الكذب أخطر آفات اللسان
بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان
من أعظم ما ينبغي أن نحفظ ألسنتنا عنه الكذب، هذه الفاحشة الخطيرة والجريمة الكبيرة التي يرتكبها الإنسان بيسر وسهولة. ليس هناك أعظم من الكذب في حياة الإنسان المسلم، لهذا نجد الأحاديث التي نهتنا عن الكذب وأمرتنا بالصدق كثيرة ومنتشرة في كتب السنة والصحاح، من أبرزها حديث رواه الإمام مسلم عن سيدنا عبد الله بن مسعود رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق؛ فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يُكتبَ عند الله صدّيقا، وإياكم الكذب؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتبَ عند الله كذّابا". صحيح مسلم.
أ- ما هو الكذب؟
الكذب هو الإخبار عن الشيء على خلاف ما هو عليه، فلو أنك قلت لولدك: تعالَ أُعطِك هذا الشيء، ثم لم تعطِه إياه سُجِّلتْ عليك كذبة.
ب- صفات الكذاب:
ورد عن الكذاب أنه جبان، له وجهان، لا يجرؤ على الصدق، لذلك صُنِّف في عِداد المنافقين؛ لأن المنافق يُظهِر خلاف ما يُبطِن. ولا تزول صفة النفاق عن الكذاب أبداً إلا إذا صدق في كلامه وعُرفَ بالصدق. فعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله تعالى عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أربعٌ من كنّ فيه كان منافقاً خالصاً، ومن كانت فيه خَلَّةٌ منهنّ كانت فيه خلة من نفاق حتى يدعها؛ إذا حدّث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر". صحيح مسلم. هذه الصفات لا تليق بالمسلم أبداً، وتخرج عن نطاق الأدب الإسلامي العظيم الذي ينبغي أن يتحلى به كل عباد الله المؤمنين. فالكذب ذنب كبير، من تخلّق به كان مُجانِباً للإيمان، بعيداً عن أخلاق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم التي عُرِفوا بها وانتشرت عنهم.
جـ- المؤمن لا يكذب:
سُئِل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أيكون المؤمن جباناً يا رسول الله؟ قال: "نعم". قالوا: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: "نعم". قالوا: أيكون المؤمن كذاباً؟ قال: "لا". موطَّأ الإمام مالك.
ورد في الحديث الشريف: "إذا كذب العبد تباعد عنه المَلَك مِيلاً من نَتَنِ ما جاء به". سنن الترمذي. نحن لا نرى الملائكة، فهي أرواح لطيفة، والإنسان أجسام كثيفة، ولو كنا نرى الملك لرأينا كيف يبتعد عن الإنسان حينما يكذب.
ء- أنواع من الكذب:
1- الكذبة البيضاء والكذبة السوداء:
من أخطر ما يأتي على الألسنة ما يسمى بين الناس بكذبة نيسان، فترى إنساناً يُطلق كلاماً فيه مفاجأة أو شيء خطير، أو ربما يكون أمراً جيداً، ثم تُفاجأ بعد قليل بقوله: هذه كذبة نيسان.
بعض الناس يهوّنون الكذب ويجعلونه قسمين؛ قسماً يسمونه الكذبة البيضاء، والقسم الآخر الكذبة السوداء، فيبيحون الكذب في أول شهر نيسان على أنه كذبة بيضاء يتقبّلها الناس قَبولاً حسناً. هذا الكلام من أخطر الكلام الذي انتشر فيما بين الناس، وعلينا أن نواجهه بأدب الإسلام، وأن نذكّر من يفعل ذلك أنه قد ارتكب إثماً كبيراً.
جاء في الحديث عن بهز بن حكيم رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ويل للذي يحدّث بالحديث ليضحك به القوم فيكذب، ويل له، ويل له". سنن الترمذي.
2- كذب الآباء والأمهات على أولادهم:
بعض الآباء يكذب على ولده بقصد أن يتحبّب إليه، لكنه لا ينجز ما يعدهم به، كذلك الأم تفعل هذا مع أولادها من باب الترغيب وربما من باب الترهيب. الكذب كله مذموم سواء كان كذب الأب على ولده أو كذب الولد على أبيه، ولا يجوز بحال من الأحوال أن يكذب الآباء والأمهات على أولادهم وأن يعِدوهم وعوداً كاذبة. فالطفل أكثر ما يتعلم من والديه الأخلاق السلوكية والتعاملية، فإذا وجد أبويه يكذبان فإنه ينشأ محبّاً للكذب، بعيداً عن الصدق بعداً كبيراً؛ لأنه تربى على هذا الخلق، ووجده في بيت أبيه وأمه ظاهرةً كثيرةَ الحدوث.
حينما سمع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة تعد ولدها وعداً بيّن لها أنها لو لم تعطِه ما وعدته لسُجِّلتْ عليها كذبة، ولأثمتْ بها أمام الله سبحانه وتعالى يوم القيامة. يقول الصحابي الجليل عبد الله بن عامر: دعتني أمي يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدٌ في بيتنا. فقالت: تعال أعطك، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما أردتِ أن تعطيه؟". قالت: أعطيه تمراً. فقال لها عليه الصلاة والسلام: "أما أنكِ لو لم تعطِه شيئاً كُتِبَتْ عليكِ كذبة". سنن أبي داود.
يقول الشاعر:
ويَنشـأُ ناشـئُ الفِتيانِ منَّـا على ما كـان عـَوَّدَهُ أبـوهُ
فإن عوّده الصدق نشأ صادقاً، وإن عوّده الكذب فإنه يصبح حرفة له في حياته، ومهنة يقتات منها ويكسب منها رزقه.
