::: موقع رسالتي - رؤية جديدة في الخطاب الإسلامي :::

>> مقالات متنوعة

 

 

الأم ومكانتها في الإسلام

بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان  

 

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اثنان إذا ذكرتَهما ذكرتَ البر والإحسان..
                                 اثنان إذا ذكرتهما أسعفتك بالدموع العينان..
مضت أيامهما... وانقضى شبابهما... وبدا لك مشيبهما...
وقفا على عتبة الدنيا وهما ينتظران قلباً رقيقاً... وبراً عظيماً...
فطوبى لمن أحسن إليهما ولم يسئ لهما... طوبى لمن أضحكهما ولم يبكهما...
طوبى لمن أسعدهما ولم يحزنهما... طوبى لمن أكرمهما ولم يُهنهما...
طوبى لمن نظر إليهما نظرة رحمة وودٍّ وإحسان...
وتذكَّّر ما كان منهما من بر وعطف وحنان...
طوبى لمن سهر ليله في حبهما... طوبى لمن شمّر عن ساعد الجد في برِّهما...
فما خرج من الدنيا إلا وقد كتب الله له رضاهما.....
§ مكانة الوالدين في القرآن والسنة:
إنهما الوالدان؛ الأم والأب... جعل الله تعالى الإحسان إليهما بعد الأمر بتوحيده قال تعالى:[]وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا...[]سورة الإسراء (23). وكذلك جعل الله عقوقهما، والاعتداء عليهما - بعد الشرك بالله - من أعظم الذنوب التي يعصي الإنسان بها ربه. يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:"ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟[1] الإشراك بالله، وعقوق الوالدين، وشهادة الزور". صحيح مسلم. فجعل عقوق الوالدين المعصية التي تلي الإشراك بالله. أوصى الله تعالى بهما، وجعل الإحسان إليهما شرطا أساسياً من شروط صحة الإيمان، وكماله، وتمامه. حتى أن الله تعالى حذَّر من أن يسيء الإنسان إلى والديه، ولو بكلمة أفٍّ فقال: []...فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا[]سورة الإسراء (23). يقول العلماء: ولو كان هناك كلمة أدنى من كلمة أُفٍّ، لذكرها القرآن الكريم، ولكنها أبسط كلمة يعبر بها الإنسان عن ضجره.
وإنني أخص الأمَّ في حديثي، فللأم مكانتها العظيمة، وذلك لما لها من دور عظيم في التربية، وصناعة الأجيال، فهي المدرسة التي تخرِّج منها الأجيال عبر التاريخ. يقول الشاعر:
الأم مدرسـة إذا أعـددتها       أعددت شعباً طيب الأعـراق
الأم أسـتاذ الأساتذة الألى         ملأت مآثرهم مدى الآفـاق
§ نماذج عظيمة من برّ الأبناء بأمهاتهم:
أ- بر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمه:
هذا رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم؛ معلم البشرية، ومعلم الإنسانية، وأكثر الناس براً بوالديه، وبأجداده، وبأعمامه، وبأهله، وأصحابه، وأقربائه، وأحفاده، وأزواجه، وذريته، وأتباعه، وهو اليتيم الذي نشأ يتيماً، ولم يدرك أباه وأمه. كان له مع أمه قصة عظيمة مُبكية، ينقلها لنا الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة يقول: زار النبي - صلى الله عليه وسلم - قبر أمه، فبكى، وأبكى من حوله، فقال: "استأذنت ربي في أن أستغفر لها، فلم يُؤذن لي، واستأذنته في أن أزور قبرها، فأذن لي". لقد رقّ قلب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين زار قبر أمه (السيدة آمنة)، وتفطّر حبا،ً ورقة، ومحبة، وسأل ربه أن يستغفر لها، لكنه لم يأذن