wwww.risalaty.net


الهجـــرة المباركـــة


بقلم : الشيخ محمد خير الطرشان

 

خطبة الجمعة
في جامع العثمان بدمشق
 
الحمد لله ثم الحمد لله، الحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنَّا لنهتديَ لولا أن هدانا الله، يا ربَّنا لك الحمدُ كما ينبغي لجلالِ وجهكَ وعظيمِ سلطانك، سُبحانَكَ لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نفسك.. وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، لهُ الملك ولهُ الحمد يُحيي ويميتُ وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهدُ أن سيِّدنا ونبيِّنا وحبيبنا مُحمَّداً عبدُه ورسولُه وصفيُّه وخليلُه.. اللهُمًّ صلِّ وسلِّم وبَارك على هذا النبيِّ الكريم، صلاةً تنحَلُّ بها العُقَدُ، وتَنْفَرجُ بها الكُرَبُ، وتُقْضى بها الحوائجُ، وتُنَال بها الرغَائبُ وحُسنُ الخَواتيم، ويُستسقَى الغَمَامُ بوجْهِهِ الكريم، وعَلى آلهِ وصحبهِ وسلِّم تسليماً كثيراً..
أما بَعْدُ فيا عباد الله: أُوصي نفسي وإيَّاكم بتقْوَى الله تعالى.. وأحُثُّكم على طاعَتِهِ والتَمَسُّكِ بكتابهِ، والعمل بما ورد عنه صلَّى الله عليهِ وسلَّم من قوله: "تركت فيكم شيئين ، لن تضلوا بعدهما : كتاب الله ، و سنتي ، و لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض" [صحيح الجامع].
يقول الله تبارك وتعالى في القرآن الكريم:إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
أيها الإخوة المؤمنون: نحن في آخر أيام العام الهجري، ونستقبل عاماً هجرياً جديداً. والأعوام الهجرية تتالى كما هي الأعوام الميلادية ، إلا أننا نحن المسلمين نرتبط بحدث الهجرة وذكرى الهجرة وتاريخ الهجرة ؛ لأنها انتقال من مرحلة إلى مرحلة، فالهجرة النبوية لم تكن مجرد انتقال من مكان إلى مكان كما يفيد المعنى اللغوي في معنى كلمة هاجر. هاجَرَ: أي انتقل من مكان إلى مكان. أما هجرة النبي صلى الله عليه وسلم فكانت تعني انتقال الرسالة وانتقال البعثة وانتقال نور النبوّة وانتقال النشاط الدعوي من مكة المكرمة - حيث حوصِر عليه الصلاة والسلام وعُذِّب وأوذِي ومُنِع مِن نشر الرسالة الربّانية - إلى المدينة المنوّرة حيث الفضاء الواسع، حيث المكان الرحب الذي كان يستعد لاستقبال النبي عليه الصلاة والسلام. فحينما ننظر إلى مكة المكرمة نرى أن أهلها أخرجوه منها مطروداً وأن أهلها حاصروه اقتصادياً وأن أهلها حاولوا إيذاءه وخنقه وقتله ، وتآمرت عليه القبائل كلها، نجد في نظرة أخرى للمدينة المنورة أن أهل المدينة ظلوا يتهيئون لاستقبال النبي عليه الصلاة والسلام أياماً كثيرة يخرج شبابهم وأطفالهم إلى ثنيّات الوداع لاستقبال النبي صلى الله عليه وسلم ، ولما أن وصل عليه الصلاة والسلام إلى المدينة رحّبوا به بأنشودتهم وأهازيجهم ونشيدهم الذي لا يزال على ألسنتنا إلى هذه الأيام:
طلع البدر علينا :::من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا (وجب علينا شكر الله):::  ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا ::: جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة:::  مرحباً يا خير داع
هكذا بدأت الهجرة أيها الإخوة، إنها انتقال نور النبوّة، إنها توسعة لآفاق الدعوة الإسلامية، فبعد أن ظلّ النبي عليه الصلاة والسلام يدعو إلى الله تعالى ويثبت العقيدة –عقيدة التوحيد- ويحارب الشرك وعبادة الأصنام ويطرد الوثنية والأوثان ، انتقل إلى المدينة المنورة لينطلق من هناك بآفاق واسعة رحبة فيجهز الجيوش للفتوحات الإسلامية ويبني المساجد ليجمع كلمة المسلمين، ويكتب الوثيقة ليضع الدستور الإسلامي لهذه الأمة، كيف يتعامل المسلمون مع بعضهم، كيف يتعامل المسلمون مع أبناء الديانات السماوية الأخرى، ما هي الضوابط وما هي القوانين وما هي الأنظمة التي تحكم معيشة هؤلاء ، ما هو الحق وما هو الباطل، وما هو التشريع الذي يأتي من السماء ويتنوع على حسب الوقائع والنوازل. هكذا نفهم معنى أن ننتقل من عام هجري جديد إلى عام آخر حيث تحيا في نفوسنا رسالة الإسلام. حيث نحيي في قلوبنا انتماءنا لهذا الدين، ومحبتنا لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وسعينا لاتباع سنته وللالتزام بتوجيهاته وتعليماته، وإلا فلا نكون مسلمين حقيقيين إنما نكون مسلمين بالهوية فقط. ويا للأسف أيها الإخوة نحن في عصر بدأ بعض الناس ينتزعون من الإسلام حتى من الهوية وحتى من الانتساب ولو بالاسم لأن بعض أعمالهم وأفعالهم في بونٍ شاسعٍ عن حقيقة الإسلام وعن جوهره وعن روحه وعن الأخلاق التي جاء بها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي تكفل لهذه الأمة حياة مدنية سعيدة بعيدة عن الاضطراب والفوضى وبعيداً عن إراقة الدماء ، وبعيداً عن تشريد الأبرياء ، وبعيداً وبعيداً عن كل المعاني التي تعيشها الإنسانية في عصر التقدم التقني وثورة المعلومات والاتصالات ، إلا أننا معرفياً وعقائدياً وسلوكياً في تراجع خطير وهذا ما يدعونا إلى أن نذكر بهذه المناسبات العظيمة كمناسبة الهجرة كيف أنها كانت فتحاً عظيماً للأمة الإسلامية، وكيف بدأ الإسلام ينفذ طريقة جديدة من خلال المدينة المنورة وهناك بوابات متسعة انفتحت من المدينة المنورة: بوابةٌ نحو اليمن، بوابةٌ نحو الشام، بوابةٌ نجو العراق، بوابةٌ نحو أفريقا، بوابةٌ نجو أوربة ، بوابة إلى المحيطات والبحار انطلقت كلها من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان هذا المسجد النبوي جامعةً بكل ما تعني كلمة الجامعة من معنى: جامعة للثقافة والعلم، جامعة لتربية الأخلاق وتربية السلوك، جامعة لوحدة الصف ولم الشمل وتقوية أواصر المحبة بين المسلمين.
ما أعظم حدث الهجرة أيها الإخوة عندما نقرأه قراءةً صحيحة نستنتج من معانيه ونستنتج من عظاته وعبره الدروس التي نحتاجها في حياتنا اليومية.
ولعلنا نقف أيها الإخوة عند بعض المعاني التي تدل عليها كلمة الهجرة:
وأولها على الإطلاق هجرة الذنوب والمعاصي... بمعنى أن نتركها وأن نتخلى عنها. فالله سبحانه وتعالى يقول في سورة المدثر وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ .. الرجز أي الآثام والذنوب والموبقات والزلات.. فاهجر أي اترك وابتعد عنها... وهذا من أعظم معاني الهجرة.
يقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم:" الْمُسْلِمُ مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ , وَالْمُهَاجِرُ مَنْ يَهْجُرُ مَا نَهَى اللَّهُ عَنْهُ "
لا هجرة بعد فتح مكة ، لم يعد هناك هجرة بمعنى ترك الوطن ، لأن البعثة الإسلامية ونور النبوة عمَّ وانطلق وأصبح في كل بقعةٍ من هذه الأرض. إنما هناك هـَجْرٌ للذنوب، إنما هناك هجرة بمعنى ترك الذنوب وبمعنى تجديد العهد والانتماء لهذا الدين، وبمعنى أن يكون للمسلمين بصمةٌ في كل زمان.. أن يتركوا لهم بصمات كما ترك المسلمون الأوائل بصمات.. وإذا أراد كل منا أن ينظر إلى نفسه، أنا كشخص، كفردٍ في هذا المجتمع في هذه الأمة، ما هي البصمة التي تركتها في خدمة هذا الدين، في خدمة هذه الأمة ؟
 لو سأل كل منا نفسه ما هو الأثر الذي أتركه عندما أموت وأغادر الدنيا؟ هنا أيها الأخوة ندرك حقيقة معنى الهجرة بمعنى أنها هجر للذنوب والآثام والمعاصي وتجديد للعهد في طاعة الله سبحانه وتعالى. وانتماءٌ حقيقي لهذا الدين، وإعلان جديدٌ أنني منذ اليوم أعاهد الله تعالى أن افتح صفحة جديدة..
فعندما نؤرخ في بداية العام الهجري في 1 محرم فنقول 1- 1- 1433 1434 1435 إذاً هناك صفحة جديدة تُفتح كل عام، وحرِيٌّ بكل مسلم أن يفتح صفحة جديدة في صلته مع الله، في علاقته مع الله وصلة قبله به .
المعنى الآخر الذي نفيده من الهجرة النبوية الشريفة: هجر المشركين، هجر أعداء الدين، هجر من يقف في وجه الإسلام والدعوة الإسلامية، بمعنى أن نتركه ونُعرض عنه وما أكثر ما ينبغي أن نهجره في زماننا مِن ما يجعلنا نُعرِض عن كتاب الله، وسنة رسول الله، والتردد على المساجد وبيوت الله وطلب العلم لأجل الله وفي سبيل الله.. هناك أشياء كثيرة من الملهيات التي تحتاج إلى هجرة.. من المشكلات التي ينبغي أن نهجرها، من الأشخاص الذين يبعدون عن الله تعالى، وقد خاطب الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وسلم وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا أي اترك الأشخاص الذين يبعدونك عن الله ويصرفونك عن الدعوة واترك كل ما يشغلك عن الإقبال على الله سبحانه وتعالى من أمور الدنيا.
ولنقرأ في القرآن الكريم في مواضع ثلاثة جاء فيها مصطلح "الجميل":
قال الله تعالى: وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا قال العلماء الهجر الجميل هنا هو الهجر الذي لا أذى معه ، أي إذا قاطعت رجلاً لله غضبت منه لله، هجرته لله، فلا تسئ له، لا تقع في عرضه، لا تخونه، لا تتهمه، واهجره هجراً جميلاً لا أذىً معه.
وأما الموضع الثاني فيقول الله تعالىفَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ والصفح الجميل هو العفو الذي لا عتاب معه... إذا صفحت وعفوت عن شخص ما فلا تعاتبه ولا تمنّ عليه أنك عفوت عنه.. اعف عنه واتركه لله وستجد أن آثار هذا العفو ستنعكس عليك إيجاباً وستنعكس عليك بشكل يعيد النظر في علاقته بك وصلته معك.. فاصفح الصفح الجميل الذي لا عتاب معه
وأما الموضع الثالث فهو قول الله تعالى فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والصبر الجميل كما قال العلماء هو الذي لا شكوى معه، إذا ابتليت ببلاء، إذا وقعت في محنة، إذا وقعت في أزمة وصبرت وألهمك الله الصبر فلا تشكُ محنتك لأحد.. بل ارفع حاجتك إلى الله واشكُ أمرك إليه وأنزل حاجتك على أعتابه وعلى بابه فلن يفرج أزمتك ولن يخرجك من ضيقك إلا الله.
ولنقرأ في السيرة النبوية الأزمات والشدائد التي تعرض إليها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.. أين أنزلها؟ بباب من وضعها ؟ من سأل تفريجها ؟
 وأشد أزمة وقع فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما ذهب إلى الطائف يرجو نصرة قومها ثقيف وعاد مخذولاً مطروداً مرمياً بالحجارة تسيل الدماء من أعقابه الطاهرة.. لم يكن منه إلا أن رفع يديه إلى السماء وقال : " اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس.. اللهم أنت ربي ورب المستضعفين.. إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني أم إلى قريبٍ ملكته أمري.. إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي " .
يا أيها الإخوة: أزماتنا، شدائدنا، ضيقنا.. لماذا نعرض عن باب الله؟ لماذا نهجر هذا الباب.. الباب الواسع العريض ونطرق أبواب البشر؟ والبشر لا ينفعون ولا يضرون.. مثلنا. لماذا نترك الالتجاء إلى الله في السَّحَر لتفريج كرباتنا وإنقاذنا من أزماتنا وتخليصنا من شرور أنفسنا ؟ لماذا لا نطرق باب الله ؟ لماذا لا نضع حوائجنا على أعتاب الله سبحانه وتعالى؟
في قوله : إليك أشكو ضعف قوتي.. دخل النبي على ربه سبحانه وتعالى من باب الضعف، من باب الذلة، من باب المسكنة، من باب التواضع.. ثم شمل معه المستضعفين ، أنت ربي ورب المستضعفين من أمثالي الذين لا قوة تحميهم.
إليك نرفع حوائجنا وختم الدعاء بتوحيد خالص لله وبرضا عن الله ، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي. المهم رضا الله.
أيها الإخوة: ألسنا في زمنٍ بدأنا نبحث فيه عن رضا الناس ولا نبحث فيه عن رضا الله؟ ألا نريد أن نصارح أنفسنا؟ إننا كثيراً ما نبحث عن رضا أشخاص مثلنا، عن رضا زعامات وقياداتٍ ولا نفكر برضا الله سبحانه وتعالى.. نبحث عن رضا الناس وعن ما يثير أهواءهم وعن ما يحرك مشاعرهم ونعرض عن رضا الله سبحانه وتعالى.
إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي.. أيها الإخوة لعل هذا المعنى من أعظم المعاني التي تطرق أبوابنا، تطرق أبواب قلوبنا وعقولنا لنتحرك في سبيل الإقبال على الله سبحانه وتعالى والإعراض عن ما سواه. ولعل هذا من الدروس العظيمة.. الدروس المفيدة التي نختم بها حديثنا عن هجرة النبي صلى الله عليه وسلم.
اللهم وفقنا للعمل الصالح. اللهم إنا نسألك أن نهجر ذنوبنا. اللهم فاستر لنا عيوبنا وفرج عنا همومنا ونفّس عنا همومنا.. إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير..
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم
فيا فوز المستغفرين.