3- كذب النساء في مجالسهن:
كثير من النساء إذا جلسن إلى بعضهن تساهلن في الأحاديث وكذبن فيها، وادّعينَ ما ليس لهن، فتأتي كل واحدة بفكرة أو موقف ربما يكون بعيداً عن واقعها، فتدّعيه لنفسها، كل ذلك كذبٌ في كذب، فعلى النساء أن يتنبّهن إلى هذا الأمر حينما يجتمعن في مجالسهن، فإذا خرجت النساء في المجالس التي يجتمعن فيها عن ذكر الله تعالى، وعن النصيحة والكلام الصادق الحسن، فإنهن يأثمن إثماً كبيراً، ويُحاسَبْنَ أمام الله سبحانه وتعالى على كل كلمة يَقُلْنَها وليس فيها صدق أو دعوة إلى الخير.
بعض النساء تكذب على صديقاتها، فتدّعي أمامهن أن زوجها يسافر إلى مختلف البلاد في الأرض، ويشتري لها الكثير من الأشياء الثمينة من ذهب، ولؤلؤ، وألماس وغير ذلك من الأشياء التي تتمنى أن تملكها وتحب أن تفتخر بها، فإذا دخلْتَ إلى واقعها لا تجد شيئاً من هذا الكلام أبداً. هذا كله حرام بحرام، فلا يحل للمرأة أن تلوّث لسانها بهذا الكذب وأن تكون في سجل الكاذبات، فتلقى وجه ربها وقد كذبت بكلام كثير.
جاء في الحديث عن السيدتين أسماء وعائشة رضي الله تعالى عنهما أن امرأة جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: إن لي ضرة، فهل علي جُناح أن أتشبّع من مال زوجي بما لم يعطِني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المتشبّع بما لم يُعطَ كَلابسِ ثَوبَيْ زور". صحيح مسلم. كأنه لم يلبس شيئاً أصلاً، فلا يزال عارياً بعيداً عن الستر والحشمة، فالناس يرون عليه الثوب يظنونه له وهو ليس له في الواقع، لكنه متشبّع بما ليس له.
حفظ اللسان عن الأَيمان:
الأيمان ظاهرة يقع فيها كثير من الناس سواء قصد أو لم يقصد، فترى أحدهم دائماً يحلف بالله العظيم، أو ربما يحلف بالطلاق فيطلق الإنسان زوجته لسبب تافه، كأن يكون مع أصدقائه يلعب ورق الشدة، فإذا بأحدهم يطلق زوجته التي تمكث في البيت تربي أولاده، وتعلمهم الأدب، وتدرّسهم، وتجعلهم في أتمّ النظافة وأحسن الهيئة، فيطلقها ثلاثاً لخلاف صغير مع صديقه، هذا كله من زلات اللسان.
وأخطر شيء في زلات اللسان الحلف بالله سبحانه وتعالى كذباً، كأن يحلف الإنسان على شيء يظن صدقَه فيه فيظهر خلاف ما يقول، كأن يقول لك ابنك: أعطني مبلغ كذا، فتجيبه: والله ما معي، وأنت معتقد وصادق أنه لا يوجد لديك المبلغ المطلوب، ثم تمد يدك إلى جيبك فتجد هذا المبلغ وأضعافه. هذا اليمين لا يؤاخذ به الإنسان؛ لأن الكذب فيه غير مقصود. يقول الله تعالى:[]لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ...[] سورة المائدة (89). فهذا اليمين يسمى يمين لغو. أما إن قلت له: والله ما معي وأنت تعلم علم اليقين أن في جيبك مالاً، فإنك تكون قد وقعت بالإثم الظاهر؛ لأن اليمين هنا تسمى اليمين المنعقدة التي يكذب فيها الإنسان على الله سبحانه وتعالى. فلْنحذرْ من الأيمان التي نكذب فيها زوراً وبهتاناً، والأيمان التي نحلف فيها على قضايا بين الناس، وربما لا أصل لها.
روي أن جُبير بن مطعم رحمه الله تعالى ورضي عنه افتدى يمينه بعشرة آلاف ثم قال: "وربِّ الكعبة، لو حلفت حلفت صادقاً، وإنما هو شيء افتديت به يميني". هو من أهل الصدق، ولو حلف حلف على الصدق، لكنه افتدى يمينه مقابل ألا يقسم بالله سبحانه وتعالى.
ويروى أن الأشعث بن قيس رضي الله تعالى عنه قال: "اشتريت يميني مرة بسبعين ألفاً". المسألة لا تتعلق بإشكالية اليمين بقدر إقحامنا اسمَ الله الأعظم في قضية سخيفة لا قيمة لها؛ كأن نُدعى للحلف على مبلغ زهيد من المال، ففي هذه الحالة ينبغي أن نتكلف هذا المبلغ وندفعه ولا نقحم اسم الله سبحانه وتعالى في هذه الأمور التي لا تليق.
فلْنحذرْ من أن تَزِلَّ ألسنتنا بأيمان كاذبة، أو بيمين طلاق، أو يمين زور أو شهادة زور مما نأثم به ويحاسبنا عليه الله سبحانه وتعالى، ومما يكون سبباً في إلقائنا على وجوهنا في النار والعياذ بالله تعالى.
التعليقات:
0 |
|
|
مرات
القراءة:
18866 |
|
|
تاريخ
النشر: 01/02/2014 |
|
|
|
|
|
|