له؛ لأن أمه وأباه من أهل الفَتْرة، إن شاء الله عذبهم، وإن شاء رحمهم. وهاهو - عليه الصلاة والسلام - يوماً في الجعرانة يقسم الغنائم، وقد بسطت بين يديه كالجبال، والناس من حوله يوزع عليهم العطايا والمنح، وإذا به من بعيد يلمح أمه بالرضاعة، فإذا به يقوم، ويخلع رداءه، ويبسطه أرضاً، ثم يناديها، ويجلسها على ثوبه تعظيماً لها وتكريماً، ثم يقول للناس: إنها أمي التي أرضعتني. يعلمنا بذلك درساً عظيماً، كيف نعظِّم أمهاتنا، ولو كُنَّ أمهات الرضاعة، فما بالنا بأمهات النسب؟ إنها الأم التي حملت جنينها في بطنها تسعة أشهر، وقاست وعانت من آلام الحمل، والولادة، والتربية، والرضاعة، والعناية في الليل والنهار ما قاست، تسهر على راحته، تظمأ لريه، تضعف لصحته، تجوع لشبعه.
ب- بر الأنبياء والرسل لوالديهم في القرآن الكريم:
لما كان بر الوالدين من القربات العظيمة، فقد تسابق إليها الأتقياء من عباد الله، سواء كانوا من الأنبياء، أو الرسل، أو الصالحين على مر الزمان، فضربوا لذلك أعظم الأمثلة، وقد ذكر القرآن نماذج أنبياء كان لهم مواقف بر ووفاء مع والديهم. منها:
1- سيدنا نوح عليه الصلاة والسلام:
الذي كان يخص والديه بدعائه فيقول:[]رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا[] نوح (28).
2- سيدنا عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام:
الذي كان يقول:[]وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا[] مريم (32). فقد كان يسأل الله أن يكون باراً بوالدته (السيدة مريم العذراء).
3- سيدنا يحيى بن زكريا عليهما الصلاة والسلام:
كان أيضاً باراً بوالديه قال تعالى عنه:[]وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا[] مريم (14).
4- سيدنا إبراهيم عليه الصلاة والسلام:
كان له مع أبيه قصة عظيمة فقد كان يدعوه إلى الله تعالى بتحبب وبر وأدب قال تعالى:[]وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّ[]إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا[]يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا[]يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا[]يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا[]سورة مريم (41+42+43+44+45). فكان في خطابه تحبب وتقرب وأدب ورحمة...
جـ- موقف برٍّ جعل صاحبه مجاب الدعاء:
يروي مسلم في صحيحه عن أسير بن جابر أنه قال: "كان عمر بن الخطاب إذا أتى عليه أمداد أهل اليمن سألهم: أفيكم أويس بن عامر؟ حتى إذا أتى على أويس فقال: أنت أويس بن عامر؟ قال: نعم. قال: من مراد ثم من قرن؟ قال: نعم. قال: فكان بك برص فبرأت منه إلا موضع درهم؟ قال: نعم. قال: لك والدة؟ قال: نعم. قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ""يأتي عليكم أويس بن عامر مع أمداد أهل اليمن، من مراد ثم قرن، كان به برص فبرأ منه إلا موضع درهم، له والدة هو بها برٌّ، لو أقسم على الله لأبرَّه"". فإن استطعت أن يستغفر لك فافعل". فاستغفِر لي. فاستغفرَ له".
أجل.. كان أويس بن عامر بَرَّاً بأمه، فجعل الله له مزية عظيمة، وهي أنه إذا أقسم على الله لأبره، وهذه ثمرة البر؛ استجابة الدعاء، والقرب من الله تعالى.
ء- مواقف من بر السلف الصالح بأمهاتمهم:
من أخبار السلف الصالح في برهم لآبائهم وأمهاتهم بعض القصص أذكر منها:
1- ابن يطوف بأمه حول الكعبة المشرفة:
رأى سيدنا عبد الله بن عمر ذات يوم رجلاً قادماً من اليمن، يطوف حول الكعبة المشرفة، يحمل أمه على ظهره وهو يقول:
إني لها بعيـرها المـذلل     إن أذعرت ركابها لمْ أُذعر
كان يشبّه نفسه وهو يحمل أمه بالبعير المذلل لها، فجاء رجل إلى سيدنا عبد الله بن عمر رضي الله عنه، فدلّه على ذلك الرجل، وسأله: أترى أنه كافأ أمه؟ فقال ابن عمر: لا.. ولا بزفرة واحدة.... أي إنه لم يؤد من حق أمه شيئاً، ولو أنه طاف بها حول البيت المعظم، وهي على كتفيه وظهره.
2- ابن يحمل أمه من خراسان إلى مكة حتى قضى بها مناسك الحج:
رجل آخر جاء وهو يحمل أمه من خراسان إلى مكة المكرمة، فالتقى بسيدنا عبد الله بن عمر - وكان معروفاً عن سيدنا عبد الله بن عمر أنه متشدد في الدين، وصلب كأبيه رضي الله تعالى عنه، كان زاهداً في الدنيا، مقبلاً على الله سبحانه وتعالى - فقال له: يا ابن عمر: حملت أمي على رقبتي من خراسان حتى قضيتُ بها مناسك الحج، أتراني جزيتها؟ فقال رضي الله عنه: لا! ولا بطلقة من طلقاتها عند الولادة
3- ابن حبس نفسه على خدمة أمه في كِبَرها:
جاء رجل إلى سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه، فقال له: يا أمير المؤمنين: إن لي أماً بلغ بها الكبر، إنها لا تقضي حوائجها إلا ويكون ظهري مطيَّةً لها، وأوضِّئها، وأصرف وجهي عنها، فهل أديت حقها؟ فقال: لا. فقال الرجل: أليس قد حملتها على ظهري، وحبست نفسي عليها؟ فقال سيدنا عمر: إنها كانت تصنع ذلك بك وهي تتمنى بقاءك، وأنت تصنعه وأنت تتمنى فراقها، ولكنك محسن في عملك، والله يثيب الكثير على القليل. هذه هي حال الأم أيها الإخوة، مهما تعبت من أجل ابنها لا يكون في قلبها قسوة عليه، بل يزداد قلبها حباً له، بخلاف الابن الذي إن أحسن إلى أمه وهي ضعيفة محتاجة إليه؛ يتمنى أن يريحها الله ويخفف عنها وعنه!
هـ- أمثلة عن برّ بعض الأعلام بأمهاتهم:
أيّها الإخوة القراء: مقام الأم مقام عظيم، وقد كان سلفنا الصالح - رضي الله عنهم - يجلّون أمّهاتهم كثيراً، ويعطونهنّ المكانة العليا، وإليكم بعض الأمثلة:
1- علي بن الحسين (زين العابدين):
يروى عن سيدنا علي زين العابدين بن الحسين بن علي رضي الله عنهم، وهو من سادات التابعين، أنه كان من أبرّ الناس بأمه، حتى أنه كان لا يجرؤ على الأكل من الصحن الذي تأكل منه، فقيل له: إنك أبر الناس بأمك، ولكننا لا نراك تأكل معها في صحفة الطعام، ولا تمد يدك إلى الموضع الذي تأكل هي منه. فقال:"إني أخاف أن تسبق يدي إلى ما سبقت إليه عينُها، فأكون قد عققتها".
2- محمد بن سيرين:
كان الإمام الجليل محمد بن سيرين - رحمه الله تعالى - أحد كبار التابعين، وكان إذا كلم أمه كأنه يتضرع لها تضرعاً، أي: كأنه يتذلل لها. دخل عليه رجل يوماً وهو يكلم أمه، فقال: ما به؟ كأنه يشتكي شيئاً؟ فقالوا له: لا. ولكنه هكذا يكون إذا كان بين يدي أمه. لقد كان في حالة تذلل، ومن يراه في هذه الحالة، يظنّ به مرضاً. وهو في الحقيقة لا يشكو شيئاً، بل يتواضع بين يدي أمه عملاً بقوله تعالى: []وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ[2]مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا[] الإسراء (24).
3- حيوة بن شُريح:
وهذا رجل آخر من كبار علماء المسلمين، إنه حيوة بن شريح، كان يجلس في حلقته المئات من العلماء يروون عنه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأتيه طلاب العلم من فجاج الأرض، ومن كل مكان؛ ليسمعوا منه حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم. كان ذات يوم يجلس في حلقته يعلم الناس، فتأتي إليه أمه يوماً وهو في الدرس أمام المئات من طلابه، فتقول له: قم يا حيوة فألقِ الشعير للدجاج، فيقوم من بين طلابه، ويترك التعليم، فيعلف الدجاج، ويعود لمتابعة درسه، وكأن شيئاً لم يحدث. تصوّراوا أيّها القراء الكرام: لو أن واحداً منا طلبت منه أمه اليوم أن يأتي لها بحاجة اضطرارية، كدواء أو طعام مثلاً، أو شيء هي بأمسّ الحاجة إليه، فماذا يقول لها؟ ربما يقول: انتري حتى يذهب الضيوف من عندي، أو: انتظري حتى أتابع هذا الخبر في (التلفزيون)، أو: انتري حتى أنتهي من متابعة المسلسل أولاً..... حيوة بن شريح كان يترك درس العلم ليعلف الدجاج لأمه، وذلك بِراً بها، وطاعة لها.
4- محمد بن المنكدر:
وهذا أيضاً محمد بن المنكدر رحمه الله تعالى، كان أحد كبار التابعين. يقول:"بات أخي عمر ليله يصلي، وبتُّ أغمز رجل أمي[3]، وما أُحبُّ أنَّ ليلتي بليلته". فهو لا يرغب أن يعطيه هذه الليلية فيقوم يصلي مكانه لأنه يرى أنه يقضي ليلته في عبادة وطاعة، فبِرّ أمه وطاعتها يقربه إلى الله تعالى.
5- ابن عساكر:
أما الإمام ابن عساكر؛ محدِّث الشام الكبير، وصاحب تاريخ مدينة دمشق المؤلَّف من مئة وعشرين مجلداً، وهو أحد كبار علماء التاريخ. كان قد أرسل يوماً إلى هذه بلاد أصبهان يخبر أهلها أنه سيأتي إليهم في زيارة علمية. وعندما سُئِل عن سبب تأخُّر حضوره إلى بلاد أصبهان قال:"لم تأذن لي أمي". هذا حال محدث الشام المؤرخ العظيم.
هكذا أيها الإخوة كان شأن السلف الصالح رضي الله تعالى عنهم. فماذا نفعل اليوم أيها الإخوة من تقديم البر لأمهاتنا؟ أين هو واقع البِرِّ اليوم بأمهاتنا اللواتي تعبن في تربيتنا، وتعليمنا، وتثقيفنا، حتى صار لنا شأنٌ في المجتمع؟ هل نبَر بأمهاتنا كما كان السلف الصالح يبَرون بأمهاتهم؟ نعم أيها الإخوة.. هذه هي الأم، وهذه هي مكانتها عند السلف الصالح، فما بال شبابنا اليوم يقصّرون في بر آبائهم وأمهاتهم؟! ما بال كثير منا لا يبالي ببر والديه، ولا يبالي برحمة أمه بشكل خاص؟! فالأم تعاني آلام الوضع بعد الولادة، حتى كأن حالها يقول: يا ليتني متُّ قبل هذا، وكنت نسياً منسياً. والأم حينما تفكر بمولود جديد، فإن أكثر ما تعاني منه من الحالة النفسية، هو حالة الولادة. تتذكر آلام الوضع وشدته، وتتذكر ما تقاسي وتعاني، فتتألم كثيراً قبل أن تضع مولودها، فكيف بها حين تضعه؟! وليتذكر كل منا أيها الإخوة أنه كان في بطن أمه، وأنها عانت كثيراً من حملها وولادتها، إلى أن أصبحنا شباباً، وكباراً، ورجالاً، فلا يجوز أن نكافئ أمهاتنا في هذا السن بشيء من التقصير، أو بشيء من تضييع الحقوق.
§ وراء كل رجل عظيم أمّ عظيمة:
أيها الإخوة القراء: الأم هي المربية، وهي المعلمة، وهي السبب في نجاح أبنائها. وهناك مقولة تتردد على ألسنة كثير من الناس وهي: وراء كل رجل عظيم امرأة. هذه المقولة تنصرف عادة إلى أن المرأة هي الزوجة، وينسون دور الأم الحاضنة، والمربية، والمدرّسة، والمعلّمة، والمهذّبة للأخلاق، فمهما بلغ الإنسان من العلم والرأي والثقافة، فإنه لا يستغني عن رأي أمه، ولا عن مشورتها، ونصيحتها، ودعائها، وبرّها.
§ أمثلة عن أمهات عظيمات:
أيها القراء الأعزاء: لقد كان لأمهات علمائنا من السلف الصالح - رضي الله عنهم - المكانة الكبيرة، سواء من الصحابة، أو من التابعين، حتى كُنَّ سبب علو شأنهم وقربهم من الله تعالى. وإليكم هذه الأمثلة:
1- أم سُليم (والدة سيدنا أنس بن مالك):
سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه، الصحابي المقرب من سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، خادمه، وحِبُّه، والشخص الذي كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يرى فيه الخير، ويرى فيه كثيراً من الأمور التي يحبها.... مَنِ الذي جعل أنس بن مالك يحظى بهذه المكانة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ إنها أمه أم سليم رضي الله عنها، فعندما آمنت بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم، جاء أبو أنس وكان غائباً فقال لها: أصبوتِ؟ قالت: ما صبوت، بل آمنت بهذا الرجل، وجعلت تلقِّن أنس بن مالك الطفل الصغير شهادة التوحيد فتقول له: قل أشهد ألا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله، فقالها، فكان أبوه يقول لها: لا تفسدي عليَّ ابني، فتقول له: والله لا أفسده، فلما كبر أنس، وأصبح غلاماً يستطيع أن يقوم بالخدمة، جاءت به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقالت: يا رسول الله: هذا أنس غلامك، يخدمك، فقبَّله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودعا له بالخير والبركة، فكان أنس بن مالك خادم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحِبَّه وصاحبه، ومن أكثر من روى الحديث عنه.
2- والدة سيدنا حُذيفة بن اليَمان:
وهذا أيضاً حذيفة بن اليمان رضي الله عنه كان غلاماً صغيراً وكانت أمه تسأله: ما عهدك بالنبي؟ أي منذ متى لم تره؟ فقال لها: منذ ثلاثة أيام، فوبخته، ونالت منه، وقالت له: يا بُنيَّ: كيف تصبر عن رؤية نبيك ثلاثة أيام؟!! فقد عدّت غياب ابنها عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خسارة وضياعاً... هكذا كانت الأم، تعلق أبناءها برسول الله صلى عليه وسلم، وتحببهم به.
3- والدة سفيان الثوري:
وهذا سفيان الثوري أمير المؤمنين في الحديث، لما مات أبوه ترك طلب العلم، وأراد أن يعمل ليعيل أمه وإخوته، فقالت أمه: عد إلى طلب العلم، وارجع إلى حلقة شيخك، أكفِكَ بمغزلي. أجل.. كانت تحث ابنها على طلب العلم، وكانت تقول له أيضاً: إذا كتبت عشرة أحاديث، فانظر.. هل تجد في نفسك زيادة، فإذا وجدت في نفسك ذلك، فأتبعها بعشرة، وهكذا حتى أصبح سفيان الثوري أمير المؤمنين بالحديث... كان أكثرهم رواية، وحفظاً، ودراية بالحديث، وكانت أمه تعمل بالمغزل لتعينه على طلب العلم. إذاً.. هكذا كانت الأم تربي أبناءها، وهكذا كانت تجعل من أبنائها علماء، ومفكرين، ومدبّرين، وقادة، وفاتحين.
4- الخنساء:
الأم - أيها الإخوة القراء - لها دور عظيم في تاريخنا الإسلامي المجيد، ويكفينا مثلاً الخنساء، تلك الشاعرة المخضرمة وكانت تعرف في الجاهلية بالبكاءة لكثرة ما كانت تبكي أخاها صخراً الذي قتل في إحدى المعارك، وهي صاحبة القصيدة المشهورة التي تقول فيها:
أعينيَّ جـودا ولا تجمُـدا        ألا تبكيان لصخر الندى؟!
