الصبر على البلاء ..
بقلم : مهند محمد نبيل القدسي
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى في كتابه العزيز : ((ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين)) [البقرة : 155].
البلاء...! ذاك الذي يخافه الجميع ويهرب منه الصغير والكبير ويبتعد عنه الناس ابتعاد المشرق عن المغرب وينزعجون لنزول البلاء انزعاجاً يزيد على الحد، كأنهم ما علموا أن الدنيا على ذلك وضعت، وقد كان سليمان عالماً بطبيعة الدنيا عندما رزق التمكن الهائل فيها فقال: (( هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر ومن شكر فإنما يشكر لنفسه ومن كفر فـإن ربـي غـني كـريم )) [النمل:40] نعلم أن مجرد الابتلاء ليس شراً ، ولكن الشر هو أن نسقط في الابتلاء، فكل ابتلاء هو اختبار وامتحان، فلم يقل أحد أن الامتحانات هي شر بل إنها تصير شراً من وجهة نظر الذي لم يتحمل مشاق العمل والجهد للوصول للنجاح، أما الذي بذل الجهد وفاز بالمركز الأول ، فالامتحانات خير بالنسبة له.
يقول الشيخ عبد القادر الجيلاني: (لا تهرب من البلاء فإن البلاء مع الصبر أساس لكل خير، أساس النبوة والرسالة والمعرفة والمحبة ، فإذا لم تصبر على البلاء فلا أساس لك ولا بقاء لبناء إلا بأساس) .
ولا بد للإنسان أن يعلم أن الذي يبتليه بالمصائب هو أحكم الحاكمين وأرحم الراحمين، وانه سبحانه وتعالى لم يرسل البلاء ليُهلكه به ولا ليعذبه، وإنما افتقده به ليمتحن صبره ورضاه عنه وإيمانه، وليسمع تضرعه وابتهاله وليراه طريحاً على بابه لائذاً بجنابه، رافعاً يديه يشكو همه ويطلب فرجه، ولن يأتي الفرج وتنكشف الغمة إلا بعد الصبر والمصابرة وتحمل المشاق والآلام.
وقد ذكر الله الصبر في القرآن في أكثر من تسعين موضعاً وأضاف أكثر الدرجات والخيرات إلى الصبر وجعلها ثمرةً له، وجمع للصابرين بين أمور لم يجمعها لغيرهم.. فقال تعالى : (( ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون أولائك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولائك هم المهتدون )) [البقرة : 155-157]. فالهدى والرحمة والصلوات مجموعة للصابرين .
وقال عز وجل: (( إنما يوفّى الصابرون أجرهم بغير حساب )) [الزمر:10]. لا يوجد قربة إلى الله إلا ولها أجرٌ معروف ومقدر إلا الصبر، ولأجل كون الصوم من الصبر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن رب العالمين: "الصوم لي وأنا أجزي به" { متفق عليه}.
وقال سبحانه وتعالى: ((ولنجزين الذين صبروا أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون)) [النحل:96]. وهذا قسم من رب العالمين مؤكد باللام أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم أي ويتجاوز عن سيئاتهم إكراماً لهم على صبرهم.
وقال عز وجل : (( وجعلنا منهم أئمة بأمرنا لما صبروا )) [السجدة :24]. أي بعد أن امتحنهم الله ووجد منهم الصبر والامتثال لأمره فتح عليهم وجعلهم أئمة وقدوة ، فمن كان مظلوماً ومقهوراً فليصبر وليحتسب ذلك عند الواحد القهار ، وليكن على يقين بأن الله سيعاقب الظالم ويرفع المظلوم درجات جزاءً من الله له على صبره فهو العادل سبحانه وتعالى وهو الذي وعد الصابرين أنه معهم ، قال تعالى : (( واصبروا إن الله مع الصابرين)) [الأنفال : 46] فكيف يتخلى عنهم ، والله إنه ليكفي الصابرين هذه الآية، ألا يكفيهم أن الله معهم، ألا يكفيهم أن الله مطلع عليهم ويعلم ما يعانون ويتألمون ، والله إنه ليكفي ذلك..
وقد علق سبحانه وتعالى النصرة على الصبر فقال عز من قائل: (( بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسوّمين )) [آل عمران : 125] . فمن صبر فلا بد أن ينتصر وإن طالت المدة وتأخر النصر وتكالبت عليه الأمم فهذا وعد من الله ولن يخلف الله وعده .
