالك؟" فيقول "أبقيت لهم الله ورسوله". أنفق ماله كله حتى أن بعض الروايات تقول إن أبا بكرٍ أنفق ماله كله خمس مرات. ينفقه ثم يعود من جديد فيبني ماله، وكان تاجراً. والإسلام يريد أن يكون أبناؤه أقوياء أغنياء لا يريدهم ضعفاء، لأن الغني القوي بحقق ركناً عظيما من أركان الإسلام الا وهو الزكاة. أما الفقير فربما يموت ولا يحقق هذا الركن، ولذلك ينبغي عليه أن يجتهد ليحققه ولو مرة في حياته، أن يملك النصاب وأن يحول عليه الحوْل لينفق ماله زكاةً في سبيل الله تعالى ويقيم بذلك ركناً عظيماً من أركان الإسلام. "أبقيت لهم الله ورسوله" فقال عمر "والله لا أسبقك أبداً يا أبا بكر" وكان عمر رضي الله تعالى عنه يقول "ليومٌ في حياة أبي بكر خيرٌ من عمر وحياته كلها" وذلك أدباً وتواضعاً مع سيدنا أبي بكر، وإعلاءً لمقامه رضي الله تعالى عنهما وأرضاهما.

 

® أيها الإخوة: "الصحبة". لم يختر رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم أبا بكر صاحباً عن عبث، إنما اختاره لأنه فرَّغ نفسه لله، ولأنه كان يخدم الإسلام ، فبيت أبو بكر كان بيتاً للأمة، كم اشترى أبو بكر من العبيد وأعتق في سبيل الله تعالى؟ وكم قدَّم أبو بكر في سبيل الله تعالى إعلاءً لكلمة الله؟ كم أنفق من ماله في سبيل الله تعالى خدمةً للإسلام؟ أليس عبد الله بن أبي بكر رضي الله عنه هو الذي اتخذه أبو بكر سبباً من الأسباب يوم الهجرة فكان يأتي في الصباح قبل أن تستيقظ قريشٌ من منامها إلى غار ثور ليخبر أبا بكر ورسول الله بما يخطط القوم. وأما ما كان يتخذه أبو بكر رضي الله عنه من أسباب أخرى فكان قد جعل له أحد رعاة الأغنام ليمشي خلف أقدام عبد الله بن أبي بكر ليمحو بذلك الأثر. وكان العرب يعرفون بما يسمى بالقيافة، والقيافة هي تتبّع الأثر.. ويستطيعون أن يصلوا من خلال آثار الأقدام إلى هدفهم .

وأما أحد الذين كانوا يعملون في بيت أبي بكر للخدمة، فكانت مهمته أن يأتي كل صباح باللبن لرسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم  وأبي بكر.ومع ذلك لم ينس أبو بكر أن يستأجر دليلاً الذي يسمى بلغة العرب (خريتاً) أي هو الذي يعرف مداخل الطرق وأبوابها ومسالكها ولا يعرفها غيره وكل ذلك في خدمة رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم وحفاظاً على الإسلام. فخدمة رسول الله خدمةٌ للإسلام، ورعاية رسول الله رعايةٌ للإسلام.

ولا ننسى دور عائشة وأسماء رضي الله عنهما فقد كانتا تجهزان الزاد لرسول الله وأبيهما ولماّ لم تجدا وعاءً تربطان به آنية الطعام شقّت أسماء بنت أبي بكر نطاقها، شقته نصفين، تمنطقت بنصف وربطت بالنصف الآخر وعاء الطعام أي آنية الطعام فسميت بذات النطاقين. النطاق أيها الإخوة هو قطعة من القماش تضعه المرأة العربية على وسطها لتشد به وسطها وتجمع به الثياب حتى لا يظهر منها شيءٌ من عورتها أي حتى لا تحجم ثيابها جسدها فتمشي في الطريق فتثير الفتنة وتحرك الغرائز.. ولعلّ المرأة المسلمة تفيد من هذا المعنى أن تُعنى بحشمتها أكثر، وأن تحرص على عفتها أكثر كما حرصت أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها وأرضاها.

أيها الإخوة هذه المؤسسة، مؤسسة أبي بكر رضي الله عنه، بيته، ماله،أسرته، أبناؤه، راعي الغنم عنده، الخادم، الأجير الذي استأجره كل ذلك كان في خدمة الإسلام.. وكل ذلك كان من جملة الأسباب التي يتخذها المسلم في حياته التربوية.

