لماذا لم يفسر النبي صلى الله عليه وسلم الآيات الكونية في القرآن (2)
بقلم : د. مرهف عبد الجبار سقا
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:
خلصنا في القسم الأول إلى أن طرح هذا السؤال فيه مجازفة وتقول على الله ورسوله، وعرضنا لأهم ما يتمسك به من يطرح هذا السؤال ثم بينا محل أدلتهم.
ونستكمل في هذا القسم الحديث للإجابة عن هذا السؤال بما يبين الحكمة المستفادة من ترك النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات دون تفسير.
في البداية أورد أثراً أخرجه أبو يعلى عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان لا يفسر من القرآن برأيه إلا آياً بعدد، علمه إياهن جبريل.
يقول ابن عطية: (معناه في مغيبات القرآن وتفسير مجمله مما لا سبيل إليه إلا بتوفيق من الله تعالى).
وأخرج ابن أبي حاتم في تفسير قوله تعالى: ((وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ)) [النحل:89]، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ( إن الله أنزل في هذا الكتاب تبياناً لكل شيء ولقد علمنا بعضاً مما بُيِّن لنا في القرآن ثم تلا: ((وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ)) [النحل:89] قال: بالسنة)، وقوله بالسنة يعني بما رأوه من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم وما سمعوه من أحاديث عنه تدخل في بيان معاني القرآن الكريم والله أعلم.
فهذان نصان عمن عاين التنزيل وصاحب النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، يذكران فيه أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يفسر القرآن كله وإنما باشر صلى الله عليه وسلم تفسير بعضه وخاصة ما يحتاج إلى بيان بتوقيف من الله تعالى، وفسر بعضه الآخر بسنته وترك آيات لم يفسرها صلى الله عليه وسلم.
ونحن لو نظرنا في الآيات الكونية في القرآن الكريم لوجدنا أن تفسير بعضها موجود في السنة بنحو مباشر أي أن الحديث جاء ليفسر الآية مباشرة، وبعضها يدخل الحديث في تفسير الآية، وخاصة فيما يتعلق بخلق الإنسان وخلق الكون.
ولن أدخل في التفصيل في هذه القضية لأن شرحها يحتاج لبسط طويل وليس إلى مقال، ولكن سأركز على بيان الحكمة من ترك الآيات الكونية دون تفسير.
¶ مقاصد الآيات الكونية:
إن الناظر في مقاصد القرآن الكريم من ذكر الظواهر الكونية والدلالة عليها ستذهب عنه الحيرة من هذا السؤال: لماذا لم يفسر النبي صلى الله عليه وسلم الآيات الكونية في القرآن؛ لأنه سيعلم حينها أن هذه الآيات لها ارتباط بأصول الدين وبراهين العقيدة، لتظهر التكامل المعرفي في الإسلام بين الحقائق الكونية والمعرفة العقدية، يقول الرازي رحمه الله (ت606هـ): (والمقصود من كل القرآن تقرير أمور أربعة: الإلهيات، والمعاد، والنبوات، وإثبات القضاء والقدر للّه تعالى).
ويقول الشيخ بديع الزمان سعيد النورسي رحمه الله (ت1906م): (إن المقاصد الأساسية من القرآن وعناصره الأصلية أربعة: التوحيد والنبوة والحشر والعدالة..) ثم يقول أيضاً: (فكما تتراءى هذه المقاصد الأربعة في كله، كذلك قد تتجلى في سورة سورة..).
ولكن أهم مقصد تحققه الآيات الكونية في القرآن الكريم هو ما يتعلق بالإلهيات من إثبات الوحدانية لله تعالى، والدلالة على قدرته وإرادته وعلمه، وكلما ازداد الإنسان معرفة بالخلق ازداد تعظيماً ومعرفة بالخالق سبحانه، وباعتبار هذا المعنى فإننا نوجز بيان الحكمة في ترك هذه الآيات دون تفسير بالآتي:
G ترك الباب مفتوحاً أمام الناس للبحث في معانيها ومضامينها وإشغال أدوات البحث في ذلك عقلاً ومادة، أي: إن بقاء الآيات الكونية في القرآن الكريم دون تفسيرٍ يقطعُ الخلافَ؛ تنشيط للحركة العلمية؛ وإعطاء العقل والفكر والبحث العلمي دوره في العمل والنشاط المعرفي، ولذلك جاء نظم القرآن لها مشوقاً ومحفزاً ومستفزاً وحاضاً ومستفهماً ولاحظ معي الآيات ((وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ * وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)) [المؤمنون: 79، 80]، وقوله تعالى: ((أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ)) [الغاشية: 17- 20] وغير ذلك من الآيات.
A إن النص القرآني تميز بالمرونة وسعة الدلالة، وإن اعتبار التفسير العلمي هو البيان الحقيقي لمراد الله وأن الرسول لم يبينه لكذا وكذا هو تحجير في الدلالة وتحكم في النص وتقول على الله ورسوله، بل الواجب التأكيد على أن التفسير والإعجاز العلمي هو أحد أوجه بيان القرآن الكريم.
B إن القرآن الكريم كتاب هداية، نهض بالأمة نحو الحضارة من خلال الحض على العلم بمعناه العام لا بمعنى العلم الشرعي فقط، وإن بقاء مثل هذه الآيات الكونية دون تفسير من النبي صلى الله عليه وسلم لها هو؛ إنما ترسيخ لمعنى العلم الذي يريده الإسلام ألا وهو العلم الذي يحتوي كل المعارف الحضارية النافعة، وبذلك تتنوع الاهتمامات والاختصاصات عند المسلمين وهذا ما فهمه المسلمون من قبل فحققوا نهضتهم الحضارية بينما اقتصرنا نحن على الاستفادة من غيرنا والركون إلى انتظار جديدهم.
r إذن فلا ينبغي أن يذهب عنا وجوب دراسة هذه الآيات في سياقها المقاصدي كإقامة الحجة على الملحدين والمشركين والمشككين، وإثبات وحدانية الله تعالى وتقرير صفاته كالقدرة والعلم والإرادة، والدلالة على البعث والنشور وربانية القرآن ونبوة سيدنا محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، بل يجب علينا أن نركز على هذا الجانب المهم في أبحاث التفسير والإعجاز العلمي، وأن يكون وجوده شرطاً من شروط هذه الأبحاث تحقيقاً لقوله تعالى: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ)) [القلم: 1]. والله أعلم.
التعليقات:
1 |
|
|
مرات
القراءة:
3469 |
|
|
تاريخ
النشر: 27/06/2010 |
|
|
|
|
|
|