ألا تبكيان الجريء الجميل        ألا تبكيان الفتى السيدا؟!
هذه الأم العظيمة حينما لامس الإيمان قلبها عرفت دورها في التضحية والجهاد، وفي إعلاء مكانة البيت المسلم، ورِفعة مقامه عند الله سبحانه وتعالى. حينما حضرت معركةُ القادسية، جهزت أبناءها الأربعة للجهاد في سبيل الله تعالى، وقبل بدء القتال جمعتهم وقالت لهم:"يا بَنيَّ أَنْتُمْ أَسْلَمْتُمْ طَائِعِيْنَ، وَهَاجَرْتُمْ مُخْتَارِيْنَ، وَقَدْ تَعْلَمُونَ مَا أَعَدَّ اللهُ لِلْمُسْلِمِيْنَ مِنَ الثَّوَابِ العَظِيْمِ فِي حَرْبِ الكَافِرِيْنَ، وَاعْلَمُوا أَنَّ الدَّارَ البَاقِيَةَ خَيْرٌ مِنَ الدَّارِ الفَانِيَةِ؛ يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ:[]يَا أَيُّهَا الذِيْنَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ[]سورة آل عمران (200). فَإِذَا أَصْبَحْتُمْ غَدَاً فَاغْدُوا إلَى قِتَالِ عَدُوِّكُمْ مُسْتَبْصِرِيْنَ، وَبِاللهِ عَلَى أَعْدَائِهِ مُسْتَنْصِرِيْنَ، فَإِذَا رَأَيْتُمُ الحَرْبَ قَدْ شَمَّرَتْ عَنْ سَاقِهَا، وَاضْطَرَمَتْ لَظَى مَسَاقِهَا، فَتَيَمَّمُوا وَطِيْسَهَا، وَجَالِدُوا رَئِيْسَهَا عِنْدَ احْتِدَامِ خَمِيْسِهَا تَظْفَرُوا بِالغُنْمِ وَالكَرَامَةِ فِي دَارِ الخُلْدِ وَالمَقَامَةِ".
بهذه الكلمات البليغة التي لا تصدر إلاَّ من قلب مؤمن، تسلّح أولاد الخنساء، وخرجوا متوجهين للقاء الفرس غير مبالين بما يبذلون. فما كان منهم إلا أن استشهدوا جميعاً. فلما بلغها خبرهم، ما زادت على أن قالت: "الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم جميعاً، وأرجو أن يجمعني الله بهم في مستقر رحمته".
إذا كان النساء كمثل هذا      لفُضِّلتِ النساء على الرجال
هذه هي النساء القدوة النساء الأسوة: أم سليم، أم سلمة، الخنساء، عائشة، خديجة، رضي الله عنهم أجمعين...
§ هذه هي الأم:
أيها القراء الأعزاء: الأم صاحبة القلب الكبير، القلب الحنون، لطيفة المعشر، تحتمل الجفوة وخشونة القول، تعفو وتصفح قبل أن يُطلَب منها العفو والصفح.... حملت جنينها في بطنها تسعة أشهر، يزيدها بنموه ضعفاً، ويحمّلها فوق ما تطيق عناءً، وهي ضعيفة الجسم، واهنة القوى، تحمل ولدها وهناً على وهن... تفرح بحركته، وتقلق بسكونه، ثم تأتي ساعة خروجه وولادته، فتعاني ما تعاني من مخاضها، حتى تكاد تيئس من حياتها، وكأن لسان حالها يقول: يا ليتني متُّ قبل هذا وكنت نسياً منسياً. ثم لا يكاد الجنين يخرج من بطنها، فإذا ما أبصرته بجانبها نسيت آلامها، وكأن شيئاً لم يكن، ثم تعلّق آمالها على ولدها، فترى فيه بهجة الحياة وسرورها، وهي تشعر بفرحٍ، بمعنى قول الله سبحانه وتعالى:[]الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا...[]سورة الكهف (46). ثم تنصرف إلى خدمته في ليلها ونهارها... تغذيه بصحتها، وتنميه بهزالها، تخاف عليه رقة النسيم، وطنين الذباب... تؤثره على نفسها بالغذاء والنوم والراحة... تقاسي في إرضاعه، وفطامه، وتربيته ما ينسيها آلام حملها ومخاضها وقد صدق الشاعر إذ قال:
 يا أمـي أنـت سقيتـني            لبـن التـوحيد مع الفطرة
وزرعت حنانك في قلبي              مـن أول رشـفي القـطرة
ونفحـتِ أريجك إيمـانا            كالـورد إذا أهـدى عطره