ومن الغرائب أن بعض الناس فهم أن الإسلام يمجد الآلام لذاتها ويكرم الأوجاع والمصائب ، فهذا خطأ بعيد وجهل عظيم ، فعن أنس بن مالك قال: "رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شيخاً يهادي بين ابنيه ، فقال : ما بال هذا ؟ قالوا : نذر أن يمشي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله عن تعذيب هذا نفسه لغني . وأمره أن يركب" . { رواه البخاري } .
وقال سبحانه وتعالى : ((ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم)) [النساء : 147].
فالإسلام يحمد لأهل البلوى وأصحاب المتاعب رباطة جأشهم وحسن يقينهم ، والإسلام يهتم بنتيجة الامتحان الذي يجب اجتيازه بقوة وتسليم ، لا بسخط على القدر .
ورد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على امرأةٍ مريضة فوجدها تلعن الداء وتسب الحمى ، فكره منها هذا المسلك وقال لها مواسياً : "إنها – أي الحمى – تذهب خطايا بني آدم كما يذهب الكير خبث الحديد" { رواه مسلم } .
فهل معنى ذلك أن نربي الأمراض في والأوجاع في والجراثيم في جسدنا ونتركها تستفحل وتنتشر فيه؟؟؟
ومن الخطأ المشين أن يظن المسلم أن تلاحق الأذى عليه دليل على نسيان الله له وإبعاده من رحمته ، وذلك على العكس تماماً فإن المصائب ومصاعب الحياة تتمشّى مع همم الرجال وعظمتهم علواً وهبوطاً.
فهذا نبي الله يوسف عليه السلام الذي قال عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم" {رواه البخاري} . انظر إلى هذا الكريم كيف أمضى مراحل حياته الأولى وهو يخرج من ضائقة ليدخل في أخرى. فَقَدَ أمه وهو طفل، ثم تآمر عليه إخوته، فاصطفوه من أحضان أبيه ورموه في البئر، ثم أصبح عبداً للسيارة الذين أخرجوه من البئر ثم باعوه في سوق الرقيق بثمن بخس دراهم معدودة، واشتراه ملك مصر، فما إن آواه في القصر حتى تعرض للدسائس الماكرة فاتُّهم وهو العفيف الطاهر، بأنه يبغي السوء. وبالرغم من ظهور براءته فقد رُميَ في السجن ليس أياماً أو شهوراً بل بضع سنين ، وماذا بعد ذلك ؟ أصبح عزيز مصر بعد أن صبر واحتسب ورَضِيَ بقضاء الله.
ولو نظر شخص إلى ماضي يوسف عليه السلام ووجده مثقلاً بالآلام لضاقت به الأرض وتنكر للسماء، إنما يوسف لم يفعل ذلك بل كان شديد اليقين بالله لا بل كان يدعُ إلى الله أيضاً وهو في السجن ويُذكّر به من جهلوه . ((يا صاحبي السجن أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار ما تعبدون من دونه إلا أسماءً سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيّم ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون)) [يوسف : 39 – 40] . ذلك هو شأن أصحاب الفضل من الناس لا يفقدون صفاء دينهم إن فقدوا صفاء دنياهم .