الدرس الذي نخلص به أيها الإخوة ونحن نتحدث عن الفرار إلى الله: هل أسرتنا اليوم كأسرة أبي بكر رضي الله عنه؟ هل أسرتنا اليوم ونحن في هذا العصر الذي توافرت به كل أنواع الرفاهية، وتحقق له أقصى ما يمكن من سهولة العيش والحياة، هل تعيش الأسرة اليوم كما كانت أسرة أبي بكر رضي الله عنه؟

بمعنى، هل تحرص الأسرة المسلمة أن يكون لها بصمةٌ في التاريخ كما كان لأسرة أبي بكرٍ رضي الله عنه؟ رب الأسرة.. ربة الأسرة.. الأبناء.. المسخرات. المكوّنات التي تتشكل منها الأسرة:العلم والمال المعرفة والطاعات والجهد و الجاه ونحو ذلك.. هل سُخِّر كل هذا في خدمة الإسلام؟ هذا ما نرجوه أيها الإخوة أن تكون كل أسرة منا نحن أبناء هذا الإسلام وأتباع هذا الدين مسخرة لخدمة هذا الدين، فإن لم نستطع فليكن من كل أسرة واحد.. فلننذر شخصاً واحد.

 

® رحم الله العلماء الأوائل حيث كانت كل أسرة تفرد من أسرتها فرداً لطلب العلم، لتلقي العلم، وأذكر على سبيل المثال سفيان الثوريّ رحمه الله تعالى إمام التابعين أمير المؤمنين في الحديث درايةً وروايةً وتخريجاً وعلماً، وضعه أبوه في حلقة شيخ له ليتلقى حديث رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم  وما لبث أن مات الده، فترك سفيان الثوري حلقة شيخه وعاد إلى بيته ليعمل وينفق على أمه وإخوته ، فقالت له أمه لم تركت حلقة شيخك؟لم تركت رواية حديث رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم ؟ فقال يا أماه، بعد أن مات والدي من ينفق عليك ومن ينفق على إخوتي؟ لقد تركت حلقة شيخي للعمل لكي أنفق على نفسي وعليكم. فقالت له أمه : يا بني، ارجع إلى شيخك واحرص على حديث رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم ، واطلب العلم أكْفِك بمغزلي. فعاد سفيان الثوري إلى حلقة شيخه وأستاذه وكانت أمه تشتري الصوف وتغزله وتبيعه في السوق وتنفق على ولدها وعلى عيالها حتى غدا سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث.

هكذا تكون الأسرة أيها الإخوة، تنذر منها فرداً لله، للإسلام، لخدمة هذا الدين، لنصرة راية لا إله إلا الله ولعلّ هذا من أعظم الدروس التي نفيدها من قول الله تعالى : ((فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِإِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ))[الذاريات:50]..

الفرار إلى الله هو أن يجد المسلم مظلة يستظل بها تحت رحمة الله سبحانه وتعالى.. أن يعيش المؤمن في ظل هذه الرحمات تتنزل عليه وذلك من خلال أخذه بالأسباب ومن خلال عمله بكل ما ورد عن سيدنا رسول الله صلَّى الله عليهِ وسلَّم..

أيها الإخوة أعود إلى درس الصحبة التي أشار إليها النبي عليه الصلاة والسلام ، وأُذكر بحديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "مثل الجليس الصالح والسوء: كحامل المسك، ونافخ الكِير. فحامل المسك: إما أن يَحْذِيَك، وإما أن تبتاع منه، وإما أن تجد منه ريحاً طيبة. ونافخ الكير: إما أن يحرق ثيابك، وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة" متفق عليه. إنه يشبه صاحب السوء ورفيق الخير. فصاحب السوء إنما يشبه عمل الحداد الذي يشتغل بالحديد والنار إما أن يحرق ثيابك وإما أن تجد منه ريحاً خبيثة، أي: كريهة. وأما رفيق الخير رفيق الدرب الصاحب الصالح الصادق فشبهه النبي عليه الصلاة والسلام بالعطار إما أن يُحذيَك، أي أن يعطرك، وإما أن تشم منه رائحة طيبة.

 

إذاً أيها الأخوة فلنحرص على أن يكون أصحابنا من رفقاء الخير لا من رفقاء السوء..

اللهم اجعلنا وإياكم من من يسمعون القول فيتبعون أحسنه..

 أقول هذا القول وأستغفر الله...
 

 التعليقات: 1

 مرات القراءة: 4444

 تاريخ النشر: 04/12/2011

2011-12-07

نبيل دغفالي

لا فض فوك سيدنا الله يزيدك و يحميك و سلامي الحار لأهل الطيبة الحبايب.

 

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 725

: - عدد زوار اليوم

7395631

: - عدد الزوار الكلي
[ 55 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan