حوار خاص مع الشيخ محمد خير الطرشان ( 2 )
بقلم : علاء الدين آل رشي
أشجب أي فتوى غير متبصرة
موقفي من الفنون هو موقف الفقه البصير بدور الفنون في نهوض الأمم.. والفن ضرب من ضروب الإحساس بالجمال
الفقه يهب الأمان النفسي للسائل والمستفسر ويقدم حزمة من الراحة والطمأنينة للحياة.. وهو قبل كل شيء تحري المسلم لمرضاة ربه
* الفقه عقل الشريعة ويدها في الحياة!!! كيف تنظرون إلى الفقه الإسلامي ودوره في الحياة؟نعم، هذا صحيح فالفقه هو عقل النص، والفقه بمعنى الفهم كما جاء في مختار الصحاح، وهو في (الاصطلاح) معرفة الأحكام الشرعية العملية المكتسبة من أدلتها التفصيلية وينبغي أن يكون الفقه مبنياً على استفراغ الوسع
* ماذا تقصدون باستفراغ الوسع؟
قبل أن أجيبك سأذكر لك دور الفقه في الحياة
نعم، للفقه دور كبير في الحياة فهو يهب الأمان النفسي للسائل، والمستفسر، ويقدم حزمة من الراحة والطمأنينة للحياة، وهو قبل كل شيء تحري المسلم لمرضاة ربه...
وعوداً إلى سؤالك السابق بتوضيح (استفراغ الوسع) ألا توافقني أن البحث العلمي الرصين يُشترط فيه التقصي الشامل، ومن هنا فنحن نعيب على بعض الآراء التي تحاول لبس (رداء الفقه) دون بذل للجهد واجتهاد موثوق وبناء على أسس منهج صحيح واضح المعالم.
* هل الفقه غير الشريعة؟
بين الفقه والشريعة عموم وخصوص؟! فالشريعة أعمّ من الفقه فليس كل ما ورد في الشريعة يعد من الفقه.
*هل تقصدون بذلك أن الشريعة فيها فقه وفيها ما ليس بالفقه
الشريعة يا أخي، تشتمل على ثلاثة أنواع من الأحكام
اعتقادية: كوجوب الإيمان بالله وسائر المعتقدات
وعملية: (أحكام العبادات والمعاملات
وقلبية كحرمة الحسد والرياء وهنا أؤكد ما قلته في الحوار السابق أن العبادات القلبية هي التي تستحضر معية ورقابة الله وهو وحدة الشهود التي قامت على ملاحظة الله سبحانه في كل حركة أو سكون.. الإسلام خضوع لله, ينقل الإيمان المستكن في القلب إلى عمل تصطبغ به الجوارح, ويترجم اليقين الخفي إلى طاعة بارزة في الحياة الخاصة والعامة.
*لننتقل إلى شق آخر.. نحن نرى أن الكثير من الآراء الفقهية تأخذ قداسة تقارب قدسية النص القرآني والبيان النبوي أليست هذه معضلة كبيرة تخلق التعصب؟
تبدأ حكاية التعصب من البنية العقلية وليس من المادة العلمية فقط فبعض العقول تبنى على ساس الصحة المطلقة وتقرأ أيّ فكرة على أساس أنها حق مطلق وليس رأياً ورحم الله الإمام محمد الغزالي(1917-1993) عندما بيّن أن هناك صنفين من الناس:
صنف تلمس في قلبه عاطفة حارة, ورغبة في الله عميقة, وحبّاً لرسوله بادياً, ومع ذلك تجده ضعيف البصر بأحكام الكتاب والسنّة, يعلم منها قليلاً ويجهل منها كثيراً, ويغريه بالتعصُّب للقليل الذي يعلمه إنه يأنس من نفسه صدق الوجهة, وقوة محبة لله ورسوله ربما افتقدها في غيره فلم يشعر بها.
وصنف تلمس في عقله ذكاء, وفي علمه سعة, وفي قوله بلاغة, يعرف الصواب في أغلب الأحكام الشرعية, ويؤدي العبادات المطلوبة منه أداءً لا بأس به, ولكنه بارد الأنفاس, بادي الجفوة, غليظ القلب, يكاد يتمنى العثار لغيره, كي يندّد بأغلاطه, ويستعلي هو بما أوتى من إدراك للحق, وبصر بمواضعه من كتاب وسنّة.
عرفت الصنفين معاً في تجاربي مع الناس. فكان يغيظني من أصحاب العاطفة, ما يغلب عليهم من جهل, وما يشين غيرتهم من عكوف على الخرافات, وعجز عن استيعاب الأحكام التي استعلنت في دين الله أدلتها, واكتفاؤهم بحب سلبي طائش.
وكان يغيظني من الآخرين استكبارهم بما هدوا إليه من صواب في بعض الأحكام العقيدية والفقهية, واستهانتهم بآفات القلوب, وفراغهم من حرارة الإقبال على الله, والحنو على عباده.
*دعني أكن معك واضحاً.. بعض الدارسين للفقه ينسون أن الفقه أحكام يُتوصل إليها بالاجتهاد والنظر، وغالب مسائل الفقه جرى فيها الخلاف، فكيف تكون الأحكام المختلفة في المسألة الواحدة هي حكم الله أليس هذا نوعاً من التناقض؟
هذا سؤال مهم لكن حكم الفقه إما أن يكون مستنداً إلى دليل قطعي الثبوت قطعي الدلالة وهنا لا مجال للاجتهاد (كوجوب الصلاة والزكاة.. إلخ) وإما أن يكون ظنياً في ثبوته أو دلالته أو فيهما معاً؛ وفي هذه الحالة يكون دور المجتهد التحقق من ثبوت النص أولاً، ومعرفة دلالته على الحكم ثانياً، أما المسائل التي ليس فيها نص ولا إجماع فالمجتهد يسعى إلى معرفة الحكم الشرعي بالنظر في الأدلة الكلية الأخرى (كالقياس والاستحسان والاستصلاح والعرف وشرع من قبلنا و..)
علينا أن نتعامل مع النتاج الفقهي من هذه الزوايا وبهذه التفرقة نعرف الموقف الصحيح في التعامل مع الفقه والناتج الفقهي.
*لكنْ فضيلة الشيخ لماذا تحنطت الدراسات الفقهية في زاوية الاستنساخ الدقيق وليس الاستنتاج العميق، لماذا كل هذا الركون إلى الجهود السابقة؟.الإمام الشاطبي يؤكد أن الشرائع إنما هي لمصالح العباد في العاجل والآجل معاً ومازالت الآراء الفقهية في الأعم والغالب تراعي مصالح غير مصالح عصرنا
أنا أوافق على ضرورة الاجتهاد في المستجدات ومواءمة الفقه للحياة دون تعسف أو عنت وكذلك أدعو إلى التجديد الذي يقوم على مكْنة ووعي بآليات الاجتهاد وكذلك أحث على فقه يقوم على اليسر ورفع المشقات على الناس إنني شديد الحرص على تقديم فقه يخدم الناس ويكون أصيلاً واقعياً وهذا ما يعرفه المتابعون لبرنامج نور على نور وكذلك خطبي وفتاواي على الموقع
أما استمرار الاستنساخ لجهود السابقين فهو أن غالب الدارسين ليسوا على درجة من الاختصاص العلمي الذي يؤهلهم للاستنتاج العميق ويعود ذلك إلى عوامل متشابكة ومتضافرة
يرى الإمام الشيخ عبد الرحمن الكواكبي أن وعاظنا مقتصرون على البحث في النوافل والقربات المزيدة في الدين، ورواية الحكايات والإسرائيليات، ومثلهم المرشدون أهل الطرائق، مقتصرون على حكايات نوادر الزهاد، من صحيح وموضوع، ورواية كرامات الأنجباء والنقباء والإبدال، وعلى ضبط وزن التمايل وأصول الإنشاد، ولا ننسى خطباءنا واقتصارهم على تكرار عبارات في النعت، والدعاء للغزاة والمجاهدين، وتعداد فضائل العبادات
والحاصل أن تقصيرات العلماء الأقدمين، واقتصارات المتأخرين، وتباعد المسلمين إلى الآن عن العلوم النافعة الحيوية، جعلتهم أحط بكثير عن الأمم
*أليس هذا دليل على تقصير الخطاب الديني؟
رحم الله الكواكبي، وهنا أريد أن أثني على ما يقوله الكواكبي وأؤكد على أن رجال الفكر والإصلاح والفقه كانوا معنيين بنهوض مجتمعاتهم وما هذه الصرخة التي أطلقها الكواكبي إلا دلالة على ضرورة النهوض وأنا أقول كل علم يقوم على الارتقاء بالإنسان فكراً وروحاً وعلى إعمار الحياة فهو فريضة يحرم تركها
الاتجاهات الفكرية والمذاهب الفقهية في التاريخ الإسلامي. كانت ترى الاستفادة من كشوف الفلسفة الإنسانية في علوم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد والتاريخ ومزج هذا كله بالفقه الصحيح للكتاب والسنة.
إن الرؤية الصحيحة لأحكام الشريعة أو الحكم الصائب الذي ينبغي تقريره لا يتم إلا على رحابة الأفق ووجود خلفية عظيمة من المعرفة القديمة والحديثة على السواء, وربما كان أسلافنا القدامى قد رزقوا من سلامة الفطرة وحدة الذكاء ما يجعلهم قادرين على حسن الفهم والحكم, لكننا في هذا العصر لا نصل إلى مستواهم إلا بعد دراسات مضاعفة, كما يستعين صاحب النظر القصير بالمناظير المقربة حتى يعرف ما يقرأ أو حتى يدرك من بعيد مالا يستطيع رؤيته بالعين المجردة
وكذلك على الخطاب الديني أن يرتقي إلى لغة العصر وقضايا الناس وتقديم المشورات التي تدافع عن الخير والحب والجمال
* التربية الدينية في غالب صورها تقوم على الجانب التحذيري التخويفي وليس الجمالي؟
كلامك هذا خاطئ، التربية الدينية تقوم على التوازن بين الجمال والكمال بين الحب والخشية والرهبة وكل شيء بمقدار وويل للمطففين فذلك الخسران والخسار أن التطبيق الأمثل للتربية الدينية يكون في مزج بين جوانب الشخصية الإنسانية وتطلعاتها.
*طيب.. لماذا يحرّم فقهياً الفن والنحت وسائر الفنون المعاصرة؟
لا أعرف من أين تأتي بهذا الكلام؟
*من الفتاوى التي تحرم الموسيقا وفنون المسرح والسينما و
أنا أشجب أي فتوى غير متبصرة وموقفي من الفنون هو موقف الفقه البصير بدور الفنون في نهوض الأمم والفن ضرب من ضروب الإحساس بالجمال وصناعته واكتشافه والجمال عنصر أصيل في الكون والقرآن لفت إلى الجمال (إنا زينا السماء بزينة الكواكب) لكن الفن الجميل في الإسلام هو جملة من القيم الأخلاقية التي تعمق الخير في الوجدان وبناء النفس
والفن كما يؤكد أهل الفقه خيره مباح وشره محرّم. ثم فنون الزخرفة وبصمتها في الحضارة الإسلامية لا يشكك أحد فيه وكنت في زيارة للهند ولاحظت هناك تميز الفنون الإسلامية وهويتها ومغايرة منطلقاتها لما هو شائع
* هل تؤمن بضرورة التمذهب الفقهي أم الانفتاح على المذاهب كلها؟
في سؤالك تناقض فالتمذهب الأصيل هو المذهبية المنفتحة وليست المنغلقة. وأنا أؤيد المذهبية المتحررة من قيود التعصب وأرفض اللامذهبية لأنها بوابة للفوضى.
* ما رأيكم بالفتاوى الفضائية؟
من أي ناحية؟
*من جدواها
بصراحة هناك ما يرضي العقلاء من الفتاوى وهناك ما لا يرضي وأنا على كل حال أؤيد التخصص في الفتاوى الدينية بحيث نوجِد خبراء في فقه التربية الأسرية وخبراء في الفقه الاقتصادي وخبراء في المستجدات والنوازل المعاصرة وخبراء في سائر النواحي الحياتية ومطالب الإنسان، كي نحترم شرعنا وعقول الناس
* هل من كلمة أخيرة؟
اسأل الله لبلدنا الخير والنماء وللمجتمع الاستقرار والنهوض وكل المحبة للأزمنة المجلة الوطنية بامتياز
أجرى الحوار: علاء الدين آل رشي
التعليقات:
2 |
|
|
مرات
القراءة:
11528 |
|
|
تاريخ
النشر: 18/07/2011 |
|
|
|
|
|
|