من مثلك يا أمــي قدْراً            أقـدامك تـاج للـغُـرة
من غيرك يـا أمـي يقـظ           في الليل إذا هـجم الكرب
مـن غيرك يا أمـي قلـق           مـن دائي إن عـجز الطب
لو صـح سجودي يا أمي             في حـبك ما امتنع القلب
يــــــا أمّــــــي
في حبـك أفنـيت حياتي            لكـني لسـت أكـافـيك
يا أمـي إن عجز لساني             عـن شـكرك ربـي يجزيك
لو كان البـر بأن تطئـي           خـديَّ فـيا حـظـي فيك
يــــــا أمّــــــي
في حقـك آيات تُـتـلى             مَـرَّ الأيام ((ووصـيـنـا))
لا يـقـدر أحـد إيفـاء            بحـقـوقك مهـمـا أديـنا
لكـن فـؤادك إحسـاناً             كـم يـرضى عنـا وعليـنا
يــــــا أمّــــــي
أيها الإخوة الكرام: قلب الأم قلب عظيم، قلب الأم قلب رحيم، وهو يحتاج إلى بر ومودة، لكن مهما قسا الولد على أمه يبقى قلب الأم يغفر ويعفو ويصفح وليس هذا فقط بل مهما لقيت الأم من ابنها من الإساءة والأذى فإنها لا يغمض لها جفن، ولا يهدأ لها بال إن أصاب ابنها أي مكروه وهذا ما يتبدى في أبياتٍ قالها الشاعر عن ابنٍ أغراه أحدهم بالمال مقابل أن يطعن أمه بسكين ليحصل على قلبها، ولكن قلب الأم بقي بعد فراق جسدها يخشى على الولد ويحبه. يقول الشاعر:
   أغرى امرؤ يوماً غلاماً جاهـلاً           بـنقـوده كيـما ينـالَ به الوطر
 قال ائتني بفـؤاد أمـك يا فتى            ولك الدراهـم والجواهر والـدرر
   فمضى وأغرز خنجراً في صدرها           والقـلب أخرجه وعاد على الأثـر
 لكـنه من فرط سرعـته هـوى          فتدحرج القـلب المعـفر إذ عثـر
 ناداه قلـب الأم وهو معـفـرٌ           ولدي حبيـبي هل أصابك من ضرر
   فكأن هذا الصوت رغم حنـوه           غضب السماء على الوليد قد انهمـر
   وصدى فظـيع خيانة لم يأتهـا            ولـد سـواه منـذ تاريـخ البشـر
 ويقول يا قلب انتقـم مـني ولا           تغـفر فإن جـريمتـي لا تُغتَـفـر
 واستلَّ خنـجره ليطـعن قلـبه          طـعناً فيـبقى عـبرة لمـن اعـتبر
 ناداه صوت الأم كُـفَّ يـداً ولا         تطـعن فؤادي مرتـين على الأثـر
اللهم بارك لنا في أمهاتنا، اللهم ارحم أمهاتنا أحياء وأمواتا، اللهم اجعلنا بأمهاتنا بررة وبآبائنا بررة، وأعنا على برهم والإحسان إليهم ما طالت بهم الحياة أو طالت بنا، حتى نلقاك وأنت راض عنا يا أرحم الراحمين... وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
 


[1]قالها ثلاثاً.
[2]اخفض لهما جناح الذلّ: تذلّلْ لهما، وتواضعْ بين يديهما.
[3]أغمز رجل أمي:أدلك رجلها.

 التعليقات: 0

 مرات القراءة: 19596

 تاريخ النشر: 21/03/2012

ملاحظة:
الآراء المنشورة لاتعبر بالضرورة عن رأي الموقع أو القائمين عليه، ولذا فالمجال متاح لمناقشة الأفكار الواردة فيها في جو من الاحترام والهدوء ونعتذر عن حذف أي تعليق يتضمن:
1- يحتوي على كلمات غير مهذبة، ولو كانت كلمة واحدة.
2- لايناقش فكرة المقال تحديداً.

 

 137

: - عدد زوار اليوم

7748100

: - عدد الزوار الكلي
[ 20 ] :

- المتصفحون الآن

 


العلامة الشيخ محمد حسن حبنكة الميداني


العربيــة.. وطرائق اكتسـابها..
المؤلف : الدكتور محمد حسان الطيان








 
   

أحسن إظهار 768×1024

 

2006 - 2015 © موقع رسالتي ، جميع الحقوق محفوظة

 

Design & hosting by Magellan