قال سيدنا خبّاب بن الأرت رضي الله عنه: شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسّد بردة له في ظل الكعبة ، فقلنـا : ألا تستنصر لنا ألا تدعو لنا ، فقال : "قد كان من قبلكم يؤخذ فيحفر له في الأرض فيجعل فيها ، ثم يؤتى بالمنشار فيوضع على رأسه فيجعل نصفين ، ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه وعظمه ، ما يصدّه ذلك عن دينه ، والله ليتمّنّ الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون" {رواه البخاري} مهما كان الابتلاء شديداً وصعباً وقاسياً فلابد من الصبر وعدم الاستعجال هذا ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدنا خبّاب بن الأرت الذي كان يلقى أشد أنواع العذاب ، فكان المشركون يضعون سيدنا خبّاب بن الأرت على الجمر فما يطفئ الجمر إلا شحم ظهر سيدنا خبّاب ورغم هذا كله أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدم الاستعجال، وقد كان سيدنا بلال يوسّد على رمال الصحراء الحارقة يضعون الصخرة على صدره وهو يقول أحدٌ أحد، وعندما صبر الصحابة الكرام على أصناف العذاب وتحملوا المشاق في سبيل هذا الدين ففتح الله عليهم مشارق الأرض ومغاربها وأصبحوا أسياد العالم بعد أن كانوا مذلولين مقهورين مضطهدين وذلك جزاء كل من يسير على خطاهم فهذا قانون إلهي فقد قال تعالى: ((وجعلنا منهم أئمة بأمرنا لما صبروا)) [السجدة : 24]. ورفعهم الله بهذا الدين فسيدنا بلال أصبح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا الذي كان عبداً حبشياً أصبحنا نقول سـيدنا بلال، وأبو لهب ذاك الذي كان عربـياً وزعيماً في قومه وسيداً عليهـم قـال الله فـيه : (( سيصلى ناراً ذات لهب )) [المسد: 3]
لماذا ؟؟ لأنه كان مشركاً ظالماً وذاك جزاء كل من يظلم ويعذّب ويشرّد ، فلا يظنن أحدٌ أن الظالم سيفلت من عقاب الله فإن لم يأخذ المظلوم حقه في الدنيا فسيأخذه يوم القيامة وإن أفلت الظالم من العقاب في الدنيا فلن يفلت من العقاب في الآخرة وسيكون حسابه عسيراً عند الله الملك القهار الجبار .
ولماذا سيدنا بلال أصبح مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنه كان صابراً محتسباً ذلك عند رب العالمين وذاك جزاء كل صابر محتسب أجره عند الله سبحانه وتعالى جزاءه رفعةً في الدنيا وفي الآخرة جنان عرضها كعرض السماوات والأرض ، قال تعالى: (( إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب )) [الزمر : 10].
ولكن من هو الصابر ؟ هل من يشق الجيوب ويلطم الخدود ويبالغ في الشكوى يعتبر صابراً ؟ هل من يشق الثياب ويترك الطعام ويظهر الكآبة يعتبر صابراً ؟ .
الصابر هو من يرضى بقضاء الله تعالى فإذا أخذ الله منه شيئاً فليعتقد أن ذلك كان وديعة واستُرجِعَت فلو ابتلاه الله وقبض حبيباً له كالابن مثلاً فليعلم أن الله هو من وهبه ذلك الولد وهو الذي أخذه وسيجازيه الله على صبره أحسن الجزاء . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله لا يرضى لعبده المؤمن إذا ذهب بصفيّه من أهل الأرض فصبر واحتسب بثواب دون الجنة" { رواه النسائي } .
وإذا ابتلاه رب العالمين فحرمه نعمة البصر ، فليس له جزاء إلا الجنة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الله عز وجل قال : إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة" {رواه البخاري}. ويريد بحبيبتيه: عينيه .
إذاً فالله عز وجل إذا ابتلى أحد عباده بشيء فليعلم أن جزاؤه الجنة .
ومن أهم ما يعين على الصبر هو معرفة حقيقة الحياة الدنيا بأنها حياة فانية لا بقاء لها وأن الآخرة هي دار القرار والبقاء والخلود ، فمن عرف حقيقة الدنيا زهد بها ولم يكترث لما يصيبه فيها من مصائب وهموم وابتلاءات ويعلم أن ثوابه هو الجنة ويبقى قلبه معلق بالله تعالى دائم الذكر لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من يرد الله به خيراً يصب منه" {رواه البخاري}. أي يبتليه بالمصائب ليطهره من الذنوب فيلقى الله نقياً وهكذا تصبح النظرة للابتلاء نظرة إيجابية عوضاً عن كونها سلبية ، فالله جل وعلا عادلٌ فإن ابتلاه في أهله أو حرمه نعمةً ما ، فلابد أن يكرمه في الدنيا والآخرة لأنه العادل الكريم العظيم الجليل سبحانه وتعالى .
أسأل الله العلي العظيم أن يغفر لنا ذنوبنا ويثبت قلوبنا على دينه ويرزقنا الإخلاص بالقول والعمل ويجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن ويرفع البلاء عن بلدنا الحبيب وسائر بلاد المسلمين ويحقن الدماء... اللهم آمين
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
التعليقات:
2 |
|
|
مرات
القراءة:
5541 |
|
|
تاريخ
النشر: 20/03/2012 |
|
|
|
|
|
|